فـي جنـوب إفريقـيـا أعجوبة بريتوريا الزرقاء

فـي جنـوب إفريقـيـا أعجوبة بريتوريا الزرقاء

تصوير: طالب الحسيني

على مقربة دقائق من بريتوريا - العاصمة السياسية لجنوب إفريقيا - ثمة منطقة تدعى الأرض الزرقاء, نسبة إلى لون ترابها الضارب إلى الزرقة, والذي يكتنز في أعماقه أغزر مناجم الماس في جنوب إفريقيا. توجهت العربي إلى هناك, وغاصت بعمق 700 متر تحت هذه الأرض, و1700 مليون عام في الزمان, تتأمل أعجوبة ميلاد أنقى وأصلب مادة عرفها البشر, لعل التأمل يهبنا بعضاً من التواضع, في زمن يوشك خلاله الاستكبار البشري أن يدمّر شروط الحياة على كوكب الأرض.

فجأة أصبح أمر الماس يهمّني, برغم أنني لم أطمح أبداً إلى امتلاك أو إهداء عيّنة منه ولو صغيرة بحجم رأس دبوس.

كان ذلك في صباح ربيعي ببهو فندق صن بجوهانسبرج, والربيع هناك يحل في وقت الخريف لدينا, لأن الفصول جنوب خط الاستواء تتزامن مع الفصول النقيضة لها في شماله.

شدّني بريق ملوّن ينبعث من واجهة عرض صغيرة في ركن من أركان البهو. كان المعرض الغائر في عمق الجدار الخرساني مزوّداً بواجهة من الزجاج المصفّح, ومحروساً بجهاز أمان إلكتروني حديث جداً, ومكلّف جدا, فالمعرض الذي لا تتجاوز مساحته جوف حقيبة يد صغيرة, كان يضم كنزاً قيمته نحو مليوني دولار. ففيه تعرض على بطانة مخملية بلون قرمزي, بضع ماسات ثمينة, متوسطة الحجم, لكنها تتفجّر من داخلها ببوارق عجيبة تحمل أبهى ألوان الطيف. إنه تكسّر الضوء المنعكس على بلورات أصفى مادة في العالم, وأصلبها أيضاً.

وأصابني سحرالماس!

طلبت من المرشدة التي تعاملت معها في رحلتي الجنوب إفريقية أن أزور ورشة لصقل الماس, وضحكت بغمز وهي تقول (لكن اليوم سبت). ولما أدركت أني لم أفهم معنى إجابتها, صارحتني هامسة أن أعمال الماس يسيطر عليها اليهود, وهم لا يعملون في يوم السبت, ومن ثم لا تعمل محلات الماس ولا ورش صقله في هذا اليوم.

لكنني كنت مشدوداً إلى سحر الماس شدّاً لا يحتمل التأجيل إلى الغد.

وأسعفتني (أوليمبيا) البارعة إذ أدركت تأجّج فضولي, عاجلتني بفكرة أن أسافر فوراً إلى بريتوريا التي تبعد نحو ساعة ونصف بالسيارة, ومنها وعلى مقربة دقائق يمكنني أن أكون في عمق (الأرض الزرقاء), في رحاب أغزر مناجم الماس بجنوب إفريقيا, مكان اسمه (بريمير), ومن اسمه ألمح معنى الريادة, لكنها ليست ريادة التشغيل, بل ريادة التكوين كما عرفت فيما بعد, فأنبوب مادة الكيمبرليت التي يوجد فيها الماس عمره 1700 مليون سنة, أي أسبق من انفصال القارات, وأسبق من تكوّن مادة سائر مناجم الماس المعتادة والتي يرجع تاريخ تكوينها إلى 60 مليون عام, فقط!

بوابات الرهبة

كانت الثامنة صباحاً عندما انطلقت من جوهانسبرج, وفي العاشرة إلا عشر دقائق كنت في بريمير مارّاً بأطراف بريتوريا. وطوال الوقت لم تنقطع عن إبهاج البصر أشجار (الجاكارندا) المتوهّجة بأزهار بنفسجية هفهافة, فكأن الدنيا مرشوقة بمظلاتها البهيجة, بريتوريا كانت بنفسـجية الآفاق كلها, أما بريمير فكانت أقـل بنفسجـية وأكثر زرقة, زرقة تراب الكيمبرليت الذي أخرجوه من جوف الأرض وكوّموه في تلة عملاقة كانت تطل من وراء سور مكهرب عال.

