(موسم الرجال).. حضور مميز في المشهد السينمائي العربي

(موسم الرجال).. حضور مميز في المشهد السينمائي العربي

في ثاني تجربة إخراجية للتونسية مفيدة التلاتلي

خطوات مهمة تقدمت بها السينما التونسية, لعل من بينها ذلك الفيلم الذي خاضت به مفيدة التلاتلي تجربتها الإخراجية الثانية.

في العام 1994, حققت السينمائية التونسية مفيدة التلاتلي أول فيلم روائي طويل لها, حمل عنوان (صمت القصور), وذلك بعد مرور نحو عشرين عاما أمضتها في العمل في مجال المونتاج السينمائي, مع مخرجين عرب, أمثال الجزائري مرزاق علواش والفلسطيني ميشال خليفي والتونسيين الطيب الوحيشي وسلمى بكار ونوري بو زيد وفريد بو غدير, وآخرين. غير أن التلاتلي انتظرت ستة أعوام, كي تحقق شريطها الروائي الثاني, (موسم الرجال), الذي شارك ـ كفيلمها الأول ـ في مهرجان (كان) السينمائي الدولي, كما أنهما قاما بجولة عربية ودولية في العديد من المهرجانات والتظاهرات السينمائية.

وقد فاز فيلم (موسم الرجال), بجائزة (معهد العالم العربي) الكبرى للفيلم الروائي الطويل, في (بينالي السينما العربية الخامس في باريس) (30 يونيو/9 يوليو 2000), كما فازت ربيعة بن عبدالله بجائزة أفضل ممثلة, عن دورها فيه, من مهرجان فالنسيا السينمائي في إيطاليا, الذي اختتم أعماله في الثالث والعشرين من أكتوبر 2000. وعلى الرغم من أهمية الموقع الذي شغلته نحو عشرين عاما, وإزاء ما تكتنزه (وظيفة) المونتاج من حساسية فنية وإبداعية, وحاجتها الماسة إلى خيال خصب يوازي, أحيانا كثيرة, ما يمكن أن يتفتق عنه وجدان المخرج أو كاتب السيناريو, وأفكارهما وهواجسهما, من لغة ثقافية وفنية جمالية, رأت مفيدة التلاتلي أن تنتقل إلى كرسي الإخراج, فإذا بها تنجز واحدا من (أجمل) الأفلام العربية في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين. كان ذلك في العام 1994, حين قدمت التلاتلي (صمت القصور) الذي لا يزال حاضرا, بقوة وفعالية في المشهد السينمائي العربي, إلى درجة بات معها أحد أبرز (كلاسيكيات) لغتنا التعبيرية والسينمائية العربية المتجددة, شكلا ومضمونا. وانتظرت التلاتلي ستة أعوام, قبل أن تحقق شريطا روائيا ثانيا, بعنوان (موسم الرجال), الذي لم يصل إلى المستوى الفني والدرامي لفيلهما الأول, مما أثار انتقادات عربية حادة, وغربية غير متسامحة معه كليا, وإن بحدة أخف.

روت التلاتلي, في حوار معها أنها تخيلت شريطها الأول (صمت القصور) حين كانت جالسة في سيارة مغلقة, مع والدتي التي أصيبت بصمت مرضي كامل, (ألزمتني معالجتها) سبع سنوات, حتى توفيت), وأشارت إلى أن الصمت الذي غلف أعوام أمها الأخيرة, لم يكن سوى (ردة فعل) على (السجن) الكبير الذي عاشت فيه مع عائلتها, كما مع (الجواري اللواتي فقدن حريتهن, بسبب عنصر القوة الذي كان يمارسه والدي, ما أدى إلى فقدان التواصل بيننا وبينه). في (صمت القصور), تحدثت التلاتلي عن عالم أولئك النسوة ومشاعرهن وتفاصيل حيواتهن وانفعالاتهن, تماما كما في (موسم الرجال), الذي عكس رغبتها في التحدث عن المرأة (من خلال الأسئلة التي وجهتها إلي ابنتي, ما دفعني إلى التفكير في العلاقة بين المرأة والرجل, والبعد الحاصل بينهما على المستويين المعنوي والفكري). ذلك أن التلاتلي كتبت شريطها الثاني في مرحلة راحت ابنتها خلالها (تبحث عن مكانتها كامرأة في المجتمع التونسي), كما جاء في حوار آخر معها, مضيفة أنها تساءلت, في قرارة نفسها, (عن مغزى حياتي في الماضي والحاضر), فأدركت أن العلاقة بين مختلف الأجيال جوهرية ومتشعبة).

