اليورانيوم المستنفد.. خطر يتفاقم

اليورانيوم المستنفد.. خطر يتفاقم

في الوقت الذي تتزايد فيه حوادث الطيران في شرق العالم وغربه تجدر الالتفاتة إلى كوارث اليورانيوم المستنفد لدى احتراقه ومخاطره الكبيرة بحق الإنسانية, خاصة وأنه يمثل جزءا لابد منه في صناعة الطائرة.

إن تفشي حالات مرضية بين الذين تعرضوا له يفتح الطريق واسعا أمام إعادة النظر في حقيقة المخاطر الصحية لليورانيوم المستنفد, ويفتح أيضا ملف استخدامات هذا المعدن المشع في المجالات الحربية والمدنية, مثل الطيران المدني, خشية أن تتحول حادثة طيران عادية إلى كارثة صحية للناجين ولسكان مناطق الحوادث بسبب استخدام اليورانيوم المستنفد في أسطح التحكم في الطائرات.

وينتج اليورانيوم المستنفد من عملية تحويل اليورانيوم الطبيعي لاستخدامه كوقود ذري أو في إنتاج الأسلحة الذرية, ويعتبر أقل إشعاعا من اليورانيوم الطبيعي بنسبة 40 في المائة. واليورانيوم المستخدم في مضاعفة قوة اختراق الذخائر الحربية لأهدافها, يستخدم أيضا على نطاق واسع في الصناعة المدنية, وبشكل رئيسي في أسطح التحكم في الطائرات والسفن نظرا لثقله الكبير مقارنة بالمعادن الأخرى. ولتقوية فعالية الجنيحات المتصلة بجناحي الطائرة وأسطح التحكم في الذيل, يتم وضع أثقال موازنة, والمعدن المثالي في هذا المجال هو التنجستون, لكن يتم استخدام اليورانيوم المستنفد حيث تقترب خواصه وكثافته من التنجستون. وأشار تقرير للجنة الأمريكية للتنظيم النووي في ديسمبر 1999 إلى وجود نحو 430 طائرة عاملة على الخطوط الجوية تستخدم اليورانيوم المستنفد في أسطح التحكم.

وتتصف المعادن الثقيلة (مثل اليورانيوم, الرصاص, والتانجستين) بالسمية الكيماوية التي قد تسبب, في حالة ارتفاع الجرعات, تسمما ومشاكل صحية.

وتتضمن المشاكل الصحية لليورانيوم المستنفد مخاطره الإشعاعية حيث يشع جزيئات ألفا وبيتا وأشعة جاما, ويتعرض الجلد لتأثيرات جزيئات ألفا, وتحجز الملابس العسكرية تأثيرات جزيئات بيتا, لكن أشعة جاما طاقة خالصة يمكنها الاختراق.

ويتم استخدام اليورانيوم المستنفد ككتلة موازنة في أسطح التحكم في عدد كبير من طرازات الطائرات, من دوجلاس دي. سي 10 وكي. سي 10 إلى البوينج 747, لوكهيد إل 1011, سي 141, سي 130, وسي 5 إيه. ويستخدم أيضا في أوزان ريش محركات الطائرات المروحية, وهذا شيء طبيعي جدا نظرا للكثافة العالية لليورانيوم (متر مكعب واحد من اليورانيوم يزن 19 طنا), أي نحو 1,7 مرة تقريبا ضعف الرصاص. وكانت هذه الخاصية كافية لاستخدامه من بداية الستينيات في كتل الموازنة للأجزاء المتحركة في ذيل وجناحي الطائرة, في أسطح التحكم, خاصة في أجهزة القيادة والجنيحات. ورغم صغر حجم أسطح التحكم والجنيحات تعتبر مهمة في الطيران وتحتاج إلى أوزان لزيادة فاعليتها. وتتراوح أوزان هذه القطع في البوينج 747 بين مئات الكيلوجرامات وأكثر من 07 كيلوجراما.