انضممت إلى سرب الزوّار الذين جاءوا من أربعة أطراف الدنيا, وانخرطت في إطاعة الأوامر المشددة من المشرفين على المكان, والذين كان معظمهم مسلحاً, ارتديت خوذة رأس من خوذات المناجم, وكتبت تعهّداً بقبول الانضمام إلى الجولة متحمّلاً - على مسئوليتي - كل الأخطار المحتملة والتي يذكرها التعهد بوضوح: الانهيارات الأرضية, الاختناق في العمق, إصابات التفجير, والتعرض للأشعة. وبالطبع أوضح التعهد وجوب الالتزام بإجراءات السلامة, والأمن, وعدم إخراج أي شيء من وراء الأسوار, حتى التراب, فهو ليس أي تراب, ذلك الرمادي المزرق.

كانت الكومة الهائلة بارتفاع بناية من عشرة طوابق على الأقل, تطل بهامتها من وراء السور المكهرب العالي الذي اصطففنا لنعبر إحدى بواباته المؤمّنة بسلسلة من الإجراءات التقنية المعقدة. وفي هذا الاصطفاف الطويل, بطيء الحركة, رحت أقرأ شيئاً من كتاب حملته معي, عن ذلك التراب الأزرق المطل علينا, وكان عمره طويلاً... طويلاً جداً.

منذ 60 مليون سنة - على الأقل - كانت اليابسة تشكل قارة واحدة متصلة اسمها أرض (جوندوان), ولأن دوام الحال من المحال, والأشياء تتجه - كما البشر - إلى مصير التفرّق, فإن القارة الواحدة الكبيرة بدأت تنقسم وتتباعد أقسامها لتشكّل القارات التي نعرفها اليوم. وإذا كان انفصال البشر - عادة - تسبقه عواصف بشرية, فما بالنا بانفصال القارات?! شيء بالتأكيد رهيب, سلسلة من التفجرات البركانية رجّت الأرض وهي تقذف بجحيم من الحمم المتوهجة الكثيفة. ولأن الهياج لا يدوم أبداً, خمدت ثورة البراكين, وفي (أنابيب) جوفها وحول فوهاتها راحت مادة الحمم تبرد وتيبس لتصير هذه المادة الرمادية الزرقاء المسمّاة (كيمبرليت), وداخل هذه المادة كانت تتناثر أعجوبة الماس!

لقد بدأ تكوّن الماس - في صوره الأولية - بباطن الأرض قبل تكوّن الكيمبرليت بمئات الملايين من السنين, فمنذ ما يقارب ثلاثة بلايين عام, وعلى أعماق مئات الأميال في جوف الأرض الكثيف والملتهب, تعرّضت ذرات الكربون النقي - تحت تأثير الضغط والحرارة الهائلين - للانعصار والانصهار معا, وعندما ثارت البراكين - سواء عند تشقق الأرض لتكوين القارات منذ 60 مليون سنة أو قبل ذلك كما في حالة بريمير العائدة إلى 1700 سنة - انقذفت الصهارة الجوفية حاملة معها تكوينات ذرات الكربون المعصورة والمصهورة معاً, ومع تعرّض الصهارة لدرجة الحرارة المنخفضة بعيداً عن جوف الأرض, أخذت في البرود والتيبس مكوّنة الكيمبرليت, وداخله كانت تكوينات الكربون المعصور والمصهور المتناثرة تبرد أيضاً فتعيد تشكيل نفسها, وتتكون منها بلورات رباعية السطوح, ومن هذه البلورات يتكون الماس. وما أعجب ذلك! فجرافيت أقلام الرصاص يتكون من الكربون النقيّ نفسه الذي تكوّن منه الماس, لكن شتّان بين صناعة وصناعة! والمدهش أن الكيمبرليت الذي يحمل داخله الماس المتكوّن من الكربون لا يوجد به أي كربون!

ثم جاءت عصور البلل.

