النهرواني سعى للتقرّب من العثمانيين بالهجوم على ابن ماجد

النهرواني سعى للتقرّب من العثمانيين بالهجوم على ابن ماجد

هل كان الهجوم الشديد الذي كاله (النهرواني) للرحالة أحمد بن ماجد, سعياً للتزلف إلى العثمانيين?

طالعت في مجلتكم (العربي) وفي العدد (506) يناير 2001 مقالاً بعنوان (ورابعهم... ابن ماجد), للكاتب العماني اسحاق بن سعود بن راشد البوسعيدي الذي سلّط فيه الضوء على العالم العربي أحمد بن ماجد. وهو مشكور لإحياء ذكرى هذا العالم الكبير الذي وضع أصول علم البحار واخترع البوصلة ورسّخ قواعد الأمان للسفن المبحرة بين الموانئ المختلفة. إلا أن الكاتب جانب الحقيقة وروّج لشائعة مغرضة - وعن غير قصد كما أعتقد حين أيّد اتهام أحمد بن ماجد العربي المؤمن بإرشاد فاسكو دي جاما إلى طريق الهند طريق الثروات والتوابل والتي سيطرت عليها البرتغال نتيجة لذلك, وقطعت الحبل السري عن الدولة العثمانية المسلمة. ويقول المغرضون إن أحمد بن ماجد خان قومه ودينه بهذا الإرشاد!

يقول الكاتب في مقاله ما يلي: (وينبغي ألا ننسى أنه أيضاً أرشد قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي جاما في رحلاته من مالندي Malindi على ساحل إفريقيا الشرقية إلى كلكتا في الهند عام 1498م, وتشير المصادر العربية إلى أن أحمد بن ماجد تصادف وجوده في مالندي أثناء زيارة فاسكو دي جاما, وأن الملاح البرتغالي حينما التقاه أعجب بغزارة علمه وشجاعته وطلب إليه أن يقوده في أول رحلة تتم عبر المحيط بين أوربا والهند..).

ويمكن شرح مايثبت بطلان أسطورة الإرشاد المذكورة بسرد الحقائق والوقائع التالية:

1- في عام 1497م/ 903 هـ قام فاسكو دي جاما برحلته الأولى إلى الهند وتكون أسطوله من ثلاثة مراكب تشبه السفن العربية المسمّاة (غراب), وقد أطلق عليها أسماء القدّيسين لأن من مهامها التبشير بالديانة المسيحية الكاثوليكية إضافة إلى الأهداف الاقتصادية, وقد قاد السفينة الأولى وهي سفينة القيادة فاسكو دي جاما باسم سان جبرائيل, وقاد الثانية لباولو دي جاما شقيق فاسكو دي جاما باسم سان رفائيل, أما الثالثة فقادها نيقولا كولخا باسم سان ميجيل, وكان عدد بحّارة السفن الثلاث 150 بحاراً فقط. وبدأت الرحلة يوم 25 مارس سنة 1497م/903 هـ من لشبونة, وسارت بمحاذاة الشاطئ الشرقي لإفريقيا مارّة بموريتانيا ثم السنغال ثم خليج غينيا فخط الاستواء فأنجولا حتى وصلت سواحل غرب إفريقيا. فاجتازت رأس الرجاء الصالح في 22 نوفمبر من عام 1497م وتابعت سيرها شمالاً لتصل في عيد الميلاد إلى شواطئ أطلق عليها اسم إقليم الميلاد وهي إقليم ناتال.

وفي يناير من العام التالي 1498م/904 هـ غرقت السفينة سان ميجيل شمال إقليم ناتال. وتابع فاسكو دي جاما سيره شمالاً بمحاذاة الساحل, وفي موقع بين كلوة وممبسة غرقت السفينة الثانية سان رفائيل وتابع فاسكو دي جاما سيره حتى وصل إلى ثغر ملنده (مالندي) في شهر مارس من العام نفسه, استقر فيه يرمم سفينته مدة شهرين, ويجمع المعلومات الملاحية عن طريق الهند, وقد التقى مع ملك ملنده الذي وعده بإعطائه مرشداً. ويقول خوا دو باروش المؤرخ البرتغالي إن ملك ملنده أرسل إليه ربّاناً من جوزرات يدعى المعلم كاناكا.

