(دار الآثار الإسلامية): استعادة الزمن المفقود

(دار الآثار الإسلامية): استعادة الزمن المفقود

آلاف التحف تروي رحلة الزمان والمكان

عشرات الآلاف من قطع أثرية بامتداد التاريخ الإسلامي تقبع في دار الآثار الإسلامية, كاشفة عن تاريخ عريق وحضارة تظل دائماً مبعث فخر واعتزاز.

محاولة إسقاط القديم على الجديد, أو الجديد على القديم, أدخلتنا في متاهة نحار إلى الآن في الخروج منها, ابتداء من الشخصيات الدينية وارتباطها بالسياسة قديماً, وانتهاء إلى محاولة قراءة الفنون والآداب التي تبلورت بمنظور جديد هو نتاج لكل العصور, وكل الهموم الحضارية.

وفي كتاب (الفن والإنسان) للدكتور عز الدين إسماعيل نراه يتساءل عن حضارة العرب قبل الإسلام, ثم يقول (فنحن نقرأ دائماً عبارة فن الأرابيسك وهي تعني الفن العربي, فهل فن الأرابيسك هو الفن الإسلامي نفسه?).

ورغم أنه ينتهي إلى أن فن الأرابيسك هو جزء من الفن الإسلامي بمفهومه الأشمل, فإن منطلق السؤال نفسه فيه هذا الإسقاط, فقد نسي الدكتور إسماعيل أن المصطلح أساسه غربي, ونشأ لتمييز نوع بعينه من الفن وبدرجة معينة من وجهة نظر المدارس الغربية.

وإلى الآن, هناك من يتصور أن حياة الصحراء هي التي شكلت للعربي مزاج الفن التجريدي بما فيها من صمت وتدرج وإيقاع متكرر, وهو نوع آخر من إسقاط الحديث على القديم دون مراعاة لعنصر الزمان.

فن الزمان وفن المكان

حينما خرج العربي من الجزيرة العربية كان يحمل فن القول, الإيقاع الشعري, الفن المعتمد على الأوزان الموسيقية دون موسيقى, الفن أو الإبداع الزماني, فالكلمة يحملها الرأس, والكلمة الموقعة الموجزة تحفظها الذاكرة في صندوق غير مستقر ينتقل مع انتقال صاحبه.

التقى الفن الزماني, مع الفنون المستقرة بالعمارة والتشكيل أرسى الفنون والإبداعات المكانية في حضارات الرافدين والشام ومصر, ولاشك أن عقيدة التوحيد لعبت دوراً في تكوين فن الزمان أو المكان, فيسر ذلك التقاء المكان بالزمان في غير خصومة, وحينما احتاجت العقيدة الجديدة إلى أن تستقر بإبداع الزمان - بإبداع القول - وكان أفضل إبداع للقول هو القرآن الكريم - وجدت لها مقراً ومستقراً في فنون المكان. في فنون التشكيل بالعمارة, أو التشكيل بالحرف, أو التشكيل على كل أدوات الاستخدام اليومي, من ملابس وصحون, إلى مشكاوات, وأسرجة, إلى سيوف وشواهد قبور.

ولكيلا لا نقع في متاهة الإسقاط, علينا أن نتبين أن مصطلح (تشكيل) حديث رغم استخدامنا له لتصوير إبداعات القدماء. فلم يحدث أن (مُدرِسَتْ) فنون القول أي فنون الزمان, ولا (مُدرِسَتْ) أيضاً فنون التشكيل بمفهومنا الواسع, أي فنون المكان, وقد نجحت فنون الكلمة نسبياً من المطاردة, رغم عزفها على آلة صريحة حتى بعد أن تكوّنت الدولة الإسلامية الكبيرة, نتيجة لحرية حركة صاحبها وإمكان انتقاله دون حواجز من منطقة لأخرى.

وكان حظ الفنان (التشكيلي) التجريدي أفضل, فقد خرج من نطاق مطلب صاحب السيف بأن يشكل له ما يمجّد شخصه كقصائد المدح أو المناسبات, وإن أبدع له مسجداً عظيماً فهو من صنع جماعة, ولاستخدام جماعة, وحتى إن بنى له قصراً, فهو مشكل في الداخل بمزاج من وحدات نباتية أو هندسية أو غيرها لا تنسب إلى سلطة زمانية أو مكانية.