كانت الأرض - في هذه الأنحاء - غابة من البراكين التي تنتصب مخاريطها الزرقاء على السطح وتحتها تغوص أنابيب عملاقة من المادة الزرقاء ذاتها, الكيمبرليت, وهبّت على الأرض أزمنة من الرياح والأمطار الطوفانية, أطاحت بمخاريط البراكين الزرقاء ودفعت بترابها وحجارتها مع السيول الوحشية في مجاري الأنهار الأولى نحو البحر, وبقيت جذور تلك البراكين على شكل أنابيب عملاقة من مادة الكيمبرليت تغوص رأسياً مئات الأمتار في باطن الأرض ويشي بوجودها لون التراب في الأرض الزرقاء.

ووجدتني واقفاً في طابور يتحرك ببطء على هذه الأرض!

وحين أتجه مع الآخرين نحو بوابات الرهبة الإلكترونية, بوابة تلي بوابة, وما إن يعبر الإنسان إحداها حتى ينغلق أوتوماتيكياً وراءه جدار من الفولاذ. عددت جداراً, اثنين, ثلاثة, ثم وجدتني مع سرب الزوار فجأة في دنيا واسعة, واد مترامي الأطراف تعجبنا كيف أحاطوه كاملاً بتلك الأسوار الإلكترونية العالية.

ورحنا نتلفت...

من السطح إلى الأعماق

في البعد كانت هناك حفرة قطرها عدة كيلومترات, وعمقها أكثر من مائة متر, ورغم أن هناك شجيرات وأعشاباً كانت تغطي جوانبها, وبحيرة مياه في قاعها, فإنهم كانوا يدعونها (ميتة). وهي متخلفة من (أنبوب) منجم استخرجت تربته وحجارته الزرقاء حتى آخر ذرة, وحتى ظهرت أعماق الأرض وفاضت مياهها الجوفية, ثم هُجر المنجم بعد إعلان موته, أي بعد خلوّه من أصغر احتمال للعثور على أصغر ماسة.

سرنا في ظلال أبراج وجسور فولاذية تحمل أنابيب معدنية ضخمة تنتهي فوهة إحداها فوق كومة هائلة من تراب الكيمبرليت, واضح أن هذه هي النهاية, أي تكويم التراب بعد سحقه وفحصه, (فمن أين يأتي?) - سألت, فأجابني الدليل قائلاً: (ستعرف كل شيء), وقادنا إلى بداية الإيغال المثير في عمق الأرض الزرقاء, إلى باطن المنجم, في مصعد هبط بنا طوابق عدة, قال الدليل لنا إننا سنعود إليها فيما بعد, وعندما توقف المصعد أمرنا بالخروج... وأيّ خروج?

خطوة خطوة, ببطء, وحذر, وباستثارة رحنا ندلف واحداً واحداً, فوهة معتمة, دعامات تسند الجدران في بعض المواضع, وأطواق فولاذية تحزم السقف لتأمينه, ومن بعضها تتدلى مصابيح الإنارة, وعلى الأرض قضيبان تتحرك عليهما العربات الصغيرة لنقل فتات وتراب حجارة الكيمبرليت. ونتقدم خطوات لا يُسمح لنا بعدها بالتقدم, فالعتمة تزداد إذ تنقطع عن المكان المصابيح المعقلة في أحزمة السقف, فبعد ذلك لا أحزمة ولا دعامات, فقط فجوة فاغرة مهلهلة الجدران وعلى أرضها تتراكم الحجارة الرمادية الزرقاء, ولا إضاءة إلا تلك التي ترسلها المصابيح المثبّتة في خوذات عمال المناجم, وهم - بالطبع - معنيون بتوجيهها نحو مواضع عملهم. إنهم يحفرون نفقاً يمدون فيه فتيل التفجير... تفجير?! سمعت الكلمة فارتعشت عظامي, كما لابد أنها ارتعشت عظام كل أفراد سربنا, لكن ما أغرب الإنسان يرتعب, ويرتعش, ويظل متشبثاً بما هو فيه فضولاً ونشوة... إنها نشوة الرعب التي سأكتب عنها يوماً, بشكل علمي نفسي, ربما!

