مـبارك الخـاطر.. مؤرّخ الثقافة في البحرين والخليج

مـبارك الخـاطر.. مؤرّخ الثقافة في البحرين والخليج

بوفاة مبارك الخاطر يرحل واحد من أهم وأبرز مؤرخي الحركة الثقافية والفكرية في البحرين والخليج العربي. وحين نقف ونتساءل عما يُسقطه رحيل هذه الشخصية الثقافية من فراغ نكتشف إشكالية خطيرة لا تزال تؤثر وتخلخل في سياق الحركة الثقافية.

لقد كان الخاطر واعياً بصورة عفوية لإشكالية التقطع والانكسار الحادث بين أجيال الثقافة في البحرين والخليج على مدى قرن ونصف قرن تقريباً.

وأكاد أقول بصورة نادرة لم تتحقق إلا لنفر قليل ممن احتفلوا بالتأريخ للثقافة في منطقة الخليج أذكر منهم علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر وخالد سعود الزيد في الكويت.

وأساس الإشكالية التي أعنيها أن تاريخ الثقافة في الخليج يتحرك في شكل كتل أو دوائر منغلقة, فما إن يتأسس تيار من المثـقفين وسط حركة اجتماعية وثقافية وسياسية حتى يعقب ذلك كارثة تقطع بين تيار ناهض في التو وتيار تلوح له في الأفق متغيرات جديدة تفرض مسارها بشكل حتمي لا راد له .. هكذا نشهد التاريخ الثقافي يتحرك منكسراً مع تنحية الشيخ محمد بن خليفة الخليفة ثم تنحية الشيخ عيسى بن علي الخليفة وما واكب ذلك من أحداث سياسية واجتماعية في السنوات الأولى من العقد الثالث أوقـفت تيار الحركة الوطنية الإصلاحية ثم مع أحداث الأربعينيات ونهاية الحرب الثانية ثم أحداث الخمسينيات وما صحبها من توقف شمل الصحافة والأندية وأتى على الحركة الوطنية والثقافية بالشتات .. وهكذا لا تكتمل سنوات عقدين من الزمان - وهي بالكاد عمر جيل واحد من المثقـفين - حتى تدهم متغيرات الحدث المحلي والعالمي تيار الإصلاح وحركة القوى الثقافية والوطنية بما يقطع صلتها بالتغيّر, ويبعد أحلامها عن الواقع فراسخ جديدة .. وعقداً إثر عقد من الزمان تراكمت صورة التقطع بحيث أصبحت ظاهرة أو إشكالية يتـقاطع خلالها السياسي بالاجتماعي والثقافي بالسياسي, وتتعقد الأسباب لتصل إلى حدود ينكفئ فيها المثقفون وراء العزلة والخوف والشتات, ويركنون لحتمية ما يهيمن من متغيرات جديدة.

التأسيس والتواصل

وفي هذا السياق لم يتبلور أي برنامج ثقافي أو وطني على صعيد الواقع ولم تتح له تجربة التطبيق والممارسة إلا على صعيد التعليم, الأمر الذي باعد بين الأجيال وجعلها تهدم ما تبني ... أو تبدأ من جديد بدايات جديدة, وفي تاريخ الثقافة في الخليج لا تتوافر حلقـات تصل بين البدايات المتكررة تلك, وتعيد التراكم الثقافي فوق ما انهدم, وتبعث قيم التأسيس والتواصل فوق المساحات التي بدت للأجيال الطالعة وكأنها مساحات فارغة .. وأرى اليوم أن أمتن الحلقات التي يمكن أن نتمثلها بشكل نادر واستثنائي تعبـّر عنها شخصية مبارك الخاطر, وتصوغها كتاباته المُكللة بالتعب والأمل في آن واحد, كتاباته التي أقامت سياق التراكم, وأضاءت المساحات الفارغة والمظلمة وكشفت عن المناطق المنسية والمهمشة وجعلتها في صلب حركة القوى الثقافية.