2- تقول سجلات سفينة رحلة فاسكو دي جاما ما يلي: (وفي يوم الأحد 22 أبريل بعث إلينا ملك زافرا واحداً من حاشيته المخلصين, ولما مرّ يومان دون أن يحضر زوّار إلى السفينة, اعتقل القبطان هذا الرجل وأرسل إلى الملك يطالبه بالمرشدين الذين وعده بهم, ولما تسلم الملك الرسالة أرسل مرشداً مسيحياً فأطلق القبطان سراح الرجل).

3- مما سبق, نرى أن المرشد كان مسيحياً وكان اسمه كاناكا, ولم يرد اسم أحمد ابن ماجد في أي مصدر من المصادر البرتغالية. ويعد غبرييل فران أول مستشرق ربط بين فاسكو دي جاما وأحمد بن ماجد استناداً إلى مخطوطة كتبها قطب الدين النهرواني صنيعة الأتراك, والذين أسندوا إليه منصبيّ الإفتاء والقضاء في مكة نظير الخدمات التي كان يقدمها لعظمائهم حين يحجون إلى مكة. فما هي هذه المخطوطة وما صحتها?

يقول قطب الدين النهرواني إن سنان باشا قائد الجيش التركي كلّفه بعد أن أتم فتح اليمن وعاد إلى مكة المكرمة حاجّاً كتابة أخبار هذه الرحلة, ونفّذ النهرواني رغبة القائد التركي, فوضع كتاباً باسم (الفتوحات العثمانية للأقطار اليمانية) وذلك سنة 1573م ثم طوّره وسمّاه (البرق اليماني في الفتح العثماني) وذلك سنة 1577م/985هـ وقدمه إلى السلطان مراد بن السلطان سليم, وقد ورد في الكتاب المذكور المقطع التالي: (وقع في أول القرن العاشر الهجري من الحوادث الفوادح النوادر دخول الفرتقال (البرتغال) اللعين. من طائفة الفرنج الملاعين إلى ديار الهند, وكانت طائفة منهم يركبون من زقاق سبته (مضيق جبل طارق), في البحر ويلجون الظلمات (بحر الظلمات) ويمرون بموقع قريب من جبال القُمْر (أي أبيض) وهي أصل ماء بحر النيل ويصلون إلى المشرق ويمرون بموضع قريب من الساحل في مضيق أحد جانبيه جبل والجانب الآخر بحر الظلمات في مكان كثير الأمواج لا تستقر به سفائنهم وتتكسّر ولا ينجو منهم أحد... إلى أن دلّهم شخص ماهر من أهل البحر يقال له أحمد بن ماجد صاحبه كبير الفرنج, وكان يقال له الملندي وعاشره في السكر فعلّمه الطريق في حال سكره وقال لهم: لا تقربوا الساحل من ذلك المكان وتوغلوا في البحر ثم عودوا فلا تنالكم الأمواج. فلما فعلوا ذلك صار يسلم من الكسر كثير من مراكبهم فكثروا في بحر الهند, وصاروا يقطعون الطريق على المسلمين أسراً ونهباً ويأخذون كل سفينة غصباً...).

ومن قراءة هذه الوثيقة (المخطوطة) نستخلص ما يلي:

1 - يعود تاريخ مخطوطة النهرواني إلى عام 1577م أي كتبت بعد مرور 85 سنة تقريباً على وصول فاسكو دي جاما إلى الهند, ولم يذكر النهرواني مصادره.

2 - أخطأ النهرواني في مخطوطته فجعل وصول فاسكو دي جاما إلى الهند عام 1495م مع العلم بأن وصوله المحقق كان سنة 1498م, وفي التاريخ المذكور كان أحمد بن ماجد قد اعتزل العمل حتماً أو مات إذ يبلغ عمره المقدّر في التاريخ المذكور نحواً من 87 سنة أو أكثر بقليل.

3 - لم يذكر المؤرخون الموثوقون اليمنيون الذين عاصروا وصول البرتغاليين إلى الهند هذه القصة المختلقة ومن أشهرهم:

- عفيف الدين عبدالله الطبيب بامخرمة الشيباني الشافعي (1465م - 1540م).

- وجيه الدين عبدالرحمن الشيباني المعروف بابن الديبع (ت - 1537م).