ولم يترك لنا الدليل فرصة استكمال نشوة الرعب حتى الذروة, إذ بتر نشوتنا بأمر قاطع, أن نتراجع إلى الخلف بسرعة, وبنظام, وحذر, فهناك إشارة احتمال للخطر. وأمام هاجس الموت لا تمكث أي نشوة, حتى نشوة الرعب.. لهذا لم يكن انسحاب سربنا منظّماً ولا حذراً, وإن تم بسرعة... بسرعة شديدة تشبه الفرار حتى أن بعض كبار السن خاصة تعثّروا وهم يفرّون, وأتذكر امرأة أوربية عجوزا لعلها كانت في الثمانين, تعثّرتُ فيها إذ تعثّرتْ أمامي, ولما كنت أنهض وأنهضها, رفعت وجهها العجوز نحوي في ضراعة كأنها توشك على البكاء هاتفة (لا أريد أن أموت). وتدافعنا داخل المصعد الذي أسرع يصعد بنا, واستقر في بهو واسع به بعض المكاتب, لكنه كان تحت الأرض أيضاً, ولم يقبل معظمنا بأقل من الصعود إلى ظهر الأرض رغم طمأنة الدليل لنا.

الأشجار الحارسة

ردّة الفعل بعد تلك اللحظات كانت مدهشة, إذ تعالت أصواتنا والضحكات وراح كل منا يتقرب إلى الآخر بمودّة وكأننا نعرف بعضنا بعضاً من قديم, رغم أننا قبل دقائق كنا متنائين, معزولين - كل في كبسولة ذاته, بل ويُضمر بعضنا للبعض نفوراً يكاد يصل إلى درجة العداء, خاصة أننا كنا من جنسيات مختلفة: أوربيين, ويابانيين, وملوّنين, وأسود واحد من أهل البلاد. وبعد أن هدأ صخب الضحك والثرثرة بأصوات مرتفعة انتبهنا إلى استمرار وجود عمال المنجم في الداخل تحت, تحت الأرض القلقة التي لفت أنظارنا أن فوقها شجرتين من أشجار الكافور الوارفة, وكان يومئ إليهما الدليل, فيممت شطرهما كل وجوهنا, وساد الصمت, بل أشار إلينا الدليل آمراً بالإصغاء, وإرهاف السمع.

لم نسمع شيئاً, وكان ذلك بشارة خير راح يشرح أسرارها الدليل وهو يقودنا مرة ثانية إلى الأعماق الرمادية الزرقاء, وإن أكّد لنا أننا سنبقى في الطوابق الآمنة من المنجم (بل الآمنة تماماً) - على هذا أصررنا, وعدنا إلى طابق المكاتب ليشرح لنا الدليل مراحل رحلة الأعماق التالية, لكنه استهل بالحديث عن الشجرتين اللتين رأيناهما على سطح المنجم.

الشجرتان من نوع الكافور (ايوكاليبتوس), لكن هذا النوع من الأشجار صار يسمى في جنوب إفريقيا (شجرة المناجم), وغلاة الوطنيين من أبناء البلد الأصليين يلعنون هذه الشجرة (الأنانية) التي تميت كل ما حولها من نباتات والتي جلبها البيض معهم ليزرعوها خاصة على ظهر المناجم, وتحديداً على سطح (الأنابيب) المطمورة بالكيمبرليت, فالأرض الزرقاء التي تملأ هذه (الأنابيب) هشّة, وأشجار الكافور ذات جذور تنتشر في شبكة واسعة فتؤمّن تماسكاً للتربة المكوّنة لظهر المنجم, كما أنها تعمل كشبكة إنذار مبكّر تنبئ عن آي انهيار وشيك! إذ نظراً لتغلغل جذورها, فإن بدء الانهيار يشكّل خلخلة للأرض من حول الجذور تجعل هذه الجذور تتململ فتصدر عنها أصوات مثل (تزييق) أو طقطقة الخشب, ويكون هذا الصوت جرس إنذار ينطلق فيجعل كل العاملين تحت الأرض الزرقاء يطلقون أرجلهم للريح البعيدة, ويسعون للنجاة بعيداً عن أنفاق المنجم. لا يخرجون بالضرورة إلى سطح الأرض, لكن يبتعدون بالضرورة عن جوف الأرض المتشكل من الكيمبرليت المنذر بالانهيار.