وبعد ستة أعوام على تحقيقها (صمت القصور), أنجزت مفيدة التلاتلي (موسم الرجال) في إطار درامي لا يختلف كثيرا عما صنتعه في عملها السابق. فالمناخات الاجتماعية والنفسية والحكائية, التي صاغتها في صور بديعة عن الذات والعلاقات والذاكرة (الفردية والجماعية) والتداعيات النفسية والاجتماعية والسياسية ـ التاريخية, جاعلة من (صمت القصور) واحدا من (أجمل) الأفلام العربية في التسعينيات, شكلا ومضمونا, هذه المناخات نفسها أرخت معالم ظلالها على فضاءات العمل الثاني, وبنى سياقه الحكائي والدرامي, فبدت مبتورة ومشوهة. كأن التلاتلي عجزت عن تحرير نمط اشتغالها البصري من سطوة التأثيرات التي أفرزها النجاح النقدي الكبير, والجماهيري اللافت للنظر, الذي عرفته مع (صمت القصور) بما فيه من جماليات فنية وتقنية وثقافية ودرامية.

روى (صمت القصور) طفولة والدة المخرجة, كمحور أساسي لعمل استفاض, دراميا وفنيا, في قراءته الماضي وتواصله مع الحاضر, وفي معاينته التفاصيل المتداخلة فيما بينها, الخاصة بالفردي والجماعي, على حد سواء. بينما صاغ (موسم الرجال), من بعض الحقائق (المستلة) من محيط المخرجة نفسها في مدينة (جربة) التونسية, نصا بصريا بدا متعثرا في بنيته الفنية وشكله الدرامي. من ذكريات الأم وظروف عيشها واختلاط الذاتي بالعام, صنعت التلاتلي (صمت القصور), الذي انبنى على تشريح حال المرأة في مرحلة تسلط البايات التونسيين, في الثلث الأول من القرن العشرين, بعيدا عن المباشرة والخطابية: (ما دفعني (أيضا) إلى (تحقيق) (صمت القصور), علاقتي بابنتي البالغة ستة عشر عاما من العمر, وقد بدأت تتصرف كامرأة عادية, ما جعلني أسأل عن الصواب والخطأ في تصرفاتها. إلا أنني وجدت نفسي, كأم, حائرة وعاجزة عن النصح, خصوصا بعدما تبدل المجتمع, وأصبحت المرأة تملك قسطا كبيرا من الحرية فيه, علما أن الحقيقة تقول إن العقلية لم تتطبع مع القوانين وما يدور داخل البيت يؤكد أن الرجل مازال متشددا, وبالتالي متميزا عن المرأة). ففي العام 1956, نالت المرأة التونسية (كل) حقوقها المدنية, وبات في وسعها اختيار زوجها, أو اجهاض جنينها, (لكن, في الواقع, تبقى المرأة أسيرة قوانين الرجل الاجتماعية), كما قالت المخرجة لصحيفة (لو فيغارو) الفرنسية يناير 2000. من هنا, ربما انبثقت فكرة (موسم الرجال), الذي بدا استمرارا ما لرغبة مفيدة التلاتلي في معالجتها الدرامية تلك العلاقات (الملتبسة) و(المرتبكة) و(غير السوية) بين الرجل والمرأة في المجتمع التونسي, واستطرادا في المجتمع العربي: (هذا ما حاولت تناوله في (موسم الرجال), وأتوقع ردود فعل قاسية, لأنني تطرقت إلى موضوع يُحسب من المحرمات).