لم يقع فنان ذاك الزمان في صراع مع نفسه أو مع سلطته, لم يقع في صراع (دافنشي) فنان التشخيص. بين تصوير الشخصيات الدينية أو تصوير الشخصيات الأسطورية, أو تصوير الشخصيات الحسيّة. لم يقع في صراع الفنان (جويا). بين تصوير شخصيات القصر والنبلاء, أو تصوير شخصيات الثوار والفقراء.

كما أن فنان ذاك الزمان لم يكن فناناً, فإبداعه لا يكتمل إلا بمشاركة مجموعة إلى جواره لا تقل عنه عطاء لتشكيل الجدار, أو النسيج, أو الخشب, أو الخزف... إلخ. فنان ذاك الزمان لم يسوِّق أعماله من (سيدني), ولا (كرستي), ولا طاردته الصحافةووسائل الإعلام, ولا أقام معرضاً, فما بالك بالمتحف!

فنان ذاك الزمان كان على باب الله, وليس على باب أحد دون شعور بالتعالي بإبداعه, الفن كان معاشاً يصدر عن جماعة ليقدم لجماعة.

عشرة قرون

لا عجب بعد ذلك إن سمعنا همسات, بل أصواتاً صريحة بين جمهور غفير حضر حفل افتتاح (دار الآثار الإسلامية), ليلة 23 فبراير عام 1983.

بعضها تحدث عن بذخ الإنفاق على عائد غير مرئي, وفي حالة التفاؤل تحدث البعض من معبر تشكيلي غربي, وفي حالة الإسقاط تحدث البعض من معبر الأمجاد الغابرة. وتحدث طرف رابع من معبر الإعجاب بالجهد العلمي, واكتفى البعض بالإعجاب بالجانب الجمالي أو الزخرفي.

وتحفّظ طرف سادس فأبدى إعجابه من معبر عقائدي يميل بعض الميل إلى (الطوطمية).

وسط القوارير, والطسوت, والأباريق, والمزهريات, وسط الشمعدانات, والأواني, والمحابر, والقماقم, والأقلام.. وسط فنون التغشية, والنقش, والرقش. وسط فنون الطلاء, والصب, والتكفيت, والنفخ, والحفر. وسط فنون النسج, والختم, والنسج, وجدتني بدوري أهمس: هل مَن همس أو أعلن, كمن سعى وأنجز?

سعى الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح بجهد إلى تكوين هذه المجموعة, وأنجزت زوجته الشيخة حصة صباح السالم الصباح نظمها في عقد من تتابع العصور. قاعات (دار الآثار الإسلامية) كانت تعرض عند افتتاحها في 23 فبراير 1983في أحد أبنية متحف الكويت الوطني 1200 تحفة فقط من ثروتها الفنية التي تربو الآن على عشرين ألف تحفة, توخّت في الاختيار انتظام العصور من القرن الثامن الميلادي, إلى القرن الثامن عشر الميلادي. حرصت على اكتمال الانتقاء من مناطق الإبداع المختلفة, وعلى تنوّع في مفردات الفنون الإسلامية.

مما تضمّه المجموعة من فن الخط العربي نماذج للخط المائل المبكّر في صدر الإسلام, والخط الكوفي الغربي والشرقي, والخطوط على تحف فنية متنوعة. ونقارن بين صفحة من مخطوط مصحف كريم تعود للقرنين 7/8م, وصفحة من مخطوط مصحف كريم تعود للقرن العاشر الميلادي. نلاحظ في الثانية مطاوعة الخط ليد الفنان, ينغم به عن إيقاع أكثر إحكاماً في مد الحروف أو انحنائها, وتكوين الفراغ الداخلي بين السطور بما يوهم بالالتحام بينهما.

ومن هذه المجموعة أيضاً مسرجة فخارية أموية, نلاحظ فيها الخط العربي في مراحله الأولى. يدخل في استحياء إلى مواد الاستخدام البسيطة, كتب عليها (صنعه يزيد بن صهيب جرش في سنة تسع وتسعين) أي (717م). الحروف ليست مجرد توقيع الصانع, فقد جمعت بين الطابع الهندسي, ورغبة التفريغ بالانحناءات.

وننتقل إلى عصر متقدم, إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي, يدخل الخط العربي صريحاً منغماً في بعض مناطق العالم الإسلامي. نقارن بين جرة خزفية من مصر (الثاني عشر والثالث عشر الميلادي), وثانية من إيران من الفترة نفسها. الأولى يدخل فيها الحرف العربي على بدن الجرة في استطالة, يمتد من وسطها ليصل إلى ما يقرب الرقبة في جرأة تشكيلية, بينما نلاحظ أن الخط في الثانية يتيم معزول على رقبة الجرة. صلته مقطوعة بين حروفه, وبين بقية التكوين على بدن الجرة.