الحساسية الذاتية

لقد شكّلت عبارات الإهداء وعتبات كتب مبارك الخاطر الإستراتيجية العامة لخطابه في التاريخ الثقافي للبحرين والخليج, وهي إستراتيجية وصفتها بأنها تحقيق للوفاء والاستجابة الغائبة أو المعاكسة لما ران على الثقـافة والمثقـفين من تهميش وعزلة واستبعاد. وكأني بالخاطر يكتب ويؤرخ لخطاب التنوير الثقافي وسط مرايا متجاورة, بعضها يتمثل في شخصيات يستـنبت ذاته من ذاتها وحضوره من حضورها وإحساسه الوطني من إحساسها, وبعضها يتمثل في أحداث أو سياقات أو جماعات يرى نفسه وسط تداعياتها. ويراقب توثبه في خضم توثباتها وكان منظوره إزاء هذه المرايا يتـوزّع في ثلاثة مواقع:

الأول: موقع الإحساس بالرثاء والوفاء والإشفاق الذي جعله يتقمص أدوار المثقـفين والمشايخ وعلماء الدين والتربويين أمثال الزائد والمعاودة والشيخ الزياني, والشيخ إبراهيم بن محمد وناصر الخيري, ومحمد صالح ضحى والصحاف وبن جاسم والنبهاني والناخي وغيرهم كثيرون, وهو موقع عبرت عنه إسقاطات عاطفية واضحة في أسلوب عرض الخاطر لمسيرة هذه الشخصيات, ولزاوية النظر التي يموضع خلالها ذاته ويعكس بواسطتها تأثيرات تلك الشخصيات في منابت استجابته الراثية لحال المثقـفين ولإحباطاتهم ... ولم يخفِ الخاطر خلال ذلك إحساسه بمآل التغيير عبر خطاب التنوير الثقافي الذي أرّخ له وكرّس حياته لجمع مادته, وتكوين متنه ومادته, فقد سرّب لنا إحساساً مريراً بما غمر حياة هؤلاء الذين يُعدون من رموز الحركة الوطنية والإصلاحية من شتات وإبعاد وإصرار على أن توضع صفحاتهم الناصعة في دائرة العمى والإهمال, وأن يتم تكريس عزلتهم عن السياق الفعلي لتطور خطاب التنوير والإصلاح في منطقة الخليج.

لقد نهض موقع الخاطر هنا بتشخيص ما اتفق على نسيانه, والوفاء لمن اتفق على نكرانه في الخطاب الثقافي التنويري في البحرين والخليج, ولم يستطع واحد من المثقفين الذين أرّخوا للثقافة أو للحركة الوطنية أن يضع نفسه في هذا الموقع بذات الروح الوطنية المضحية وذات الصورة المتماهية مع الرموز والأحداث والسياقات والجماعات التي قام باستقراء مساراتها مثلما فعل مبارك الخاطر.

الثاني: موقع الحساسية الوطنية التي أسقطها الخاطر من ذاته متحسساً بواسطتها اللحظات العارمة بالانتماء للوطن والعروبة والإسلام في تجارب المثقفين والعلماء والمشايخ والجمعيات والأندية التي عاصرت مراحل الاحتكاك الأولى بالمستعمرين والمبشرين والمنقسمين على العروبة والوطن والمتنازعين على النفوذ والحكم, والمنصهرين بحياة السخرية والتخلف ... عاصروا كل ذلك في ظروف صعبة تتسم بالحتمية وتجعل أي مواجهة معها غيـر متكافئـة بكل المعايير ...

