تطور فن البورتريه في مصر.. ملامح خلّدها التاريخ

تطور فن البورتريه في مصر.. ملامح خلّدها التاريخ

فن البورتريه هو الأقرب إلى ذوق ونفوس غالبية الناس, فالإنسان - أيّاً كان مستواه الثقافي - يسعد برؤية ملامحه مرسومة على سطح لوحة, أو مجسّمة في تمثال. مثلما تعتريه النشوة عندما يشاهد نفسه, والصراعات التي يخوضها, تدور أمامه فوق خشبة المسرح أو على شاشة السينما.

نستطيع أن نقدّر - بكثير من اليقين - أنه ما من رسام على وجه الأرض إلا وقد سمع هذا الرجاء أكثر من مرّة... (هل ممكن أن ترسمني... لو سمحت?!).

وإذا كانت مدرسة الفنون الجميلة قد أنشئت في مصر عام 1908 على يد الأمير يوسف كمال - أحد أفراد الأسرة الحاكمة آنذاك - فليس معنى هذا أن المصريين لم يعرفوا فن البورتريه إلا مع هذا التاريخ. ذلك أن الاكتشافات الأثرية والأبحاث الدائمة تؤكد أن علاقة الشعب المصري بفن البورتريه تعود إلى مئات السنين.

وإذا نحّينا جانباً التماثيل التي تركها لنا قدماء المصريين والتي تجسّد ملوك وفراعنة العصور القديمة في منحوتات مدهشة مثل رمسيس الثاني وتوت عنخ آمون, فإننا نستطيع أن نؤرخ لبداية ظهور فن البورتريه في مصر - بمفهومه الحديث - في القرون الثلاثة الأولى للميلاد!

وسأشرح هذا الكلام توّاً.

في عام 1868 فوجئ التاجر النمساوي (تيودور جراف), الذي كان يملك محلاً للآثار والعاديات بالقاهرة, بأحد أصدقائه من المصريين يعرض عليه مجموعة من البورتريهات الغريبة التي تم اكتشافها وقتها في مقبرة قديمة توجد في منطقة الفيوم. وتلك كانت المرة الأولى التي تظهر فيها هذه الوجوه الحزينة. وسرعان ما أخذها (جراف) ليعرضها في مدن أوربا طامحاً وطامعاً في الربح الوفير, نظراً للقيمة التاريخية والفنية التي تمثلها هذه اللوحات, والتي قدرها التاجر النمساوي بحذق.

لكن (جراف) عاد إلى القاهرة من رحلته الأوربية خائباً ومخذولاً!

بعد ذلك التاريخ بعشرين عاماً, وبالتحديد في 1888م, اكتشف الأثري الإنجليزي (وليام بيتري) (1853-1942), ثمانين لوحة مصوّرة لبورتريهات عدة في منطقة (هوارة) التي تقع جنوب شرق الفيوم, ضمن مساحة ضخمة من المقابر القديمة. وبالرغم من أن الاكتشافات توالت بعد ذلك في مدن أخرى مثل الإسكندرية وقنا والأقصر, فإن اسمها الشائع أصبح (وجوه الفيوم), وكان مجموع هذه البورتريهات حوالي ألف وجه, لم يبق منها داخل مصر إلا أقل من مائة, والباقي خرج بالسرقة والتهريب والإهداءات الرسمية!

المدهش أن جميع هذه اللوحات تعود إلى القرون الثلاثة الأولى للميلاد, أي في عصر الاحتلال الروماني لمصر, وأنها وجدت موضوعة فوق مومياء الميت, بعد أن تغيّرت عادات التحنيط وطقوس الدفن عند الفراعنة, حيث كان يوضع تمثال كامل بجوار المومياء, ومع الوقت, اختزل التمثال إلى لوحة تصوّر الوجه مرسومة بألوان على سطح قماش الكتان أو خشب رقيق.