لم يكن حديث الأشجار الحارسة كافياً لتهدئة خواطرنا, ويبدو أن الدليل المجرِّب لكل أنواع البشر الذين جاءوا من قبل أراد أن يبعث الأمان أكثر وأعمق في نفوس المرتعدين من سربنا, فحدثنا عن تقنية حفر مناجم الماس ليؤكد لنا أن مرحلة تعرّضنا لخطر الانهيار قد انتهت بمغادرة نفق الحفر والتفجير, وأن كل الأماكن التي سنعبرها تحت الأرض الزرقاء, من الآن فصاعداً, هي أماكن آمنة لأنها بعيدة عن أنبوب الكيمبرليت, السمة العامة في حفر مناجم التنقيب عن الماس هي أن هناك دائماً حفرتين إحداهما داخل مخروط أو شق الأرض الذي به مادة الكيمبرليت, والأخرى توازيها وتستخدم لنقل المادة والعمال والأدوات, وبها بعض مراحل ومحطات تخليص الماس من الأحجار والتربة الزرقاء. وبالطبع, فإن الحفرتين الرئيسيتين تتواصلان بأنفاق أفقية للنقل, لكن المهم هو أننا كنا في إحدى غرف الحفرة الموازية لحفرة الكيمبرليت, أي في جسم الأرض العادية - وهي حمراء في كثير من بقاع جنوب إفريقيا ومنها البقعة التي كانت حفرتنا فيها وبعمق أكثر من ستمائة متر

3 أجزاء من المليون

أسماء تقنيات حفر مناجم الماس مختلفة, فمنها ما يسمى تقنية الغرف, وتقنية الكهف, وتقنية الطاولة المفتوحة. ولأن منجم بريمير- حيث كنا- ينتهج تقنية الغرف, فهي أولى بالتوقف. يتم الحفر - بموازاة مخروط الكيمبرليت - تماماً كما لو في حفر أساس البنايات, وبعد عمق معين تصير هذه غرفة ويُمدّ منها نفق أفقي للحفر - رأسياً - في الكيمبرليت, وبعد أن ينفد الحجر الأزرق في هذا المستوى, يتم النزول إلى مستوى أعمق بحفر غرفة جديدة تحت الغرفة الأولى. وهكذا غرفة تحت غرفة تحت غرفة حتى أعماق سحيقة, فالماس لأنه عالي الكثافة لا يوجد إلا في العمق بهذه المناجم. أما في أحواض الأنهار وعلى ضفافها وعلى ساحل البحر أو تحت مياه الساحل, فالماس يوجد على السطح لأنه يكون مما حملته سيول الأزمنة المطيرة وهي تجرف الأرض الزرقاء في رحلات تكوين الأنهار الأولى.

لا تكاد تختلف طرق الحفر المختلفة في مناجم الماس, اللهم إلا فيما يخص آلية الحصول على المادة (الخام) أو الكيمبرليت.

فهناك آلية تلجأ للتفجير, وهناك آلية تسمى الحفر المغلق, وتعتمد على غرس (شوكة) من عدة (أصابع) خرسانية أفقياً في طبقة الكيمبرليت, تم سحبها وتغرس أخرى في مسافة تحتها, وما إن تسحب أصابع هذه الأخيرة حتى يتفسّخ الجزء (السائب) بين (المغرسين) وينهار بفعل الجاذبية وتنقل حجارته وأتربته بعد ذلك كما في المستخرج بالتفجير. والمعتاد أن يتم النقل في دفعات كل منها يزن 3,5 طن على عربة (ترولي) كهربية إلى رافعة كهربية تنطلق كلما جمّعت عشرة أطنان, وتوصلها إلى محطة الطحن حيث تجرى أولى عمليات (تخليص) الماس من أحضان وأحجار الأرض الزرقاء.