بداية الخطر

لا تعتبر كتلة من اليورانيوم المستنفد خطيرة في حد ذاتها, لكن تحولها إلى غبار, في حالات حوادث الطائرات, يجعلها قابلة للاستنشاق والدخول إلى المعدة, لتصبح مادة إشعاعية سامة تسبب الإصابة بالسرطان وسما كيماويا ضارا للكلى. وعند استنشاق جزيئات هذه المادة تتسرب إلى الرئتين وتنتقل إلى الدم وتسمم كل أعضاء الجسم, خاصة العظم. وعند دخول هذه المادة إلى المعدة, يتم إفرازها في البول بكميات كبيرة, لكنها قد تعبر حاجز الجهاز الهضمي المعوي. ومع تماس اليورانيوم مع الخلايا يجعلها مشعة ويدمر بشكل خاص جزيء المادة الوراثية DNA.

ويقول عالم البيولوجيا البلجيكي بيير بيرارت من جامعة مونس هينو إن بعض الخلايا تموت في هذه الحالة ويستطيع بعضها إعادة إصلاح المادة الوراثية لكن البعض الآخر يتحلل إلى خلايا مسببة للسرطان.

ومع احتراق اليورانيوم المستنفد في حوادث الطائرات عند درجات حرارة مرتفعة, يتأكسد اليورانيوم ويظل معلقا في الهواء في منطقة الحادث أو تنقله الريح وتحركات المركبات, أي يصبح قابلا للاستنشاق.

وعند اصطدام طائرة بالأرض في حادث, لا تكفي هذه الصدمة لاشتعال معدن اليورانيوم, لكن توابع الحادث مثل اشتعال خزان الوقود, تكون كافية لأكسدة اليورانيوم. وتكون عملية الأكسدة سريعة أو بطيئة تبعا للحرارة الناجمة عن الحادث وتبعا لكمية الأكسجين التي تغذي الحريق (وتتناسب هذه الكمية مع قوة الريح).

القائمة السوداء

ولا تقتصر القائمة السوداء لليورانيوم المستنفد على اتهامه بأنه كان وراء أمراض غامضة نجمت عن حرب الخليج وحرب البلقان وتهدد الفلسطينيين بسبب استخدام إسرائيل قذائف اليورانيوم المستنفد, بل تشمل أيضا الشكوك الصحية التي أحاطت بعدد من حوادث الطيران المدني بدأت عام 1983 بحادثة لطائرة تابعة لشركة دوجلاس أدت إلى مقتل شخصين وجرح آخرين بجروح شديدة.

وتشير اختبارات البحرية الأمريكية ووكالة أبحاث الفضاء الأمريكية إلى أن درجة الحرارة الناجمة عن حوادث الطائرات قد تتخطى 1100 درجة مئوية, أي أعلي بكثير من درجة 500 التي يبدأ عندها اليورانيوم المستنفد في الاشتعال البطيء على هيئة دخان, مما يؤدي إلى تعرض الركاب وطاقم الطائرة الناجين والسكان في منطقة الحادث إلى التلوث الإشعاعي عند تنفسهم أدخنة أكسيد اليورانيوم.

وظهرت مخاطر اليورانيوم المستنفد في مجال الطيران المدني بعد حادثتين الأولى لطائرة بوينج 747 لشركة العال في1992 في أمستردام والثانية لشركة الطيران الكورية في 1999 بالقرب من لندن.

وفي الحادثتين كان وجود اليورانيوم المستنفد مؤكدا, وطالت النيران مئات الكيلوجرامات من هذا المعدن.