وغني عن البيان أن الخاطر قد وعى الدنيا في مرحلة وطنية دقيقة (الخمسينيات) مرحلة هيأت حضناً مواتياً للعمى إزاء تاريخ الثقافة وتاريخ حركة القوى الوطنية في القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ... لقد كانت الإدارة البريطانية تفطم أجيال المثقفين من أن ترضع من بعضها البعض عن طريق خلع الحكّام الذين يتسمون بالنزوع الوطني والرغبة في الاستقلال عن السلطة البريطانية المباشرة, كما حدث ذلك مع خلع الشيخ محمد بن خليفة وخلع الشيخ عيسى بن علي .. وكان ذلك يُحدث قطيعةً حقيقيةً تهيئ المناخ الملائم للعمى إزاء الماضي بأكمله وليس إزاء الثـقافة وحركات التنوير والإصلاح فحسب .. فما بالك إذا كانت المسألة تتصل بقضية الثقافة .. إن هذه وحدها مفرده تُلخّـص ظاهرة العماء إزاء الماضي القريب .. لأنه يشكّـل الماضي الذي كاد أن يحرّك النظام ويزحزح حركة التاريخ .. ويواتي لرسوخ قيم العقل والوطن. ولذا كانت ذكرى أحداث الثلاثينيات الوطنية غائبة وسط أحداث الخمسينيات .. وكذلك كانت ذكرى أحداث الخمسينيات غائبة في الستينيات والسبعينيات .. كان مبارك الخاطر يحدّق في استمرار العمى والغياب بإحساس وطني مختزن, ولم يكن يعبّـر عن ذلك بأي استقرار أو صدام مع سلطة .. أو مع مؤسسة أو مع نظام وإنما كان يعبّر عنه عبر فضح أشكال العمى والغياب عن الرموز والمواقف الوطنية المضيئة المغيبة بالتواطؤ والتهميش .. كان يرى الأيام تمضي وتكر فيزداد العمى تكريساً لغياب الروح الوطنية في حركة الثقافة وحركة المجتمع, ومن ثم كان يحرق عمره من أجل بلوغ اللحظة التي يكتشف فيها شخصية وطنية مغمورة, أو تجربة ثقافية منزوية منفلتة من ذاكرة الأجيال ..

الثالث: موقع الخوف من الضياع والشتات الذي اتخذ الخاطر منه محفزاً لا يدفعه إلى الإبقاء على ما يمكن الإبقاء عليه فقط وإنما يدفعه للإبقاء على ذاته أيضاً, ذلك أنه لم يكتشف ذاته في موجود مادي أو معنوي متعيَّـن مثلما يكتشفها عندما يستكمل سيرة إحدى الشخصيات التي تُـوقد حساسيته الوطنية, وتشع بذاكرته الشعبية, أو عندما يستجمع كوة من ضوء وسط الظلام الذي يحيط بتجربة أو ظاهرة أو معلومة دقيقة منفلتة من زمام التاريخ الرسمي, أو منقطعة من معارف الأجيال الجديدة .. ولتأمل مخاوف الخاطر المستمرة في هذا الموقع يمكننا أن نتصور كيف قضى عشرين عاماً تقريباً وهو يجمع المعلومات المنفلتة المتشظية عن عبدالله الزائد, لقد بدأ ذلك فتيً صغيراً معجباً بالزائد منبهراً بعصاميته وذكائه ووطنيته, وركبه هذا الإعجاب فراح يجالد كثافة العمى المكرسة حول شخصية الزائد إلى أن جاء وقت قدّم فيه مخطوطة كاملة عن ( نابغة البحرين ) وصدر الكتاب عام 1972.

المنهج والآليات

والسؤال الذي نطرحه الآن هو: كيف عملت مواقع الحساسيات الثلاثة التي شكلت إسقاطات الذات وصاغت تمركزها في منظور الصورة المؤرخة للثقافة والمجتمع في كتابات مبارك الخاطر?? وبعبارة أخرى هل لنا أن نرسم جرداً منهجياً لوطنية الخاطر ورومانسيته المتصوفة ولمخاوفه المشفقة والمزمنة ??