كان الدليل مستمراً في (شروحاته) وهو يقودنا تحت الأرض, بين طوابق بناية غائرة حتى عمق أكثر من 700 متر, وعندما وصلنا إلى قاعة هائلة باتساع (عنبر) إحدى الورش في المصانع العصرية, كانت هناك موتورات تهدر, وعنفات تدور, وأبراج ذات درج عال تحت السقف الأعلى. لكن كل شيء كان مغطى ونظيفاً ولامع الطلاء بألوان زرقاء وصفراء قوية توحي بحداثة التجهيزات. هذه محطة (الطحن), وهنا تطحن حجارة الكيمبرليت مرتين ولا يسمح بمرور أي جزء يزيد على 32 مليمتراً, وهذه المحطة تعالج سنوياً خمسة ملايين طن من الكيمبرليت بأمل الحصول - في المراحل اللاحقة - ومن كل مليون جزء من التراب والحصى الأزرق على ثلاثة أجزاء من الماس.

بلا نار يضيء

توقف المرشد أمام آلة بارتفاع طابقين تحت سقف أحد العنابر التحت أرضية وقال: إن هذه هي (الغسالة)! غسالة من نوع خاص تغسل وتفصل الثقيل والخفيف أثناء عملها, ويكون الماس في الجانب الثقيل بالطبع. ولا تتوقف عملية الفصل عند هذه المرحلة, بل تستمر عبر معالجة المادة الثقيلة في جهاز طرد مركزي ضخم هو الآخر, يدور بسرعة عالية جداً فتظل المادة الخفيفة في الوسط بينما تندفع المادة الأثقل إلى الأجناب, وإلى أسفل حيث يتم جمعها في غرفة تحت جهاز الطرد المركزي نفسه. ويكون في المادة المجموعة خليط من الأحجار الكريمة (الماس) والأحجار شبه الكريمة وغير الكريمة أيضاً وإن كانت ثقيلة الوزن وعالية الكثافة.

ثم رأينا أولى عمليات (التمييز) بين الماس وأشباهه رأي العين. فالخليط راح ينزلق أمامنا على سير عريض مزوّد بمادة لاصقة خاصة لا تلتقط غير حبيبات الماس وهذه تكشطها شفرات يتم صهرها لتخليص أي ذرات من الماس تكون عالقة بها.

أما أكثر عمليات (التمييز) إدهاشاً فقد رأيناها عبر نافذة جهاز آخر يقوم على نظرية وآلية اكتُشفت وطُبّقت في الاتحاد السوفييتي السابق, فالماس عندما يتعرض لأشعة إكس يومض بضوء مصابيح الفلورسنت. وبأدوات تصوير كهربائية تُرصد الحبيبات الوامضة ويوجه نحوها تيار هواء ساخن, قوي ودقيق, يدفعها نحو صندوق للتجميع لا يدخل فيه إلا الماس!

وعندما لا يبقى غير الماس, وإن يكن في هذه المرحلة مغبراً ومعتماً بما يلتصق به ويغطيه, فإنه يعالج بالأحماض لإزالة الشوائب عنه, ثم يجرى تصنيفه وتثمينه - مبدئياً - قبل الصقل, وهذا يتم خارج أرض المنجم بعد أن يُنقل الماس تحت حراسة مسلحة مشددة. ولم يكن مسموحاً لنا بمتابعة هذه العملية إذ قادنا المرشد للخروج إلى سطح الأرض, لنرى ثانية الجسور والأبراج التي تحمل (عادم) الكيمبرليت في الكومة الهائلة من التراب الرمادي الأزرق, وفي مكان على حافة منجم ميّت كانت هناك مائدة مرتفعة وُضعت عليها بضعة أحجار من الكيمبرليت الخام دعانا المرشد للإمساك بها وتقليبها أمام أبصارنا في ضوء الشمس. كانت بوارق وشرارات دقيقة, دقيقة جداً, تنطلق ملوّنة من قلب الحجر المعتم, إنها ذرات الماس. ولابد أن بعضنا فكّر في الحصول على شيء منها تحت أظفاره, لكنهم - أصحاب المنجم - كانوا يقرأون خواطر هذه النفوس الأمّارة بالسوء, وكانوا يعدون للأمر عدته عند بوابة الخروج.

