معجب الدوسري: رائد الفن التشكيلي في الكويت

معجب الدوسري: رائد الفن التشكيلي في الكويت

معجب الدوسري ليس مجرد فنان تشكيلي كويتي, وإنما هو آخر الروّاد التشكيليين الأوائل, ألوانه وضربات فرشاته تمثل البذور الأولى لرحلة الفن التشكيلي في الكويت.

عندما نأتي لتحديد بداية للفن التشكيلي في الكويت, غالباً ما تأخذنا الذاكرة إلى بداية الخمسينيات من القرن المنصرم, في الوقت الذي زاول فيه الأستاذ معجب الدوسري مهنة التدريس في المدرسة المباركية بهمّة ونشاط كبيرين. كانت المدرسة المباركية تضم جميع طلبة المرحلة الثانوية من الذكور وذلك في السنة الدراسية 1952-1953 ثم في ثانوية الشويخ بعد أن تم نقلهم جميعاً إليها في بداية السنة الدراسية التالية, حيث مارس العمل فيها لمدة عامين دراسيين حافلين بالعطاء إلى أن مرض واشتدّ عليه المرض, فانقطع عن العمل بشكل مأساوي. وكانت وفاته في صيف 1956. على الرغم من قصر فترة العمل التدريسي إلا أنه تمكن من طرح تصوّر واضح عن الفن التشكيلي الذي كان يرغب في أن يراه سمة بارزة للحياة الثقافية في الكويت الجـديدة, كويت ما بعد النفط.

النظرية والتطبيق

وكان المطلوب وفق هذا التصور أو الصيغة, هو أن يأخذ الفنان الكويتي من الغربيين أساليبهم الأكاديمية في فن التصوير (وهي المتعارف عليها في معاهدهم والمجسّدة في الأعمال الموجودة في متاحفهم), ثم يقوم بتوظيفها في تسجيل معالم الحياة والبيئة والتراث في الكويت تسجيلاً يؤكد خصوصية الإنسان والمكان. تبلور ذلك في ممارساته الفنية وخلال الفترة القصيرة التي قضاها في ممارسة التدريس والتي لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات من عمره, ورغم أن الأعمال الفنية التي تركها لا تجسّد ذلك التصوّر بوضوح, أو بصورة مقنعة, لا من الناحية التقنية, ولا من ناحية الموضوع, إلا أن هذا التصوّر سرعان ما لاقى قبولاً واسعاً في الأوساط الرسمية وغير الرسمية, ولاسيّما عند الفنانين أنفسهم, الأمر الذي جعل منه مشروعاً مستقبلياً للفن التشكيلي في الكويت ساهم مساهمة كبرى في رسم اتجاهاته وتحديد معاييره إلى عهد قريب.

ولعل السبب وراء القبول الواسع الذي لاقاه ذلك التصوّر يعود إلى أمرين: الأمر الأول هو هيمنة الاتجاه التحديثي في المجتمع الكويتي في بداية الخمسينيات على كل المجالات الثقافية, والتعليمية, والعمرانية, وتراجع الاتجاه المحافظ الذي كان آنذاك في حال انحسار وتقوقع. كان الاتجاه التحديثي يدعو إلى نبذ التخلّف في شتى مظاهره, وإلى اللحاق بالبلدان الغربية المتقدمة, وذلك من خلال تبنّي نظمها ومؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وكان مقياس النجاح في ذلك هو مدى رسوخ ذلك التبنّي في حياتنا بوجه عام. وكان تيار التحديث هذا من القوة والنفاذ بحيث أنه لم يكد يجد من كان يعارضه, وإنما كان أغـلب النـاس يتجاوبون معه كما لو كان جزءاً من (فلسفتهم في الحياة) أو قـدرهم المحتوم.

التغيير... والقبول

فالصيغة التي طُرحت في بداية الخمسينيات, والتي كانت تدعو إلى استخدام أساليب الغربيين الأكاديمية في تصوير معالم الحياة والبيئة المحلية كانت تنسجم تماماً مع المناخ الفكري السائد آنذاك في البلاد. فلا غرابة إذن في أن تلاقي تلك الصيغة, أو ذلك التصوّر, كل ذلك القبول الذي لاقته بالفعل.

وأما الأمر الثاني, فهو شعور الناس عموماً, آنذاك, بأنهم مقبلون على تغييرات كبيرة تمسّ كل جوانب حياتهم, وأنهم سوف يفقدون الكثير مما ألفوه من عادات وتقاليد, وأوضاع معيشية, وأشياء أخرى صغيرة وكبيرة, كانوا لا يعرفون للحياة من دونها طعماً ولا معنى.

