متى يكون الإنسان ميتاً؟!

متى يكون الإنسان ميتاً؟!

أحيانا نقرأ أو نسمع أن إنساناً فارق الحياة, فبكاه أهله وذووه, وكفنوه وودعوه, وعندما هموا بمواراته التراب إذا به يعتدل جالسا ويتساءل في دهشة عما يجري حوله! وأطرف من ذلك, أن نقرأ أو نسمع عن ذلك الميت الذي راح يدق جوانب نعشه في هلع, مما أثار حيرة المشيعين وابتعث دهشتهم, واضطر الركب إلى التوقف عن المسير واستجلاء الأمر. وحين فتح النعش, قفز (الساكن المسكين) غاضباً ساخطا مستنكرا ما يجري! كيف يمكن لمثل هذه الأحداث أن تقع?! وما هو تفسيرها?! العوام من الناس يقولون بحدوث (معجزة) أو وقوع (كرامة)! فهل يقول العلم مثل ذلك?!

لو سألت إنساناً, بغض النظر عن ثقافته, ما هو الموت? لأجاب ببساطة: إنه توقف القلب عن النبض. أو ربما كانت الإجابة: إن الموت هو انقطاع التنفس. ولعل المجيب يتحرى دقة أكبر فيجمع توقف القلب عن النبض وانقطاع النفس من الصدر معا!

إلى سنوات قليلة خلت, كان هذا التعريف البسيط للموت هو السائد في الأوساط الطبية! فلأزمان متطاولة كان تعريف الوفاة هو: توقف القلب وانقطاع النفس وسكون الحركة في سائر الأعضاء.

ولم يكن تعريف الوفاة المذكور مقصورا على أطباء الأزمان الماضية. بل أقرهم على ذلك رجال الدين ورجال القضاء (القانون)! فلم يكن إعلان الوفاة مقبولا دينيا, ولا مستساغا قانونيا, حتى ينقطع نفس الحياة عن التردد في الصدر, ويتوقف القلب عن النبض, وتخمد الحركة في سائر الأعضاء.

ولا لوم ولا تثريب على القوم فيما ذهبوا إليه. فقد كان ذلك الفهم أقصى ما في وسع المعرفة الطبية تقديمه في ذلك الزمن, وإلى زمن غير بعيد!

على أن تقدم المعرفة الطبية أدى إلى معرفة ووصف الحالة المسماة (الإغماء العميق) (deep coma). وقد وصفت هذه الحالة باديء الأمر على أنها نتيجة لإصابات الرأس أو التسمم. ثم تبين مع مزيد التقدم الطبي أن الإغماء العميق قد يحدث لأسباب شتى, مثل الانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم, ومثل انخفاض ضغط الدم, وانخفاض نسبة سكر الدم (الجلوكوز), فضلا عن السببين المذكورين سلفا, وفضلا عن أسباب أخرى تتعلق بوظائف الكبد والكليتين, وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا.

والمصاب بالإغماء العميق قد يعود إلى الوعي (إلى الحياة) وقد لا يعود. ونتيجة الموقف النهائية مرهونة بعدة عوامل من بينها حالة المصاب الصحية العامة, وسبب الإغماء, ونوع المساعدة الطبية التي يتلقاها. ومن بين كل هذه العوامل, يكون لـ (توقيت) تقديم المساعدة الطبية أهمية خاصة.

والمصاب بالإغماء العميق لا ينبض قلبه, ولا تتردد أنفاس الحياة في صدره, ولا تتحرك أعضاء جسمه. وبالمفهوم القديم للوفاة يكون هذا الشخص ميتاً! وعلى ذلك يتم تجهيزه للرحيل عن هذه الدار. بيد أن مفاجأة قد تحدث, حين يسترد ذلك الشخص وعيه, فيقال إنه عاد إلى الحياة! والحقيقة أنه لم يفارق الحياة أصلا!

على أن رجوع الوعي إلى المصاب بالإغماء العميق, دون تدخل طبي, أمر نادر الحدوث. وهذا هو السبب وراء قلة عدد الذين عادوا إلى الحياة بعد فراق قصير!

ويجب أن ننوه هنا إلى أن (الإغماء العميق) حالة تختلف عن (الغيبوبة) (أو (فقدان الوعي)). unconsciousness ففاقد الوعي ينبض قلبه, ويمكن إثارة الحركة في أعضـائه باستخدام منبهات من الخارج وما هكذا الحال مع مصاب الإغماء العميق.