خطونا بشعور من يمشي على أطراف الأصابع ونحن نغادر أرض المنجم, فالتراب تحت أقدامنا به شيء من الماس, والتراب على الزوايا وفي الأركان من حولنا به الاحتمال نفسه, بل إن (العادم) المكوّم في جبل يرتفع على مر السنين يعاد فحصه مع ابتكار أجهزة جديدة أكثر تطوّراً, ويعثر بالفعل على كميات كبيرة من الماس.

قبل أن نعبر حاجز الخروج الأول قاموا (بتنفيضنا) جيداً بمراوح رقيقة دقيقة, ثم مررونا على أجهزة أشعة خاصة, منها جهاز حديث أنيق نبسط عليه أكفّنا فيكتشف أصغر ماسة يمكن أن تكون مختبئة أو مخبّأة تحت الأظفار.

وبعد إعلان براءتنا إلكترونيا, رحنا نعبر بوابات الخروج الإلكترونية, إلى أرض الله الواسعة غير الزرقاء.

الصناعي, والطبيعي

بدأ الحديث عن الماس الصناعي يتردد في أثناء الحرب العالمية الثانية, عندما برزت ضرورة استخدامه في الصناعات العسكرية المتطوّرة بديلاً عن الماس الطبيعي باهظ التكلفة, وفي عام 1955 أعلنت شركة جنرال إلكتريك الأمريكية إنتاجها الماس الصناعي, لكن الحكومة الأمريكية حظرت خروج أي معلومات تقنية عنه إلى الخارج. قبل ذلك كانت مجموعة (دي بير) تخشى من منافسة الماس الصناعي للطبيعي الذي تتاجر فيه, لكن بعد الإعلان الأمريكي سارعت (دي بير) وحفزت معاملها في جنوب إفريقيا لإنتاج الماس الصناعي بطريقتها, وهو ما تم إنجازه خلال ثلاث سنوات.

تتطلب العملية استخدام خليط من الجرافيت ومعدن النيكل أو الحديد, وتعريضهما لضغط كبير (60 كيلو بار) وحرارة مرتفعـة (1500 درجة مئوية) في فرن كهربائي, فينصهران ويتحول بعض الجرافيت إلى الكاربيد الذي يغير تركيبه الجزيئي متحوّلاً إلى بلورات الماس الصناعي.

هذه العملية بدأت مكلفة في الإنتاج التجاري, والماسات الناتجة عنها ظلت ضئيلة الحجم ورديئة النوعية, ومن ثم كانت عاجزة عن منافسة الماس الطبيعي خاصة في مجال الاستثمار كمجوهرات, أما على مستوى الاستخدام الصناعي, فكانت ولاتزال مقبولة, مما ساعد على ازدياد منتجي الماس الصناعي الآن.

يستخدم الماس الصناعي في شفرات المثاقب والمخارط الكهربائية لتشغيل الصلب المقسى, وفي سكاكين قطع الزجاج, وألواح صنفرة المعادن شديدة الصلابة, وبعض الأدوات الإلكترونية

لكن الماس المستخدم في الأغراض الصناعية ليس كله صناعياً, فمنه الماس الطبيعي أيضاً, لأن معظم ما يستخرج من المناجم ليس ثميناً, إما لصغر حجمه أو سوء الشكل أو اللون وإما لعدم ملاءمته للصقل, ومن ثم يستخدم في الأغراض الصناعية والتقنية تبعاً لدرجاته, فالدرجة الأدنى تستخدم في المثاقب والمناشير والمخارط بما يشابه الماس الصناعي, أما الدرجة الأعلى فتستخدم في الأدوات الإلكترونية الدقيقة كأشباه موصلات وموصلات فائقة تستطيع اكتشاف فروق حرارية لا تتجاوز جزءاً من المائة من الدرجة الواحدة.

عتمات قلب الماس

ليس الألق المتطاير بأصفى ألوان قوس قزح هو البعد الوحيد الذي ينمّ عنه قلب الماس الصافي, فثمة عتمات من القهر والموت والدم تختبئ كثيراً وراء هذا الألق.