وسؤال كهذا يقود بالضرورة إلى تحديد منهج الخاطر وتوصيف آلياته العلمية التي جعلها - موضوعياً - مقابلاً لإسقاطاته الذاتية شأنه في ذلك شأن أي مؤرخ يجاهر بالحياد والموضوعية ويجوس بين أوهامها بينما هو يغالبها بما يُعد من تقنيات السرد ومواقعه وبما يرتّـب وينظّـم وبما يستجمع ويستقرئ ويربط ويفصل ... إلى آخر ذلك, وهي كلها آليات ذات ظاهر منهجي موضوعي لكن ظاهرها هذا إنما يعمي وراءه هيمنة أقنعة الحساسية الذاتية والاستراتيجية التي ذكرتُـها فيما سبق .. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن مبارك الخاطر لا يؤرخ لاحداث وحروب وكوارث وانهيارات, وإنما يؤرّخ لحدث يتسم بالنسبية والتحوّل الذي لا يبين أثره في يوم وليلة وهو حدث (الثقـافة).

وربما اعتقد البعض وخاصة الأكاديميين أن الخاطر يؤرخ للثقافة كيفما اتفق له وكيفما دلته المعلومات والوثائق والروايات الشفوية.

وحقيقة الأمر أن الأفق المنهجي والعلمي الذي كرسه مؤرخٌ كمبارك الخاطر يفوق الدعاوى العلموية التي يجاهر بها أكاديميون لم يتجاوزوا حتى الآن المنهجية الوصفية التي دانت للوثائق ونقلت ولخّصت وترّجمت سياقاتها السردية بتسليم مطلق .. وبالنسبة للخاطر أستطيع أن أرد له وعياً دقيقاً بالمادة الثقافية والتاريخية التي تعامل معها بتوازن لا يضع تخوماً فاصلة بين التاريخي والسياسي وبين الاجتماعي والاخلاقي وبين الكتابي والشفوي مُحدثاً ذلك التقاطع بين حساسيته الذاتية ومسئوليته التاريخية والموضوعية. وأحدد هذا الوعي فيما يلي:

أولاً: الثقافة عند الخاطر كتلة تتسع ولا تضيق في حدود تجربة محددة بِاسم معين أو حدث مخصوص .. ولذا فقد وجد الخاطر نفسه (متورطاً) من الناحية العلمية منذ كان فتيً صغيراً يقع على قراءة قصيدة الزائد (الحنين إلى الوطن) بانبهار ويكتشف أن الزائد قد فتح له الأبواب على مصاريعها ليدخل في عالم عدد كبير من الشخصيات التي عاصرت الزائد أو التي سبقته وليتابع أحداثاً جساماً تقاطعت تداعياتها داخل البحرين وخارجها .. وسواء اتصلت بالزائد أو بمعاصريه أو مَنْ جاء بعده .. الزائد هو الحجر المتقد الذي حرّك الكتلة الراكدة ..

ثانياً: كان مبارك الخاطر اثنولوجياً يوظّـف أدوات هذا العلم دون دعاوى نظرية, فالثقافة التي يؤرّخ لها لم تكن أدباً وشعراً, ولم تكن نصوصاً متعالية وإنما كانت نتاجاً حضارياً لوسط اجتماعي واقتصادي وسياسي, ولذا لم يكن يفرّق - من حيث الأهمية في الدرس - بين نص القصيدة, ونص رسالة ركيكة بعث بها صديق بعيد لأحد ممن ارّخ لهم, أو إشارة عابرة وردت في كتاب أو وثيقة أو رواية شفوية متكررة على ألسنة بعض كبار السن المتعلم منهم وغير المتعلم.