ومن فنون الخزفيات تضم مجموعة (الدار) نماذج عراقية تعود للقرنين التاسع والعاشر, وأخرى تعود لمصر من القرن العاشر, وثالثة تعود لسوريا من القرنين الثالث عشر والرابع عشر, ومجموعة زجاجية, وبلورية من مصر وفارس من القرون من العاشر إلى الثالث عشر الميلادي, ومجموعة برونزية, وذهبية من فارس, وسوريا, ومصر من القرن العاشر إلى الخامس عشر الميلادي.

ومن الخزفيات المميزة بالتكوينات النباتية من إيران إناء من القرن العاشر الميلادي, وبلاطة نجمية من القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي. وقارورة بمصب من القرن السابع عشر الميلادي, أحسن فيها الفنان توظيف الوحدة الجمالية من نبات وطيور في إحكام وخبرة. ودلاية من البرونز الأحمر أو النحاس من القرن الرابع عشر, نرى فيها إحكام الترابط الداخلي للوحدة الزخرفية النباتية في إطار متناغم من كلمات قدسية تشكيلية, تجمع بين العفوية والتوزيع المتقن. ومن سوريا في فترة متقدمة زمانيا تستوقف المتذوق صينية خشبية تعود للقرن الثامن الميلادي. ولوحة خشبية فاطمية يتحقق فيها التماثل بغير تماثل (القرن الحادي عشر).

ومن عناصر المزاوجة أو المجاورة بين الخط, والتشخيص الأسطوري لحضارات سابقة على الإسلام جاء الوعاء البرونزي من أفغانستان (القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلادي).

ومن عنصر المزاوجة أو المجاورة بين الوحدة الزخرفية النباتية, والوحدة الزخرفية الهندسية جاء غلاف كتاب من تركيا (القرن الخامس عشر), وتحفة صغيرة تمثل وعاء صغيراً بغطاء من العاج من تركيا (القرنين الخامس عشر والسادس عشر), ومصراعا باب خشبي من إيران (القرن الثاني عشر الميلادي), وإبريق مكفت بالفضة والذهب من (هراه) القرن الخامس عشر الميلادي.

أما أسلوب رسم الصور والأشكال الذي استخدم باقتصاد في العصر الإسلامي المتقدم, فقد لعب دوراً تنغيمياً مهماً في العصر اللاحق, لاسيّما في العصر الفاطمي بمصر, والسلاجقة الأول في فارس, كالرأس المرسوم ببراعة على كسرة من الخزف (مصر القرن الحادي عشر الميلادي). وأشكال الحيوانات الكثيرة على نفير الصيد العاجي (صقلية العربية القرنين الحادي عشر والثاني عشر), والجمال ذات السنامين على سلطانية فارسية (القرنان الثاني عشر والثالث عشر), والمقبض البرونزي بتجسيم بشري (فارس -القرن الثاني عشر).

ومن مخطوطات (الدار) النادرة مخطوطة (منافع الحيوان) لأبي سعيد عبيد الله بن بختيشوع (فارس - القرن الرابع عشر), ومخطوطة (الشاهنامه) للفردوسي (فارس - القرن الرابع عشر), ومخطوطة (خمسة) لنظامي (فارس - القرن الخامس عشر), ومخطوطة (سبحة الأبرار) للجامي (القرن السادس عشر). ومخطوطة كتاب (معرفة الحيل الهندسية) للجزري (مصر - القرن الرابع عشر).

وفي القاعة الأيوبية كان يشمخ الباب المغربي, ارتفاعه 443 سم, ويعود إلى العصر الأيوبي من القرن الرابع عشر, أحرقه جنود العدوان العراقي بعد تدمير مبنى (الدار) من الداخل عام 1990.

ومن العصر الإسلامي المتأخر تضم تحف (الدار), مجموعة متنوعة كمّاً وكيفاً من الخزف الفارسي (القرن السابع عشر), والعثماني (القرنان السادس عشر والسابع عشر), ومجموعة مجوهرات نادرة من الهند المغولية تعود للقرنين السابع عشر والثامن عشر, فضلاً عن مجموعة السجاد الفارسي, والهندي والتركي من القرنين (السابع عشر والثامن عشر), ومجموعة النسيج التركي, والفارسي, والهندي من القرنين (السادس عشر والسابع عشر), هذا غيض من فيض تحف (دار الآثار الإسلامية), والتي تحتاج إلى عديد من جهود الدارسين علمياً, وفنياً, وحضارياً.