وكانت الطائرة البوينج قد تحطمت في الرابع من أكتوبر 1992 قبل الهبوط مباشرة فوق عمارة في أحد أحياء ضواحي أمستردام, ونتج عن الحادث وفاة 74 شخصا أغلبهم من سكان العمارة. وتضافرت أكاذيب السلطات المحلية, بعد الحادث بأن اليورانيوم المستنفد ظل على هيئته المعدنية ولم يحترق, مع إخفاء شركة الطيران معلومات حول ما كانت تحمله الطائرة (190 لترا من غاز السارين السام), مع عدم توافر تعاون بين عدد من الأطراف المرتبطة بالطائرة وحمولتها, فضاعت حقيقة دور اليورانيوم المستنفد في الإصابات المرضية التي ظهرت بعد ذلك في مكان الحادث. وأصيب عدة آلاف من سكان المنطقة ورجال الإنقاذ بأمراض مزمنة (غثيان, أوجاع في الرأس, اضطرابات في النوم, وأمراض عصبية مختلفة). وظل الدور الذي لعبه اليورانيوم المستنفد وغاز السارين غامضا, حتى كشفه تقرير صادر عام 1999 أشار إلى أن النيران التي شبت في الطائرة والعمارة السكنية أطلقت مزيجا من النواتج الكيماوية, وأن اليورانيوم المستنفد وجد نشطا في الهواء. ووجد التقرير علاقة مباشرة بين شكاوى المصابين وكارثة الطائرة.

ولم تكن أخطار اليورانيوم المستنفد مجهولة قبل حادث أمستردام بأربع سنوات, حيث نشرت مقالة بعنوان (مخاوف الطيران) لعالم الفيزياء الأمريكي روبرت باركير, تحذر من استخدام اليورانيوم المستنفد في أثقال الموازنة في الطائرات المدنية.

وتبعا لتقديرات اللجنة الأمريكية للتنظيم النووي في 1999, وصلت كتلة اليورانيوم المستنفد في الطائرة بوينج 747 إلى 850 كيلوجراما, وكانت هذه الكتلة تتراوح على نفس طراز الطائرة المبكر بين 324 و376 كيلوجراما, وأحيانا 499 لبعض الأجهزة الخاصة.

وأوضح متحدث باسم شركة بوينج, إثر حادث تحطم طائرة بوينج 747 الكورية بالقرب من لندن في 22 ديسمبر 1999, وكان ضمن تجهيزاتها 300 كيلوجرام من اليورانيوم المستنفد, أن أثقال الموازنة من اليورانيوم المستنفد, التي بدأ استخدامها في أوائل الستينيات ثم التخلي عنها أوائل الثمانينيات واستخدم بديل لها هو معدن التنجستون غير المشع والذي يتصف بكثافة مقاربة لليورانيوم.

وكان لليورانيوم المستنفذ خلال الستينيات والسبعينيات ميزة إذا قورن بالتنجستون, فهذا اليورانيوم لا يساوي شيئا تقريبا حيث إنه مجرد نفاية, وفي المقابل يعتبر التنجستون معدنا نادرا مرتفع السعر (150 دولارا للكيلوجرام في 1980). وكان الاتجاه العالمي تابعا للصين في هذا المجال (أكثر من 60 في المائة من الإنتاج العالمي للتنجستون) والاتحاد السوفييتي سابقا. لذلك يمكن فهم سبب تفضيل الصناعة الأمريكية المدنية والعسكرية لليورانيوم المستنفد, لكن الصين انفتحت على السوق العالمي مع بداية الثمانينيات, وعرضت روسيا للبيع مخزونها الاستراتيجي.

وبين عامي 1968 و 1981 أنتجت بوينج 551 طائرة بي 747 مجهزة بأثقال موازنة من اليورانيوم المستنفد, حسب أرقام اللجنة الأمريكية للتنظيم النووي, وبعد حادث أمستردام في 1992 أكدت الشركة الأمريكية أنها أحلت التنجستون بالتدريج محل اليورانيوم المستنفد في أولى طرازات 747, مما يفسر احتواء الطرازات الحالية على كميات أقل من اليورانيوم المستنفد مقارنة بالطرازات السابقة: 282 كيلوجراما في طائرة شحن شركة العال و300 كيلوجرام في الطائرة الكورية.