صور حضارية

وتحفل مقالات وأبحاث كتبها الخاطر بإشارات مهمة عن القبائل والأماكن والمعتقدات الشعبية والثقافة التقليدية, والعمران والصناعات ومواقع البيوت والعيون .. وحين نقرأ السير التي وضعها للمغمورين والمنسيين من العلماء والمشايخ والأدباء نجده يتـتـبّع مساراتهم في المدن والقرى والمهاجر العربية والإسلامية, كما نجده يحتفل بأدوارهم في الحركة التعليمية والدينية.

وفي كل الأحوال فإن الخاطر لم يضع حاجزاً بين المتقدم والمتأخر أو المتخلف والمتطور, ولم يحتكم إلى معايير تسبغ صفات معيارية على الوسط الثقافي, لقد كان يستكشف صورة حضارية عبر سيره واستقراءاته المفصّلة, وكان يستطلع صورة ثقافية زاهية من البسطاء والطاعنين في السن, ومن المغمورين. وكانت المعلومة المتصلة بموقع أحد البيوت أو إحدى المدارس تعادل عنده مصنفاً أو وثيقة.

ثالثاً: يستعير مبارك الخاطر من مناهج المحققين آلية الاستقراء والتتبع الدقيق للمعلومات, وقد أشرتُ من قبل إلى أن الشخصية التي يؤرخ لها أو يكتب سيرتها تدفعه دفعاً لكتابة صفحات طويلة عن أحداث ثقافية وسياسية واجتماعية ربما لم تكن صلتها بتلك الشخصية إلا من قبيل الاستدعاء والتحفيز للذاكرة, ومن هنا كانت بعض مصنفات وأبحاث الخاطر مولِّدة لمصنفات وأبحاث أخرى .. نستطيع مثلاً أن نكتشف بدايات اهتمام الخاطر بالمهزع منذ كتاب نابغة البحرين, وبدايات اهتمامه بناصر الخيري و (المغمورون الثلاثة) منذ كتابه (الكتابات الأولى الحديثة) وهكذا دواليك ..

وقد صرف الخاطر نفسه عن التحليل المباشر للأحداث إلا فيما ندر, إنه قد يشرح نصاً من النصوص, وقد يفصّل عرضاً لوقائع لكنه لا يذهب متعمقاً في التحليل باحثاً عن العلل محدداً النتائج في ضوء المقدمات, وربما أرجعتُ ذلك إلى حفاوته الشديدة بالوقائع ذاتها والشخصيات ذاتها.. والجماعات ذاتها .. بحيث كانت المعلومة والواقعة والوثيقة والنص وطريقة إيرادها وترتيبها وكيف يموضع ذاته إزاءها ومتى ينحاز لها أو يتعارض معها .. ربما كان ذلك أوقع عنده وأمتن سبباً من السياقات التحليلية والتأويلية المباشِرة. ولعلّ من يرجع إلى كتبه: الكتابات الأولى الحديثة للمثقفين, والمسرح التاريخي الإسلامي في البحرين, والمغمورون الثلاثة, وناصر الخيري الأديب الكاتب, والمنتدى الإسلامي, وكتابه الأخير عن مضابط التعليم الحديث في البحرين .. هذه مصنفات عُـنيت بتحقيق النصوص وتتبع الوقائع ومحايثة ترتيبها وفق منظور محدد.

ولقد تطورت آلية الاستقراء عند الخاطر في مواضع من كتبه فتحولت إلى (استقرائية وضعية) تعتمد التداعي الثقافي كما هو حادث في الواقع. وهو مع ذلك تداعِ قد يذهب إلى أقاصي الحادثة أو الشخصية. من أجل أن يبلغ حالة دقيقة من تشخيص الحقيقة وتحديد صورتها بموضوعية .. وقد انعكس هذا التطور في كتابات الخاطر عبر مظهرين:

1 - مظهر التداعي الثقافي الذي صاغه بإحكام وبراعة في كتابه ناصر الخيري الأديب والكاتب. ففي هذا الكتاب يستدعي الخاطر حضور أديب مغمور منسي لم يكن معلوماً لدى المثقـفين من خلال مراسلاته في الصحافة العربية: الهلال, المنار, المقتطف .. وغير ذلك, وهي مراسلات تستفسر عن بعض المسائل الدينية والاجتماعية والفكرية استطاع الخاطر من خلالها أن يكشف عن التململات الفكرية القلقة الأولى التي صاحبت تكوين المثقـفين في الربع الأول من القرن الماضي .. وهي تململات اختلطت فيها أمور السياسة والوطن والدين والخرافة ومؤثرات الخطاب الإسلامي والسلفي والخطاب المسيحي التبشيري, وما كان لأحد أن يتعرف على هذه الصورة (الاثنولوجية) الدقيقة لولا الاستقرائية الوضعية التي مارسها الخاطر بذهنية عالية ومتعة علمية يستطيع أن يكتشفها بين السطور كلما أوغل استقصاء الخاطر وراء تداعيات المراسلات الأولى للمثقـفين في البحرين.

2 - مظهر التحقيب التاريخي الذي نرى ملامحه منذ كتابيه نابغة البحرين والقاضي الرئيس قاسم بن مهزع .. لقد جاءت تقسيمات هذين الكتابيـن وخاصة كتـاب (بن مهزع) متميزة بسمت علمي يستند إلى التسلسل الزمني والموضوعي والمكاني, وكان يعتمد أحياناً التقسيم التاريخي إلى تقسيم يعتمـد الحوادث الرئيسية كأن يشير إلى كارثة انهيار اللؤلؤ الطبيعي ويؤرّخ بها مرحلة جديدة في حياة الزائد, أو حادثة عزل الشيخ عيسى بن علي الخليفة ويؤرخ بها مرحلة وطنية جديدة في حياة القاضي بن مهزع .. أو يتخذ من حوادث خلافية هامشية مفاصل دالة على سياقات ثقافية جوهرية كموقف بن مهزع من نادي إقبال أوال أو موقفه من التبشير أو موقفه من حافظ وهبة, وفي كل الأحوال فإن الاستقرائية الوضعية جعلت الخاطر مؤرخاً لا يغادر علاقة الإنسان بالمكان أو الثقافة بمكانها, ولذا كانت الثقافة عنده علامة هوية حضارية, ومظهر نضال ومقاومة ورمز وجود ونفوذ.

رابعاً: تمثّـل الرواية الشفوية مصدراً حيوياً في كتابات الخاطر وتوصيفـاته للعناصر الثقافية وتشخيصاته لِسيَر العلماء والأدباء والمثقـفين .. ويكاد المرء يشعر - حقيقة - بأنه لولا اعتماد الخاطر على مشافهة معاصريه وتوثيق رواياتهم وشهاداتهم المـبكرة لما شهدت مصنفات الخاطر وأبحاثه فضاء الكتابة والطباعة .. ويعترف الخاطر بذلك في جميع ما كتب بل إنه يكرر الإشارة إلى أسماء من الأسرة الحاكمة (آل خليفة) ومن أسرة المهزع كان لهم فضل ما وصل إليه من معلومات متكاملة عن حياة القاضي الرئيس بن مهزع .

قدرة المساجلة

ولا يتسع المجال لتتبع تفاصيل دقيقة تعبـّر عنها الآليات المنهجية الأربع التي عرضتُ لها الآن .. فهناك تمثلات متناثرة تستقـي مصداقيتها من تكرّس, وممارسة, ومعايشة هي عناصر أساسية عزيزة على أي باحث في علوم الشأن الثقافي أو علوم الإنسان بشكل عام .. وأعتقد أن مبارك الخاطر قد كرّس حياته العلمية والروحية للوقوف أمام شخصيات ورموز وهدفها قدرة مدهشة على مساجلة روح عصرها .. وعلى استنزاف تفاصيل خاصة بروحه الوطنية, وبجوانيته الرومانسية والصوفية المنغلقة التي لم يفضِ بها عبر نصوص مباشرة, وإنما ساق رموزه (مراياه) إلى الحد الذي استطاعت به أن تشكـّل عذابات الخاطر نفسه ومخاوفه وعواطفه الخاصة.