وبالرغم من الإغراءات الكثيرة التي كانت تلوح لهم بالأفق وتعدهم بأن تضع حداً لشظف العيش الذي عرفوه, والحياة التي كانوا يعانون منها هم وآباؤهم من قبلهم, فإن هذه الإغراءات ما كانت لتحجب عنهم ذلك الغلق الذي كان يثيره في نفوسهم تخوّفهم من المستقبل المجهول الذي سينقلهم من حال عرفوها وألفوها إلى حال أخرى لا عهد لهم بها, لذلك كانوا بحاجة, على ما يبدو, إلى ما يسكّن روعهم ويطمئنهم, فوجدوا ضالتهم في التصاوير التي تعكس عاداتهم وتقاليدهم, وتسجل تفاصيل حياتهم وبيئتهم التي عرفوها من قبل. وهذا وحده يكشف لنا سرّ ارتياحهم لهذه التصاوير وتعلقهم بها.

ولننظر الآن كيف انطلقـت مسيرة الفن التشكيلي في الكويت وفق هذا التصوّر أو هذه الصيغة.

أول المتجاوبين

إن أول من تعامل مع هذه الصيغة من الفنانين التشكيليين, بطبيعة الحال, هو معجب الدوسري نفسه, تمثّل إحدى اللوحات القليلة التي رسمها معجب عدداً من النساء يغسلن الملابس في مياه الخليج الضحلة, على عادة الناس في ذلك الزمان. إننا إذ نتأمل هذه اللوحة الآن وبعد مضي قرابة الخمسين عاماً على رسمها لا نجد فيها فنياً, ما يسترعي الانتباه, لا في التكوين ولا في الأداء. كل شيء يبدو متواضعاً, ولعل أول ما يلفت نظرنا هو الضعف الواضح في التشريح. فالنساء الثلاث اللاتي يقُمْن بعملية الغسل يظهرن وكأنّهن ثلاث حبّات من الباذنجان أو التين, وذلك لعدم إعطاء الوجوه والأطراف الاهتمام الذي يليق بها كعناصر أساسية في مقدمة اللوحة, أما المرأة الواقفة في أقصى الشمال, فحجمها بالنسبة لمنظور اللوحة العام, صغير جداً, كما أن رسم مقدمة اللوحة يفتقد التحديد والقوة في اللون, مما يجعلك تشعر وكأن المنظر مأخوذ من علو.

لاشك أن ما يسترعي انتباهنا في هذه اللوحة هو الموضوع والموضوع فقط, أين يمكنك أن تشاهد هذا المنظر الآن? نساء يلبسن (الثوب) (غير ظاهر في اللوحة) والعباءة ويحملن الغسيل في (بقشة) على رءوسهن ويذهبن بها إلى شاطئ البحر ليقمن بغسله على امتدادات الصخور البحرية بأيديهن, مستعينات فقط بأداة خشبية تسمى (مضرابة)! لكن ذلك كان في كويت ما قبل النفط, مشهداً يومياً مألوفاً, لاسيما في (نقعة معرفي) وما يليها من الجانبين, الشرقي والقبلي, كنّ يفعلن ذلك بصمت وتسليم, كحالتهن الآن حين يأخذن سياراتهن لتعبئة خزاناتها بالوقود.

ولكن ماذا عن الجانب التقني لهذه الصيغة التي اتخذها معجب منهجاً له في الفن? كيف استفاد من أساليب الغرب وتقنياته في التصوير? الحقيقة أن معجباً, وبالرغم ممّا كان يملكه من موهبة وطموح, لم تكن تجربته في مجال التصوير قد بلغت مرحلة النضج بعد, بل كانت لاتزال في مراحلها الأولى, وهذا ما أعطى خروجه من الساحة صفة مأساوية مؤلمة. لذلك يخطئ من يقيّم اللوحات التي تركها لنا معجب باعتبار أنها تمثّل تجربة ناضجة للفنان.

إن تجربة الفنان معجب الناضجة وقف في وجهها الموت فحال بينها وبين الظهور, أو قل إنها ظهرت متجسّدة في أعمال من مهّد لهم معجب الطريق من فنانين كويتيين وغير كويتيين في منطقة الخليج.

ويخطئ أيضاً من يجعل للوحات معجب أهمية فوق أهميتها الحقيقية كجانب مادّي من (تركة) الفنان, فهي ليست مصدر ريادته وفضله.

 

عبدالله صالح التقي

 
 




نساء يغسلن... إحدى لوحات معجب الدوسري









الشيخ عبدالله الجابر رئيس دائرة المعارف وعلى يمينه الفنان معجب الدوسري في افتتاح المعرض التشكيلي عام 1954





الصلاة