ما يهمنا في هذا الأمر أن هذه اللوحات تعد البداية الأولى لفن البورتريه وفقاً لمفهومه الحديث بامتياز! فالوجه مرسوم بألوان مازالت تحتفظ بطزاجتها, فضلاً عن أن الفنان الذي أنجزها التزم التزاماً صارماً بقوانين الظل والنور, حيث لاح لنا الوجه مجسّماً على سطح اللوحة, وهو أمر لم يكن معروفاً من قبل على الإطلاق في كل الرسوم التي تركها لنا الفراعنة, سواء كانت على جدران المقابر والمعابد الفخمة, أو فوق أوراق البردى الشهيرة!

المثير أن تكنيك الرسم هذا, هو ما اتبعه فنانو عصر النهضة أصحاب السمعة الطيبة في عالم الفنون الجميلة أمثال دافنشي ورفائيل, ومايكل أنجلو, حيث لا يظهر الوجه في وضع أمامي كاملاً كما هي رسوم الفراعنة, بل ينحرف بجسمه قليلاً جهة اليمين أو اليسار, ويلعب الحوار الآسر بين الظل والنور دوراً حاسماً في منح المشاهد شعوراً بالتجسيم, علاوة على أن منطق توزيع الضوء والعتمة في اللوحة ككل يستند إلى إنارة الوجه وإعتام الخلفية, أو العكس, مما يهب العمل فخامة وهيبة, فاقم بهما هذه النظرات العميقة والحزينة التي تطل من كل الوجوه.

الروّاد الأوائل

من أسف, أن مدرسة الفيوم اضمحلت مع نهاية القرن الثالث الميلادي, ثم انزوى تماماً فن البورتريه طوال القرون التالية, حتى أهل القرن التاسع عشر الذي يعد بحق فجر النهضة المصرية الحديثة, حيث استطاع المجتمع أن يخطو خطوات جبّارة إلى الأمام - مع محمد علي (1805ـ 1848), والخديو إسماعيل (1863ـ 1879), بعد أن ظل قروناً يكابد كوابيس العزلة والتخلف التي فرضها عليه العثمانيون والمماليك.

في عام 1891, افتتح في القاهرة أول معرض للوحات والتماثيل في مصر, وكان ذلك في دار الأوبرا الخديوية, التي تغير اسمها إلى دار الأوبرا الملكية, مع اختفاء لقب الخديو, ثم حذفت (الملكية) مع ثورة يوليو 1952, وفي عام 1971 احترقت دار الأوبرا, وضاعت من الوجود إلى الأبد! ضم هذا المعرض لوحات تمثل بورتريهات مصرية, أبدعها الفنانون الأجانب الذين فتنهم سحر الشرق, واستقروا في القاهرة يرسمون مساجدها وأحياءها وأزقتها وناسها.

وإذا كانت كل الأعمال المعروضة قد تم اقتناؤها في الحال من قبل الخديو نفسه, وباشوات زمان والأرستقراطية المصرية, فإن ذلك يعني أن المجتمع المصري كان يتوق إلى من يلبي له هذه الحاجة الجمالية التي بهرته.

لذا, لا عجب أن يلتفت المصريون إلى عالم الفنون الجميلة, خاصة أنه قد تم افتتاح معرضين آخرين في عامي 1897و 1902 بالقاهرة, ليتم تأسيس مدرسة الفنون الجميلة سنة 1908, والمدهش أنه سعى للالتحاق بها أكثر من 500 طالب! وهو رقم كبير, إذا عرفنا أن عدد سكان مصر ساعتها لم يتجاوز سبعة ملايين نسمة!

تخرج الرعيل الأول من هذه المدرسة, بعد أن تتلمذ على يد الفنانين الأجانب الذين تولوا إدارتها, وتلقين المصريين الأصول الأكاديمية لفن الرسم, لذا لا غرابة أن تسعى الأسر الثرية - خاصة نساءها - إلى تخليد نفسها من خلال لوحات يرسمها شباب الفنانين المصريين الذين تخرجوا في مدرسة الفنون الجميلة, خاصة أن أسعار لوحاتهم أرخص بكثير من تلك التي كان ينفذها الفنانون الأجانب المقيمون في القاهرة.

أثرياء... وبسطاء

هذا أحمد صبري (1889-1955) أحد الروّاد الأوائل, الذي انشغل فترة طويلة برسم الوجوه الشخصية, يصوّر لنا امرأة ريفية اسمها (غالية) في لوحة بارعة الجمال نفذها بألوان الزيت على قماش ملصوق على كرتون, حيث جسّدها في الوضع الجانبي, وهي في لحظة سكون مع النفس.