ومازال عدد كبير من الطائرات المدنية, التي تستخدم اليورانيوم المستنفد, في الخدمة ومنها حسب نفس اللجنة الأمريكية في ديسمبر 1999, 168 مكدونيل دوجلاس دي. سي. 10, 60 لوكهيد إل 1011, و202 بوينج 747.

إجراءات وقاية

يوضح هينك فان دير كير أحد مسئولي جمعية (لاكا) الهولندية التي كشفت وجود اليورانيوم المستنفد في حادث أمستردام, سوء إجراءات الوقاية من مخاطر حوادث الطائرات المجهزة بهذا اليورانيوم, قائلا: (الدليل, لم تكن فرق مواجهة الحرائق مستعدة لمواجهة مثل هذه الحوادث بتدابير محكمة, ولم تتوافر كمامات الوقاية من الغاز, ولم يجد أحد قفازات مناسبة للوقاية). وحدث ذلك رغم أن هذه المخاطر كانت معروفة منذ وقت بعيد, حيث يشير تقرير أمريكي في 1984 إلى خطر التعامل مع اليورانيوم المستنفد باليد بعد الحوادث, وينصح بتجنب اللمس المباشر للتجهيزات التي يدخل هذا اليورانيوم في تصميمها, وتجنب استنشاق أو بلع جزيئاته.

وقال البروفيسور مالكولم هوبير عالم الكيمياء الجزيئية الشهير في جامعة سندرلاند, بعد حادث تحطم طائرة الخطوط الكورية 747: (إذا لم يتم أخذ إجراءات الوقاية في الحسبان قبل الحادث, فقد يتعرض الكثيرون لمخاطر قاتلة. وتجب حماية المتعاملين مع منتجات الحادث بشكل خاص).

ولا توجد مخاطر مباشرة من استخدام اليورانيوم المستنفد في أسطح التحكم في الطائرات المدنية, لكن الخطر مؤكد في الحوادث التي تشهد تحطم الطائرات واشتعال النيران فيها.

وللإحاطة بمدى انتشار هذه المخاطر التي تهدد حركة الطيران العالمية الراهنة, توضح الأرقام أن 40 في المائة من 1257 طائرة بوينج 747 أنتجتها الشركة تحمل اليورانيوم المستنفد, ويتعلق الأمر بتجهيزات يورانيوم بلغ عددها 551 تجهيزة خرجت من خطوط الإنتاج بين عامي 1968 و1981. وتشير لائحة حوادث طائرات بي 747 غير القابلة للإصلاح, إلى وقوع نحو 36 حادثا من هذا النوع بين عامي 1970 و2000 منها طائرة الخطوط الكورية في 1999, العال في 1992, حيث اندلعت النيران وأنتجت أكسيد اليورانيوم السام. وتوجد ضمن القائمة أيضا حادثة طائرة للخطوط الفرنسية تحطمت في 5 مارس 1999 في مدراس الهندية ودمرتها النيران تماما ولم تلتفت وسائل الإعلام لمشاكل احتراق أسطح التحكم المجهزة باليورانيوم المستنفد, وطائرة للخطوط الكاميرونية في 5 نوفمبر 2000 في باريس, وأخرى للخطوط السنغافورية في 31 أكتوبر 2000 في تايبيه في تايوان, وطائرة للخطوط الكورية في 22 ديسمبر 1999 في جريت هالنيجبرج في إنجلترا, وأخرى للخطوط السعودية في حادث 12 نوفمبر 1996 في الشارقة, وطائرة لوفتهانزا في 20 نوفمبر 1974 في نيروبي.

ويمكن رصد قائمة مماثلة لطائرات إل 1011, سي. دي. 10, هيركوليس سي. 130, وطائرات مدنية أخرى.

 

عزت عامر

 
 








جانب من مصنع بوينج 747 في سياتل يستخدم التنجستون بديلا عن اليورانيوم المستنفد في أسطح التحكم في الطائرات