لم تصدر ردود الفعل (القاسية) على فيلم (موسم الرجال), بسبب تطرق المخرجة التلاتلي لموضوعات (محرمة), بقدر ما جاءت نتيجة قراءات نقدية طالت البنى الفنية والدرامية والجمالية. ففي جديدها هذا, اختارت التلاتلي المادة القصصية نفسها, تقريبا, من دون أن تبذل جهدا إضافيا, مطلوبا بالحاح, لابتكار أشكال تعبيرية متجددة, تهدف إلى تجديد المبنى في تناوله النص الدرامي, وإلى اثارة دهشة بصرية مختلفة, ونقاش فني ما, كما إلى فتح أفق إضافي في كيفية التحريض على معاينة التفاصيل والجماليات المتنوعة. فإذا بـ (موسم الرجال) نسخة باهتة ومنقوصة عن رائعتها الأولى, وإذا بالمخرجة تكتفي بما صنعته في (صمت القصور), من دون أن تسعى إلى تطوير أسلوب المعالجة والبناء الدرامي, موغلة إلى حد كبير, في تصوير المشاهد الطبيعية الجميلة في جزيرة (جربة) ومداها الجغرافي والروحي. كأن مفيدة التلاتلي وقعت أسيرة انبهارها بالنجاح الذي اختبرته مع شريطها الأول, ففقدت الرغبة في استكمال خطواتها الإخراجية والفنية, متكئة على (مجد) أحادي, لاشك في أنه لن يدوم طويلا بعد (موسم الرجال).

حضور قوي

من شاهد (صمت القصور), لا يستطيع تجاهل السمات الكثيرة المتشابهة, إلى حد كبير, مع تلك التي ظهرت في (موسم الرجال), وهي سمات منحت الشريط الأول اختلافا بصريا واضحا في الرؤية الإخراجية والمعالجة الفنية والدرامية, في حين أنها لم تكن أكثر من استنساخ باهت لتصاويرها في (موسم الرجال): حكاية المرأة المعذبة جراء تسلط الرجل في المجتمع الذكوري العربي, تداخل الماضي بالحاضر, على خلفية استعادة ذكريات وتفاصيل آنية, وإن بدا هذا التداخل ـ أحيانا ـ جميلا في تصويره الفني, في (موسم الرجال), حصر مسرح الأحداث الأساسية في حيز مكاني واحد, تختلف مساحته الجغرافية والزمنية من فيلم إلى آخر, بحسب ما تقتضيه الحكاية, ومدى شموليتها التاريخية والاجتماعية, رغبة جامحة في التقاط مناظر طبيعية أقرب إلى البطاقات البريدية السياحية منها إلى أي شيء آخر, في الفيلم الجديد, مع أن هذه الصور لم تكن فاقعة بحضورها القوي في الشريط الأول, بقدر ما تناغمت مع مجريات السرد الحكائي, وتحولات سياقه وتطوراته, ظهور الرجل في المشهد الحكاية متسلطا ونافرا وقامعا, كنموذج (مستهلك) لنوعيات مختلفة من السلطات (اجتماعيا وحياتيا وسياسيا ونفسيا) مع ضرورة التنبه إلى الاختلاف الحاصل في كيفية تجسيد هذا النموذج بين الفيلمين, كما في الأسباب الكامنة وراء جعله نموذجا كهذا.