في هذا العمل, مزج الفنان بمقدرة لافتة بين رصانة الكلاسيكية وصدق الواقعية, علاوة على طزاجة ألوان المدرسة التأثيرية بلمسات فرشاتها السريعة.

وحتى لا يحرف عين المشاهد عن التأمل في هدوء (غالية), لم يشغل الرائد الكبير باله - ولا بالنا - بعمل خلفية محددة, بل اكتفى بمساحة لونية محايدة, تبرز ملامح وجه بطلة اللوحة وملابسها المحرومة من الزخارف والتفاصيل الدقيقة, حتى يتسنى للمتلقي أن يكثف نظرته كلها على الوجه الريفي الجميل, خاصة أن أحمد صبري امتاز بمهارة لافتة في إجراء حوار خلاّب بين الظل والنور, لا تغيب عنه فطنة المتلقي.

أما الفنان محمد حسن (1892-1961), فقد قام برحلات مكوكية منتظمة بين الطبقات المصرية من دون كلل, يصطاد من الأرستقراطية أجمل الوجوه وأعذبها, ومن الطبقة الشعبية أكثر الوجوه تعبيراً عن حكمتها وتقاليدها وعاداتها.

في بورتريه للسيدة (زينب عبده) المرسوم بألوان الزيت على الكرتون, تتجلى قدرات محمد حسن في اقتناص الحالة النفسية لبطلة اللوحة, التي تشير ملامحها إلى أنها (بنت ذوات)! وأن جذورها قد تعود إلى أصول تركية, نظراً لنضارة البشرة والشعر الأصفر الممشط بعناية.

انحاز محمد حسن في هذا العمل - المنفذ وفق قوانين المدرسة الكلاسيكية الحديثة - إلى الحفاوة بثراء السيدة, فالثياب غالية الثمن, والوجه مشرق, والفم مطعّم بأحمر شفاه ساخن, واليد اليمنى مزدانة بخاتم أحمر أيضاً, ليصنع إيقاعاً حيوياً مع ثيابها التي استقرت في نفس اللون الأحمر. وكالعادة في البورتريهات التي كان يرسمها الروّاد الأوائل, تتخذ الخلفية موقعاً لونياً محايداً, حتى تبدو بطلة العمل بكامل أنوثتها من دون تشوش قد تصنعه الخلفية إذا كانت غير محايدة, أو محتشدة بمفردات وعناصر من الواقع.

يأخذنا ثالث الروّاد الأوائل يوسف كامل (1891ـ 1971) لنتعرف أهل الريف البسطاء, فيقدم لنا لوحة عامرة بالشجـن لـ (رجل ريفي مسن), تنهمر من عينيه أنهار الحكمة, وتجاعيد الزمن.

بضربات فرشاة جريئة, ومتوترة, مغموسة في البني ودرجاته, ومستلهماً نبض المدرسة التأثيرية بامتياز, تخلّق لنا هذا الشـيخ العجـوز الذي رسمه يوسف كامل بألوان الزيت على سطح من الخشب.

لكن الرائد الرابع محمود سعيد (1897-1964) الذي حاول جاهداً التفتيش عن قيم جمالية يتسم بها التصوير المصري, لم يقنع بالوجه فقط ليرسمه, بل آثر - أغلب الوقت - أن يجسّد لنا (الموديل) شبه مكتمل, فها هي لوحة (ذات الأساور الذهبية) تطل علينا في وضع يبرز سحر تناسق جسد المرأة الشعبي, الذي يبدو وكأنه مصنوع من النحاس بسبب هذه اللمسات الحادّة من الضوء الأصفر المشع.

ولعل محمود سعيد من القلائل الذين وهبوا الخلفية اهتماماً يليق بها, حيث نرى (الكنبة) التي تجلس عليها المرأة, وجزءا من لوحة معلقة على الحائط خلفها, لإشاعة مناخ واقعي عند المشاهدة.

جيل الوسط

لم يتحرر جيل الوسط كثيراً من سطوة ونفوذ الآباء الأوائل, وإن كانت مهاراتهم قد تعمّقت, وخيالهم تأجج مع التطورات الفكرية والفنية التي شهدها المجتمع المصري بعد ثورة 1919, خاصة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.