والخاطر أيضاً لم يغادر ميدان الممارسة حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاته, وقد عشتُ معه هذه اللحظات وهو يضع اللمسات الأخيرة لكتابه مضابط التعليم الأهلي في البحرين, ورأيته كيف يمارس آليات التحقيق والمتابعة, وروى لي كيف اهتدى إلى هذه المضابط على نحو أثار إعجابي وعزز محبتي له .. فهذه المضابط لا تتوافر إلا لدى المرحوم عبدالرحمن الزياني والد الأخ الفاضل رجل الأعمال راشد الزياني وقد عرف الخاطر ذلك فظل يحاول الحصول عليها دون فائدة وحين أطلعه الزياني رحمه الله على المضابط اشترط عليه ألا يخرج بها من غرفة مكتبته فما كان من الخاطر إلا أن انكب على هذه المضابط ينسخها ويسجّـلها بخط يده .. وبعد ساعات طويلة من العناء والتعب والأمل كان لدى الخاطر نسخة من هذه المضابط بخط يده هو وليس بخط مقرر اللجنة الخيرية للتعليم .. ومن هذه النسخة يظهر كتابه عن التعليم. هذا مظهر من مظاهر الممارسة التي يكلف الخاطر نفسه بها ويدفع من جرائها المشقة والعناء.

والخاطر لم يغادر حيز المعايشة المباشرة للثقافة التي يؤرّخ لها .. فقد كان صديقاً لكبار السن وكان يُـدرك منذ صغره أهمية الورقة .. والوثيقة, منذ أن استل صفحة بها قصيدة الحنين للوطن لعبدالله الزائد .. وتطلع لها في يد شيخه محمد صالح يوسف خنجي .. ومنذ أن جلس على مقاعد الدرس أمام الشاعر عبدالرحمن المعاودة, ورأى كيف يكتب مسرحياته بارتجالية مذهلة ويوزّع الأدوار على طلابه يومياً دون أن يستكمل الصورة النهائية للمسرحية .. كان ذلك وراء شتات وضياع مسرحيات المعاودة دون شك كما أوضحت في دراسة لي عن مسرح المعاودة, لكن الخاطر وحده بين جميع طلاب المعاودة أدرك مآل هذه المسرحيات فجمع أدوار مسرحية أبو العلاء الحضرمي من أيدي زملائه الطلاب واحتفظ بها حتى جاء وقت أخرجها إلى النور في كتابه المسرح الإسلامي في البحرين.

واستمرت معايشة الخاطر للشتات الثقافي على أصعدة موزعة فتارة يتابع تداعيات السياسة والثقافة حول المهزع, وتارة حول المعاودة, وتارة حول الشيخ عبد الوهاب الزياني وناصر الخيري والشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة, والشيخ محمد صالح يوسف ...وغيرهم. كل هؤلاء جعل منهم وسطاً للمعايشة الثقافية التي لا تنقطع على الإطلاق .. ومن هنا رأيتُ أنها شخصيات ورموز تمثّـل أقنعة حقيقية لشخصية مبارك الخاطر نفسه.

 

إبراهيم عبدالله غلوم

 
 




أمير البحرين مستقبلا مبارك الخاطر





بعض الميداليات التي حصل عليها





أمير البحرين الراحل أثناء استقباله لمبارك الخاطر





الخاطر يتلقى جائزة في إحدى المناسبات









بعض الميداليات التي حصل عليها





بعض الميداليات التي حصل عليها





الخاطر يهدي رئيس وزراء البحرين أحد كتبه





الخاطر متوسطا كبار الشخصيات في البحرين