كما لم يشر إلى ذلك أمير البحر علي بن الحسين القائد التركي الذي كال المديح والثناء لأحمد بن ماجد في كتابه (المحيط) المأخوذ معظمه عن تصانيف أحمد بن ماجد وذلك عام 1554م. ولو أن هذه القصة الملفّقة حقيقية لسمع بها هذا المؤرخ التركي ولما غفل عن ذكرها وهو يعيش في منطقة الأحداث نفسها إضافة إلى خطورتها على الدولة العثمانية.

4 - لم يعرف أحمد بن ماجد ملنده ولم يزرها ولا علاقة له بملكها, فلم يرد في مؤلفاته وتصانيفه أي إشارة تؤكد ذهابه إليها باستثناء ما ورد في قصيدته (السفالية) حيث يقول:

(وبعدما أولاً ترى ملندي وقيل رأسه طويلاً يبدي).

أي أن معلوماته ليست عيانية وإنما (قيل) أي معرفة سماعية, فكيف إذن يجتمع فيها بفاسكو دي جاما ويرشده إلى طريق الهند?

5- إن اتهام أحمد بن ماجد بالسكر أمر في غاية البشاعة والافتراء, فالمعروف من خلال سيرة أحمد بن ماجد أنه كان متديناً ورعاً يتمتع بصفات الربان الإنسانية والأخلاقية والدينية خاصة, إذ كان يضفي على مهنة الربان صفة القدسية, فالخروج إلى البحر في كل رحلة كأداء فريضة الحج يتطلب من صاحبه طهارة البدن والروح وهو القائل في كتابه (حاوية الاقتصاد في أصول علم البحار): وإن تكن سافرت كمن حجج.

كما يقول في كتابه (الفوائد في أصول علم البحر والقواعد): (ينبغي أنك إذا ركبت البحر تلزم الطهارة فإنك في السفينة ضيف من أضياف الباري عز وجل, فلا تغفل عن ذكره).

ويقول في قصيدته (المكية).

(ركبت على اسم الله مجري سفينتي وعجلت فيها بالصلاة مبادراً)

ويجب ألا ننسى أن أحمد بن ماجد حج لبيت الله الحرام واستقر في مكة المكرمة وتزوج فيها وأسس بيتاً سعيداً. أليس لقبه شهاب الدين?

6 - يقول المستشرق الوحيد الذي أخذ وثيقة النهرواني وتبنى ما جاء فيها دون تدقيق, وهو جبرييل فران: (إلا أن الرواية القائلة بأن أميرال الشرق قد حصل على معلومات من أحمد بن ماجد بعد أن دعاه إلى الطعام وأسكره تبدو غير موثوقة, وفي رأيي أن خبر السكر مختلق بحذافيره وأكذوبة فيما يبدو).

7 - إن جميع الربابنة من عرب وعجم كانوا يمتلكون في ذلك العصر الرهمانجات (مرشدات السفر), وهي متداولة فيما بينهم وبواسطتها كانت تتم قيادة السفن بسلام, وليس من الصعب على البرتغاليين أو جواسيسهم أو رسلهم الحصول على المعرفة البحرية (الرهمانجات) فهي مبذولة للجميع, كما يجب أن نشير إلى أن البرتغاليين استفادوا من الخبرة الملاحية العربية المتقدمة ومن جداولهم الفلكية التي وجدت في إسبانيا ثم انتقلت إلى البرتغاليين على أيدي اليهود الذين طردوا من قشتالة المشهورة بعلومها البحرية وكان يقدر عددهم بـ120 ألفاً لجأ معظمهم إلى البرتغال آخذين معهم العلوم الملاحية العربية بعد أن نقلوها إلى العبرية.

وأخيراً إن كل الملاحظات السابقة تجعلنا نعتقد بضعف رواية النهرواني وعدم صحتها, وبأنها أسطورة متخيلة, وأن النهرواني اختلقها تزلفاً للعثمانيين مبرراً بواسطتها المصائب التي حلّت بهم نتيجة وصول البرتغاليين إلى الهند واحتكارهم أسواق التوابل وغيرها من المنتجات الهندية المختلفة, فألقى بمسئولية هذا الوصول على أكبر الأسماء المعروفة في ذلك العصر وهو أحمد بن ماجد زوراً وبهتاناً!!

 

زهير الكتبي