ومع ذلك, ظل الاحتفاء بوجوه نساء الطبقة الأرستقراطية سائداً, ربما بسبب الأثمان المرتفعة التي يتقاضاها الفنان نظير قيامه برسم هذه الوجوه.

لكن اللافت للانتباه لجوء كثير من فناني هذا الجيل إلى تصوير أنفسهم في لوحات كثيرة, وبأوضاع مختلفة, وأعمار متباينة, ولعل ذلك يعود إلى الإحساس العالي بالذات والثقة بالنفس, بعد أن تمكن الفنان من إثبات حضوره بقوة على خارطة المجتمع, مما دفعه إلى اقتناص التقدير المعنوي والأدبي الذي يستحقه.

ويظهر لنا البورتريه الذي رسمه لنفسه الفنان الكبير حسين بيكار (1913ـ 000) من أجمل اللوحات التي تناولت هذا الموضوع.

رسم بيكار نفسه وهو في وضع مواجه تماماً للمتلقي - وهو أمر نادر - وبنظرة ولي من أولياء الله الصالحين, تباركها هذه (الصلعة) الهادئة, والشعر الناعم المرسل باستسلام على الجانبين, علاوة على الثوب الأبيض الذي لا يلوح منه إلا الجزء العلوي فقط.

لعل إصرار بيكار على تجسيد نفسه في هذا الوضع النادر في فن التصوير, يؤكد على أنه يريد أن نراه كاملاً من دون إخفاء أي جزء من وجهه, فهو يأتي إلينا محمّلاً بعطر الفيلسوف وحكمة السنين والنظرة المتسامحة التي أشعلتها المهارة الخارقة في نثر مساحات النور والعتمة على سطح اللوحة ككل, والتي وصلت بمتعتنا البصرية إلى ذرى غير مسبوقة.

أما الفنان عز الدين حمودة, الذي رحل عن الدنيا في أوائل تسعينينات القرن الماضي, بعد أن تجاوز السبعين عاماً, فقد انحاز إلى النساء المخمليات اللاتي تفوح منهن روائح أغلى العطور.

في لوحة (امرأة حالمة) - التسمية من عندنا - نرى سيدة بكامل أنوثتها, وآثار النعمة تطل من عينيها الزرقاوين.

استلهم عز الدين حمودة من المدرسة الكلاسيكية فخامتها, ومن الواقعية أصالتها, فجاءت لوحته كاملة الأوصاف, من حيث متانة البناء, وعمق التعبير, خاصة أنه استطاع ترويض ألوان الزيت كيفما يشاء, فمنحته الدرجات الظلية التي توائم الوضع الاجتماعي لامرأته.

ويصحبنا الفنان صبري راغب (1920ـ 2000) ثالث الأربعة الكبار الذين أخلصوا لفن البورتريه في جيل الوسط, لتأمل بطلة لوحته (ذات الشال الأبيض) والتي نفذها بألوان الزيت, أعرق الخامات التي يرتاح إليها الفنان.

ويبقى الفنان جمال كامل (1926ـ 1986) رابع الأربعة الكبار, وأشهر مَن رسم البورتريه جماهيرياً, نظراً, لأنه كان يزيّن مجلة (صباح الخير) كل أسبوع برسومه العديدة, التي تناولت نجوم المجتمع في الفن والأدب والسياسة, فضلاً عن بسطاء الناس من عمّال وفلاحين وموظفين صغار.

انحاز جمال كامل إلى نفس المدرسة التأثيرية التي خلبت لبّ صبري راغب من قبل, ووضع كل منهما نبرته الخاصة به في الوجوه التي يرسمها.

