الحفيد والجد يوسف الشاروني

  ذات يوم كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في منزل لأسرة ابنتي، حيث تعودت أن أسعد بالحديث واللعب مع حفيدتي التي أشرفت على الرابعة. كانت تبهرني بمحصولها اللغوي الذي لا بد أن تكون قد التقطته من بيئتها: مما تسمعه من حولها أو من برامج التليفزيون، وبطريقة نطقها الممتعة: تقديمها أو تأخيرها لحروف الكلمات، أو لكلمات جملها القصيرة المعبرة. فأنتم تعرفون كم يكون ذكاء الأطفال وتلقايئتهم وبراءتهم في تلك السن المبكرة، وكيف يكونون أقدر على ملاحظة دقائق تفوت علينا نحن الكبار.

بعد تناول الغداء أحببت - كعادتي - أن أغفو قليلا. تسللت نورا إلى غرفة النوم ورائي وهي تحتضن إحدى عرائسها. أستأذنتني في ابتسام وهي تهز رأسها كأنما يحرجها ما تطلب:

- ممكن يا جدو أنام بجانبك؟

- على شرط أن تنامي في هدوء.

- طيب ممكن أحكي حكاية لعروستي ميريت حتى تنام أولا؟

.. وكأنما لتحول دون اعتراضي - وقبل أن أفكر في الإجابة - استأنفت حديثها بتقديم رشوة ذكية دون مقدمات:

- أنا أحبك جدا يا جدو.

- وأنا أيضا يا نورا.

على صوت حديثنا أقبلت أمها. عبثا حاولت أن تقنعها بالعدول عن رغبتها. تعلم أنها ليست جادة في الرغبة في النوم، وأنها قد تضيع علي فرصة راحتي. نورا تشبثت بل استنجدت بي. رجوت أمها أن تدعها:

- ليس مهما أن أغفو، يكفي أن استرخي قليلا.

- على راحتك، لكنني حذرتك.

استلقت نورا بجواري، بيننا أرقدت عروستها الصغيرة ذات الشعر الذهبي والعينين الداكنتي الرموش تفتحهما حين تجلسها وحين توقفها محدثة صوتا لا هو بالأنين ولا الضحك، وتغلقهما وتصمت حين تجعلها تستلقي على ظهرها. ثم بدأت تقص عليها قصصا مثلما تفعل معها أمها كل مساء قبل النوم.

حاولت عبثا أن أستغرق في النعاس. صوت نورا كان مرتفعا وهي تروي ما تؤلفه من قصص على عروستها. طلبت منها أن تخفض صوتها قليلا حتى أستطيع النوم. سمعتها تواصل حكاياتها بصوت أكثر انخفاضا فعلا لكنه كان لا يزال مسموعا بحيث يقلقني. عدت أطالبها بمزيد من خفض صوتها. استأنفت وراياتها بصوت لا بد أنها تصورته أكثر انخفاضا، لكنه كان يا الحقيقة لا يزال مرتفعا بما يكفي لعدم إتاحة الفرصة لي لأغفو. للمرة الثالثة رجوتها:

- يا نوار يا حلوة، صوتك لا يزال مرتفعا، ممكن تخفضينه أكثر؟

أجابت الحفيدة في صوت يجمع بين التساؤل والحيرة والاحتجاج:

- لكن إذا أخفضت صوتي أكثر من ذلك، كيف تسمعني ميريت إذن!

ابتسمت وقبلتها وقبلت عروستها، وأسلمت أمري لله ولها. وحتى لا يضيع وقتي تماما حاولت أن أصغي لما ترويه حفيدتي. وهكذا أصبحت نورا تحكي قصصها بأسلوبها المبتكر الخاص بها: لعروستها ولجد أشرف على السبعين.