معالم وجهود

ونجمل معالم وأنشطة (دار الآثار الإسلامية) خلال الثمانية عشر عاماً الماضية في النقاط الآتية:

- أروقة (الدار) وزّعت على ثلاثة أدوار. العلوي ضم في قاعته الأولى صدر الإسلام والعصور الأموية, والعباسية. وضم في قاعته الثانية العصور الطولونية والإخشيدية والفاطمية. وضم في قاعته الثالثة العصور السامانية, والغزنوية والسلجوقية, وضم في قاعته الرابعة العصر الالخاني, وفي الدور الأوسط ضمت القاعة الأولى العصر الأيوبي, وضمت القاعة الثانية دولة بني نصر, والمارينيين, وفي الدور الأرضي ضمت القاعة الأولى العصور التيمورية, والصفوية, والعثمانية, وضمت القاعة الأخيرة المجوهرات الهندية المغولية.

- مكتبة (الدار) تكوّنت بجهود متعددة وتربو الآن على ثمانية آلاف مجلد من أمهات الكتب النادرة, فضلاً عن الدراسات الحديثة, منها ترجمة (سيل) Sale للقرآن الكريم إلى الإنجليزية, وطبع عام 1734. و (وصف الجزيرة العربية) لـ نيبور وطبع عام 1774. ونسخة من كتاب (وصف مصر) , ومؤلفات لـ (سفاري) , و (دافين) , و (بلزوني).

- إقامة ما يزيد على 25 معرضاً داخل الكويت وخارجها, لعل أبرزها المعرض العالمي المتنقل (الفن الإسلامي ورعايته كنوز من الكويت), بدأ من روسيا عام 1990. وانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية, فكندا, فأوربا, فالقاهرة, فالرياض, فالبحرين. ثم المعرض العالمي المتنقل الثاني (ذخيرة الدنيا, فنون المصوغات الهندية في العصر المغولي الإسلامي), وافتتح بالمتحف البريطاني في 16 مايو هذا العام.

- تكوين أول بعثة عربية للتنقيب عن الآثار الإسلامية في منطقة البهنسا في صعيد مصر. أشرف عليها البروفيسور (جيزا فهرفاري) عام 1985.

- إصدار أكثر من 40 كتاباً وكتيّباً عن مقتنيات الدار وأنشطتها, فضلاً عن دورية الدار (حديث الدار) ونشرتها الشهرية (بريد الدار).

- تقديم ما يزيد على 250 ندوة, ومحاضرة, ودورة تدريبية داخل الكويت وخارجها, تدور حول القضايا الحضارية العربية والإسلامية والعالمية.

عود على بدء

في عام 1990 تعرضت (دار الآثار الإسلامية) لمحنة العدوان, وبعد التحرير عام 1991 استأنفت أنشطتها الثقافية ولكن بعيداً عن مجموعة تحفها التي حفظت علمياً إلى حين ترميم وتأهيل موقعها القديم.في فبراير عام 2003 سيعاد افتتاحها, ستستأنف جهودها في محاولة لانتظام حبات عقدها, مع حبات عقد زمان كان ينتج الفن في محيط يسربل الزمان بمفردات فنون المكان .أما قضية الفنون الإسلامية في زماننا, فأمرها شديد التعقيد, لقد غاب عنا التأسيس الفني كما تبلور في تراثنا, وكان من الطبيعي أن تغيب عنا الرؤية الجمالية الغربية, أو تصتنع. باتت الفنون عندنا في أحسن الأحوال زينة اجتماعية, أو تسلية راقية, وفي أسوأها ريبة وتوجّساً, أو حراماً وجرماً.

 

محمد المهدي

 
 




الحرف يمتد في جرأة لأعلى جرة من مصر





إبريق مكفت بالفضة والذهب (هراه - القرن 15 م). مزواجة بين الوحدة





مخطوطة (سبحة الأبرار) للجامي (فارس 16 م)





مقتنيات الدار في أحد المعارض بلندن





زجاجة (سوريا أو مصر - القرن 14 م)





الزخرفية الهندسية والنباتية





جانب من معرض للدار مقام في العاصمة البريطانية لندن