تختلف لوحة (وجه سيدة) التي نتناولها هنا, عن بقية النساء اللاتي استعرضنا ملامحهن, حيث تبدو - من أول نظرة - أنها لا تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية التي كانت نساؤها هن المصدر الرئيسي لإلهام الفنان, وإنما هي قادمة من وسط اجتماعي متقشف, منحها سمة المرأة العاملة التي تكافح في الحياة لتحقيق ذاتها, وهو ما عبّرت عنه ثورة يوليو 1952, عندما دعت إلى تمجيد العمل. ودليلنا على أنها امرأة عاملة, يتضح في نظرة العينين التي لا تخلو من إجهاد, وغياب أحمر الشفاه, وتمشيط الشعر إلى الخلف وتكوّمه في (كعكة), مما يعني أنها لا تملك الوقت لتصفيف شعرها, فضلاً عن ثيابها المحتشمة, التي تشي بأنها لا تضيع وقتها في التزيّن لقضاء سهرات الثرثرة النسائية الخاصة بالطبقة الارستقراطية.

وأخيراً, لون البشرة البني المحترق, وهو اللون الشائع لرجال ونساء أهل مصر المحروسة المكافحين.

وجوه معاصرة

بعد انطفاء أشعة ثورة يوليو, وذبول أحلامها, ومع منتصف سبعينيات القرن العشرين, حدثت تحوّلات اقتصادية وسياسية واجتماعية خطيرة داخل المجتمع المصري, أدت إلى اضطراب واحتقان فكري عانى منه الفنانون بشكل خاص, الذين فوجئوا, بانقلاب الأفكار والقيم التي تربّوا عليها وآمنوا بها, مما أدى إلى تراجع فن البورتريه بمفهومه الذي استقر مع بداية القرن, حتى وإن كانت قد حدثت بعض التغييرات لهذا المفهوم في الخمسينيات والستينيات, بل وصل الأمر أحياناً إلى هجر الرسّامين لهذا الفن, باعتباره فن صالونات لا يليق الاحتفاء به في زمن الحداثة وما بعدها!

حتى أن بعض النقاد قد زعم أن لوحة (الحامل) قد ماتت - الذي يعد فن البورتريه النموذج الأمثل لها - وأن على الفنانين أن يلجأوا إلى الأعمال المركّبة وفنون الفيديو والليزر, بدعم واضح من السلطات التشكيلية, خاصة طوال عقد التسعينيات الماضي, بحجة الانخراط في معمعة العولمة!

لذا, لم يكن غريباً أن يتساءل الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين بحسرة واندهاش (أين اختفى فن البورتريه)?

ومع ذلك لم يعدم هذا الفن, الذي لقي صدّاً كبيراً من قبل معظم الفنانين, من وجود أصدقاء منحوه جل اهتمامهم وعصارة موهبتهم, كل حسب رؤاه وأفكاره ومهاراته.

خالد السماحي فنان شاب (1969ـ 000), وهب طاقاته كلها لخدمة هذا الفن, فقدم لنا أكثر من خمسين لوحة, أبطالها رجال ونساء يدبون على أرض الواقع, فهذه لوحة (فتاة) التي يبدو من نظرة عينيها وملابسها, أنها إحدى طالبات الجامعة المجتهدات.

استعار خالد من المدرسة التأثيرية جرأتها ولمساتها المتوترة وثراء ألوانها التي اشتعلت باستخدامه لسكين الألوان الذي يمنح سطح العمل كثافة وخشونة تفاقم من الشعور بحيوية الفتاة وبساطتها في الوقت نفسه, وحتى يتحرر من سجن الواقعية المبتذلة, قام الفنان بعمل خط خارجي لتحديد ملامح البنت وملابسها, أسوة بما كان يفعله الفنانون القدماء أيام الفراعنة.

أما الفنان محمد الناصر (1957ـ 000), فقد وجد في المهمّشين مادة خصبة للخروج بفن البورتريه من أسر الرتابة المعتادة. في حي الحسين العتيق بالقاهرة, التقى محمد الناصر بأحد المجاذيب, وسرعان ما سعى الفنان لاصطياد ملامحه, وتجسيدها على سطح الورق.

ولأن الناصر مغرم باختيار زوايا غير شائعة - وصعبة التنفيذ - ليرسم منها موديلاته, فقد رصد لنا الرجل المسكين وهو منخفض الرأس, بلحيته الكثة البيضاء, وظهره المنحني, وملابسه المهترئة.