باستثناء مناظره الطبيعية الجميلة, ظل (موسم الرجال) عاديا وبسيطا, من دون أن يجهد في تجاوز (صمت القصور), أو على الأقل في ابتداع نمطه البصري الخاص, المرتكز على أدواته الجمالية والفنية. جديد مفيدة التلاتلي فقد ثباته الدرامي, وقوته الجمالية, وسحره الفني, وكلها تشكلت في اللحظات الأولى, كمدخل حقيقي إلى الحكاية, بتكثيف بصري قدم الشخصيات ومآزقها وارتباكاتها, وصاغ حضورها النفسي والروحي والمعنوي والمادي, من دون ادعاءات أو سرد مطول وممل. غير أن هذا السرد نفسه, بطوله وملله, سرعان ما احتل مدة الفيلم الباقية وسياق أحداثه (125 دقيقة), كأن ثمة دورانا لا ينتهي داخل دائرة مغلقة, أو كأن ثمة وقوعا في مطبات التكرار المشهدي, بعيدا عن لغة التكثيف التي, بفضلها, يمكن لعمل سينمائي ما أن يتماسك في بنيته الداخلية, وتفاصيله المختلفة, وأن يصنع من مادته سردا متينا وجاذبا.

خيارات متناقضة

قليلون جدا هم الرجال الذين بقوا في جربة, حين غادرها الجميع إلى تونس العاصمة, للعمل وجمع المال, تاركين زوجاتهم وأولادهم ينتظرون زيارات سنوية (شهرا واحدا كل عام) تحولت إلى نوع من الاحتفالات التي تفرض طقوسا وتحضيرات. لكن عائشة (ربيعة بن عبدالله) أقنعت زوجها سعيد (عز الدين جنون) بالانتقال معه إلى العاصمة, برفقة ابنتيهما مريم (غالية بن علي) وآمنة (هند صبري), وشقيقهما الصغير المصاب بمرض عصبي, ربما لأن عائشة حبلت به (في ظروف من الحرمان الجسدي الكامل). لن تسير الأمور كما يجب: فالانفصال وقع بين الزوجين, والعودة إلى جربة لمنح الصبي بعضا من راحة نفسية وجسدية, فرضت كل التداعيات والإحباطات والذكريات الأليمة, التي أدت في السابق إلى (نزوح) العائلة. وفي التداخل الحاد (والجميل, غالبا) بين الماضي والحاضر نكتشف النزاعات العنيفة بين عائشة والحماة أمي (منى نور الدين), والارهاصات النفسية لبعض النسوة القابعات في عزلة الجسد, الذي فقد حيويته ونضارته وانفعالاته الحسية, بغياب الرجال. كما نعثر على كل الرغبات الجنسية والروحية, المدفونة في الأعماق, التي نتج عن انفجارها أزمات صحية ونفسية, وشروخ ذاتية ومعنوية, فإذا بالشبق المكبوت يقود هذه المرأة أو تلك الصبية إلى خيارات متناقضة, وأحيانا متهورة, أو ربما انتحارية.

أثبتت مفيدة التلاتلي, في (موسم الرجال), أنها لا تزال مونتيرة متألقة ـ خصوصا في اختيار لحظات جميلة في لعبة التداخل الزمني والنفسي والروحي, وأنها تملتك قدرة جيدة في إدارة ممثلين وممثلات لا يقلون جودة وروعة في أداء مثل هذه الشخصيات القلقة والمتوترة. لكن النص السينمائي لم يجدد في لغته السردية والحكائية, والمعالجة الدرامية مالت أكثر نحو تغليب (الحساسية الغربية) في كيفية التعاطي مع نتاجات العالم الثالث, بدل التمسك ببنية داخلية (تتفنن) في ابتكار أشكال تعبيرية متحررة من سطوة (العالمية). أضف إلى ذلك, أن الفيلم الثاني لها غرق في (ثرثرة) درامية, وتماهى بسابقه, في تقليد باهت, مما أوقعه في فخ التكرار والإطالة والبطء.

 

نديم جرجورة

 
 




مشهد من فيلم التلاتلي الثاني "موسم الرجال" (2000)





هند صبري في "صمت القصور" (1994) لمفيدة التلاتلي