سيسل جون رودس, الفتى الضائع معتل الصحة ابن القس البروتستانتي البريطاني المتواضع, وصل إلى إقليم الناتال في جنوب إفريقيا عام 1870 وكان في السابعة عشرة من عمره, لعب لعبة الماس وهي في بدايتها, مستخدماً بالطبع كل أدوات المستعمرين البيض من مكر وخداع وقسوة مع أبناء البلاد الأصليين السود, وتحول في سنوات إلى قطب من أقطاب مجموعة (دي بير) المتحكمة في إنتاج وتجارة الماس بالعالم - حتى الآن - ومات وهو يمتلك دولتين من دول إفريقيا الجنوبية حكمهما بالنار والحديد, في أبشع صور العنصرية التي عرفها التاريخ, ونسبهما إلى اسم عائلته: روديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية! ولعل هذا يفسر رد الفعل المبالغ فيه أحياناً ضد البيض في إحدى هاتين الدولتين - زيمبابوي الآن.

أما اليهودي الإنجليزي ضئيل الحجم والقيمة, بارني إزاك (إسحاق) والذي فضل أن يُدعى بارني بارناتو - لأسباب في بطن الأفعى - فقد وصل إلى جنوب إفريقيا أيضاً وحمّى الماس في بدايتها, وسرعان ما تحوّل هو أيضاً, وبالأدوات ذاتها بالتأكيد, من جرسون تافه في إحدى خمارات أفقر أحياء لندن والتي تدعى (كوكني) إلى مالك مناجم وبلدات وبشر, وشريك لسيسل رودس, ولاعب مركزي في إمبراطورية احتكار الماس العالمية (دي بير) التي تعطّل ورشاتها ومتاجرها ومعاملها في يوم السبت - حتى يومنا هذا!

إن الانتقال من الفقر إلى الثراء شيء مقبول في عالم البشر, عندما يكون ذلك عبر وسائل شريفة, أما عندما يكون الثمن مدفوعاً من لحم ودم المقهورين كما حدث في بلدان الجنوب الإفريقي كلها, من أجل السيطرة على الماس وغيره من ثروات تلك الأرض, فهو أمر يقتضي - على الأقل - اعتذار الغرب, ومعه كثرة من أباطرة المال اليهود, للأفارقة ومن تعذّب مثلهم, فليست (الهولوكوست) وحدها هي ما ينبغي الاعتذار عنه, ناهيك عن التعويض.

وعندئذ ربما يصير قلب الماس بريئاً من العتمة.

 

محمد المخزنجي

 
  




صورة الغلاف





عادم الكيمبرليت، يكوم ويعاد فحصه بحثاً عن دقائق الماس





ينخلون مليون جزء من الكيمبرليت ليحصلوا على 3 أجزاء ماس





العمال يمدون سلك التفجير داخل أحد أنفاق المنجم





آلة للكشف عن الماس إذ يضيء ذاتياً عند تعرضه لأشعة إكس





غرفة الطحن - تحت الأرض - تطحن 12 طن كيمبرليت يومياً





سيسل رودس





عنابر نوم العمال السود ومقبرة العربات التالفة في ساحتها





إحدى بوابات الأمن الإلكترونية في مدخل منطقة التنقيب





هل يعقل أن يكون الماس في هذا الحجر الرمادي المزرق؟





الماسات المنتجة صناعياً في كبسولة التكنوين





منازل العاملين في بريمير، كانت للبيض فقط أيام الحكم العنصري





ماسة القرن التي خرجت من بريمير كانت قبل الصقل تزن 599 قيراطا (إلى اليسار) وصارت بعده 273 قيراطاً (إلى اليمين)، والفاقد يستخدم في إنتاج ماسات صغيرة أقل نفاسة أو في الأغراض الصناعية





بارني إزاك (إسحاق)





عينات ونماذج من ماسات بريمير في معرض داخل المنجم





يتعرض المخروط البركاني لعوامل الطقس فيتآكل على السطح لكن يبقى الأنبوب في باطن الأرض مليئاً بالمادة التي بردت وتحجرت وهي الكيميرليت





تكتمل ثورة البركان ويخمد





يثور البركان قاذفاً الحمم المحتوية على نثار الماس في تكوينه الأولي عبر أنبوب البركان وإلى الخارج





يتكون المخروط البركاني





يمتد الشرخ إلى أن يصل إلى السطح





ضغط الحمم المنصهرة يشق الصخور في باطن الأرض