أيا ما كان الأمر, فإن التقدم الطبي الذي مكن من فهم حالة (الإغماء العميق), لم يحل معضلة تعريف الوفاة, بل زاد الأمور تعقيدا! فإذا كان توقف القلب عن الخفقان, وانقطاع النفس من الصدر ليس علامة على الموت, فما هي العلامة إذن?! وكيف يمكن والحال كذلك, الحكم على إنسان بأنه ميت, سواء من وجهة نظر الطب, أو من وجهة نظر الدين والقضاء?!

أجهزة دعم الحياة

تفاقمت الحيرة حول تعريف الوفاة, حين ابتكر الإنسان أجهزة ووسائل جديدة لعلاج حالة (الإغماء العميق). وعلى الرغم من أن تلك الأجهزة والوسائل ولدت في مطلع الخمسينيات من القرن (الميلادي) فإنها تطورت بسرعة تطورا مذهلا, فصار منها ما يمكن أن يقوم بعمل القلب فيضخ دماء الحياة إلى سائر أجزاء الجسم, ومنها ما يقوم بعمل الرئتين فيدفع غاز الأكسجين داخل الصدر بتركيز دقيق عند ضغط محسوب.

وفي غضون سنوات قلائل, اتسع نطاق استخدام (أجهزة دعم الحياة) ـ كما تسمى في الحقل الطبي ـ وتنوعت أنواعها وتعقدت, بحيث صارت تتطلب درجة عالية من التخصص الطبي ومهارة التشغيل!

وتوجد أجهزة دعم الحياة في وحدات متخصصة في المستشفيات الكبرى, تعرف باسم (وحدات العناية الفائقة) (ICU) (أو وحدات العناية المركزة) أو غير ذلك من التسميات التي تؤدي نفس المعنى. وفي هذه الوحدات يمكن نظريا المحافظة على الحياة إلى أمد غير محدود!

هنا ثار جدل جديد, وأطلت حيرة لم تكن واردة من قبل: إذا كان في وسع الطب الحديث أن يحافظ على الحياة في جسد ممدد, باستخدام أجهزته ووسائله, فهل هذه هي الحياة?! وإذا استمر إنسان في التقاط أنفاس الحياة من هاته الآلات, واستمر قلبه يخفق بعون تلك الماكينات, ودام الحال كذلك زمنا غير محدود ـ كما هو مفترض نظريا ـ فمتى يمكن اعتباره ميتا?!

من حسن الطالع أن أجهزة دعم الحياة أجابت بنفسها عن تلك التساؤلات! فقد اتضح عمليا أن جسم الإنسان يستجيب لهاته الآلات العجيبة وقتا معينا, يطول أو يقصر من إنسان إلى آخر. فإن كان لإنسان بقية عمر, عاد إلى الحياة متوكئا على أجهزة دعم الحياة. وإلا, فإن أعضاء الجسم تتوقف عن الاستجابة لتلك الأجهزة فيما يسـمى (حالة عصيان) refractoriness! ومعنى ذلك امتناع الحياة عن سائر أعضاء الجسم وأجـهزته, على الرغم من استمرار اتصال الجسم بأجهزة دعم الحياة!

زراعة الأعضاء

بدأ فصل جديد في قضية تعريف الوفاة أو تشخيص الموت, مع ميلاد جراحة زراعة الأعضاء! ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي (الميلادي) زاول الإنسان لأول مرة في تاريخه المعروف, جراحة زراعة الأعضاء.

وقد جلب هذا النوع من الجراحة فيما جلب, كثيرا من الضجيج والإثارة واحتدام الآراء. فمن ضرورات هذا النوع من الجراحة أن يكون العضو المزروع (حيا). أي, بالتعبير الطبي, أن تكون الدورة الدموية لاتزال جارية في العضو المراد زراعته. وتعليل ذلك أن الأعضاء الميتة إذا زرعت في الجسم الحي, فإنها تتعرض للرفض بنسبة أعلى بكثير من الأعضاء الحية. وتعبير (الرفض) rejection يقصد به عدم قبول الجسم الحي للعضو المزروع فيه.

وظاهرة الرفض تعني ضمنا فشل الجراحة, وتعني كذلك أن الجسم المستقبل سيموت في العاجل, ما لم يستخرج العضو المرفوض أو تكبح ظاهرة الرفض بوسائل علاجية مختلفة.

وعلى ذلك, فإذا أريد لجراحة زراعة الأعضاء أن تنجح, فلابد من توفير العضو المراد زراعته ودماء الحياة لاتزال جارية فيه. وعند استيعاب هذا الشرط, فإن ما يتبادر إلى الذهن هو أن معجزة زراعة الأعضاء ليست إلا (مجزرة) باسم العلم, تقطع فيها أعضاء الإنسان بدعوى إنقاذ إنسان آخر من براثن المرض! فهل هذا جائز أو مقبول?!