أنجز الفنان هذا العمل مستعيناً بألوان المياه, وما أدراك ما ألوان المياه.. إنها ألوان عصية... مراوغة... لا تغفر للخطّائين, تحتاج إلى مهارة استثنائية كي يستطيع الفنان أن يروّض عنادها, ويكبح انفلاتها.

وأزعم أن هذه الألوان المشاكسة قد لانت لمحمد الناصر, فبدا الرجل بكامل هيئته الرثة, وملامحه الحزينة كما لو كان يجسّد كل المهمّشين على الأرض.

تحطيم الواقع

شهدت الأعوام الأخيرة من القرن الماضي زهداً في تناول البورتريه من منظور واقعي من قبل كوكبة لا بأس بها من الفنانين, فتم الاستغناء عن الموديل - الملهم الرئيسي - الذي كان يجلس مستمراً ساعات طـويلة أمام الفنان, حتى يتمكن هذا الأخير من التقاط رائحة الموديل ولونه وأنفاسه ليضعها برفق على سطح اللوحة, ودخل فن البورتريه بهذا المنطق في خصام مع تاريخه المستقر منذ قرون!

خذ عندك لوحة (العروسة) للفنان نبيل السنباطي (1952ـ 000). التي حاول فيها تحطيم جبروت الواقع, من خلال بورتريه لامرأة رسمه بأسلوب أقرب إلى المنطق العرائسي, حيث أطلت علينا متحررة من إسار انضباط النسب التشريحية, وسابحة في بحر من الزخارف المستلهمة من الفن الإسلامي.

أما الفنان (وجيه وهبة) (1950ـ 000), فلم يراع القوانين الأكاديمية عندما رسم لوحة (بورتريه) حيث اكتفى بشكل عام خارجي يوضح أن ما نراه هو وجه إنسان, رجل أم امرأة, لا يهم.

صحيح أن هناك لمسات ضبابية تفصح عن مكان العينين والأنف والفم, إلا أن وجيه استسلم لغواية الألوان الزيتية, فصنع منها مزيجاً مدهشاً لوجه إنسان لا يخلو من الحزن, أكّدته المساحة الصفراء التي تحتل الجانب الأيسر من هذا الوجه.

وبعكس الألوان الساخنة التي أنجز بها وجيه كل لوحاته, فإن الفنان عادل السيوى (1952ـ 000) صادق الألوان البنية ودرجاتها الهادئة, عندما رسم لنا وجه إنسان محروم من نعمة تناسق الملامح, حيث الأنف الضخم, والوجه المستطيل الذي يحتل طول اللوحة, واختفاء الأذنين.

كلمة أخيرة

لم تكن رحلتنا الموجزة في تطور فن البورتريه في مصر إلا محاولة لإعادة البهاء القديم لهذا الفن المهجور, ولعل التنوع الخلاّق الذي حفل به هذا التاريخ يؤكد أن فن البورتريه قادر دوماً على تفجير طاقات الفنان والارتفاع بها إلى ذرى عالية.

كذلك يشير هذا التاريخ الذي يحتشد بمئات اللوحات إلى أن المرأة ستظل أهم مثير جمالي على مر العصور بالنسبة للفنان.

كذلك ينبّهنا تاريخ فن البورتريه إلى أن المحاولات الدءوب لإماتة هذا الفن, والتي يسعى إليها بعض (النقاد) وأصحاب السلطة التشكيلية, لم ولن تلقى النجاح, حيث يظل الفنان دوماً على علاقة وثيقة بالإنسان, وملامحه, ورائحته, ولونه.

باختصار, إن فن البورتريه يعد بحق بستانا من الورد الفوّاح في زمن الحنظل التشكيلي المر!

 

ناصر عراق

 
 




"صورة سيدة" - القرن الميلادي الأول - المتحف المصري





"سراياس" - القرن الميلادي الأول - المتحف المصري





"غالية" - أحمد صبري





"مجذوب من الحسين" - محمد الناصر





"زينب عبده" - محمد حسن





"فتاة" - خالد السماحي





"وجه سيدة" - جمال كامل





"ديموس" - القرن الميلادي الأول - المتحف المصري





"ذات الشال الأبيض" - صبري راغب





"رجل ريفي مسن" - يوسف كامل





"قائدة الزار" - محمد حسن





"العروسة" - نبيل السنباطي