الجواب بطبيعة الحال: لا! ولعل استعادة أحداث تلك الفترة الزمنية التي شهدت ميلاد زراعة الأعضاء تشير إلى المنحنى الخطير الذي وصلت إليه قضية تعريف الوفاة. ففي ذلك الأوان ثارت ثائرة رجال الدين ورجال القضاء, واهتز الرأي العام في كل مكان, حتى في بلدان لم تكن تعرف عن جراحة زراعة الأعضاء أكثر من عناوين عريضة في الصحف!

موت المخ

هنالك اتضح أن حسم معضلة تعريف الوفاة بات ضرورة قصوى. ولسنا نعرف على وجه الدقة إلى من يعود الفضل في حسم الخلاف والجدل حول قضية وقف الإنسان حيالها حائرا زمنا غير قصير. فقد جاء الفصل الختامـي في هذه القضية مقبولا ومستساغا لدى جميع الأطراف, وذلك حين توصل الأطباء إلى أن الإنسان يموت حين يموت مخه, وليس حين يتوقف قلبه عن الوجيب, ولا حين ينقطع النفس عن التردد بين حـنايا صدره!

وقد ثبت بالتجربة العملية, ومن الخبرة الطبية, أنه متى مات المخ فلا أمل في عودٍ إلى الحياة, حتى وإن بقي القلب ينبض, وحتى إذا استمر النفس يتردد بين الضلوع! كما ثبت بالدليل القاطع أن القلب يمكن أن يستمر في النبض بـ (آلية ذاتية) automaticity , بعد موت المخ, مدة تصل إلى نصف ساعة, أو أقل أو أكثر قليلا!

ويمكن الكشف عن موت المخ باستخدام جهاز (رسام المخ الكهربي) (الذي يعرف اختصارا بحروف الإنجليزية EEC). وتقوم فكرة هذا الجهاز على أساس أن العمليـات الكيميائية الحيوية المختلفة التي تقع في المخ نتيـجة قيامه بأنشطته المختلفة, تؤدي إلى انطلاق شحـنات كهربائية. ويمكن التقـاط هذه الشحـنات من على سطح الرأس, بواسطة جهاز (رسام المخ الكهربي) الذي يترجمها إلى رسوم (موجات) على ورق.

ولما كان المخ مستمرا في العمل دون انقطاع طوال الساعات الأربع والعشرين كل يوم, طوال حياة الإنسان, فيمكن تسجيل نشاط المخ الكهربي في أي وقت من ليل أو نهار. فإذا كان هناك نشاط كهربي, يكون المخ ـ وبالأحرى صاحبه ـ على قيد الحياة. وإن كانت الأخرى فيمكن إعلان الوفاة في اطمئنان تام.

وقد أدى المفهوم الجديد للوفاة إلى حل مشكلة زراعة الأعضاء. إذ عند موت مخ أحد المتطوعين, يمكن استئصال العضو المراد زراعته بينما دماء الحياة لاتزال جارية فيه!

وتحسبا لأي محاذير أو أخطاء في تشخيص الموت, فقد رأت الأوساط الطبية ألا يكتفى باستخدام جهاز رسام المخ الكهربي وحده. فأضافت إلى ذلك ضرورة التأكد من موت المخ بالطرق الإكلينيكية التقليدية قبـل اعلان وفاة أي إنسان. ووضعت لذلك قائمة اختبارات تعرف مجتمعة باسم (اختبارات موت المخ).

وتعتمد هذه الاختبارات على التأكد من انعدام الوظائف الجسدية التي تتحكم في أدائها الأعصاب المخية و(الأعصاب المخية) (cranail nerves) شق من الجهاز العصبي الذاتي الذي يحكم أنشطة الجسم الداخلية.

والعرف الطبي السائد اليوم, أن يقوم طبيبان ـ كل على حدة ـ بإجراء اختبارات موت المخ قبل إعلان الوفاة. وهذه الطريقة تضمن عدم الوقوع في أخطاء في تشخيص الموت.

وخلاصة ما تقدم أن المفاجأة برجوع عدد نادر من الناس إلى الحياة بعد فراق قصير ليس فيها (معجزة) ولا (كرامة)! والأرجح أن هؤلاء الناس كانوا في حالة إغماء عميق لسبب أو لآخر. أي أنهم لم يفارقوا الحياة أصلا!

 

عبدالرحمن عبداللطيف النمر