رحالة لم يهدأ إلا بالموت الريحاني من مشرق العرب إلى مغاربهم

رحالة لم يهدأ إلا بالموت الريحاني من مشرق العرب إلى مغاربهم

رغم مرور كل هذه السنوات مازالت شخصيته مثيرة للجدل. كان مثقفا ورحالة وداعية سياسيا ومؤمنا بالتقدم ومعلما لنفسه دون جامعة

كتب الكثير عن أمين الريحاني, واهتم به الكتّاب العرب والأجانب, وترجمت أعماله إلى لغات عدة. يقول ابن شقيقه الدكتور أمين ألبرت الريحاني: إن سبعة وستين كتاباً وضع عن الريحاني, وأكثر من 6750 مقالا أو مرجعاً صحفياً نشر عنه, وأكثر من ألف ومائة كتاب خصص عنه فصلاً أو جزءا من فصل, وهذه المراجع نشرت في أربع وأربعين دولة, وفي ست وعشرين لغة, وذلك حتى نهاية عام 1995, أي بعد نيف ونصف قرن من رحيله).

رغم ذلك فإن أمين الريحاني لايزال يستحق أن يكتب عنه وهو لايزال, بعد مرور 60 سنة على رحيله, يثير الجدل ويشغل الناس وتتناوله الأطروحات الجامعية. هذا الرجل الذي كان متعدد المواهب والنشاطات مارس شتى فنون الأدب. لم يتلق علومه في جامعة من الجامعات هو معلم نفسه تعلم من الطبيعة ومن الهجرة ومن المطالعة. في الطبيعة تأمل ومن بلاد المهجر تنور ومن الكتب والمتاحف وغرائب الدنيا وعجائبها التي شاهدها تعلم واتخذ العبر. فمن هذه العناصر الثلاثة تكونت شخصيته. وهو القائل: (السير في شوارع المدن الكبرى يذكر الإنسان بالإنسان, وأما السير في الوادي أو الغاب فيذكر السائر بالخالق العظيم).

يقول عنه مارون عبود: (أمين الريحاني ثائر متمرد, وهو رجل كفاح ومن كتاب المعارك. يثير خلفه وحوله وفوقه وتحته غبارا لا يشق. يقول كلمته ويمشي.. واثقا بأنه خلق أدباً جديداً. الريحاني هو أبوالشعر المنثور في الأدب العربي, وهو الذي مهد الطريق لجبران وعبدها).

كان أمين الريحاني أول مهاجر لبناني إلى أمريكا يتحول من التجارة إلى الأدب, فبدلا من أن يحمل (الكشة) ـ حقيبة البضائع ـ حمل القلم, وأول أديب عربي يكتب باللغة الإنجليزية وفي معظم الفنون الأدبية التي عرفتها هذه اللغة. وكذلك ترجم المعري إلى الإنجليزية.

عالج فنون الأدب كافة. كتب الشعر المنثور الذي أخذه عن Walt Whitman (1819 ـ 1892), الشاعر الأمريكي المعروف صاحب ديوان (أوراق العشب) Leaves of Grass (1855) الموضوع بالشعر الحر. وكتب القصة, والرواية والسيرة وأدب الرحلة, والنقد والمقالة والرسائل. وألف في الدين والسياسة والفلسفة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا. وهو مصلح اجتماعي وثائر متحرر كتب بالعربية والإنجليزية. ومارس الرسم والنقد الفني, هاجم الاستعمار التركي والانتداب الفرنسي على لبنان ودافع عن استقلال لبنان وسوريا وعن القضية الفلسطينية وكان يؤمن بالعروبة ودعا إلى توحيد العالم العربي.

وفي سنة 1922 في رحلته إلى السعودية سعى لكي تفوز شركات النفط الأمريكية بامتيازات استخراج النفط بدلاً من أن تسيطر عليه الدول المستعمرة وخاصة بريطانيا التي فازت بامتياز استخراج النفط في العراق.

أشاع البعض بأن أمين الريحاني كان (عميلاً) أو (سمسارا) لشركات النفط الأمريكية. ولكن المعروف عنه أنه عندما توفي لم يكن يملك من حطام الدنيا أي ثروة.

بلا ثروة

الريحاني الذي مات عن لا شيء من الثروة إلا 15 ليرة لبنانية في بنك إسكندر حداد, و12 مثلها في بنك دي روما, وخمس ذهبيات في جيبه. والريحاني الذي كان يقول لأخته سعدى حين يعطي السائل كل ما يملك: (الكفن لا جيب له يا سعدى). هذا الريحاني قد عاد من رحلاته كلها ولم تكن يده السفلى أبداً, اللهم إلا بعض هدايا سيف بن سعود الخاص الذي حارب به ابن الرشيد, قرابه من ذهب ونصله يرجع تاريخه إلى الفتح الإسلامي في إيران.

وأهدى الشيخ خزعل إلى الملك عبدالعزيز سجادتين يوم كان الريحاني عنده, فقال الملك: نحن سكان خيام, أعطوها للأستاذ الريحاني. اسم إحدى هاتين السجادتين شجرة الحياة, واسم الثانية الكرة الأرضية.

وهناك هدية ثالثة من الملك عبدالعزيز أيضا وهي فرس أصيلة مسماة نورة باسم شقيقته. وأهدى إليه سلطان لحج صندوق نحاس مزركشا, و(مداعة) طول نربيجها 18 قدماً. وعرض عليه الملك حسين الألقاب والأوسمة فأبى, ولكن قبل منه خنجراً ـ شريفاً ـ وقطعة من كسوة الكعبة, وهذه لم يحزها مسيحي.

وقد رأيت في البيت مسبحة قيل إنها هدية من البابا لزوجة أمين, وقد حولتها تلك الزوجة إلى أم أمين. أما آثاره فركوة قهوة وغلايتان, وريش, وضبوة وقليل من التبغ, وقلم حبر وقلشين وعصا, والساعة وبندها المشهور أي لقطتها التي كانت تتدلى على صدر أمين فيبدو بها كأحد رجالات فجر القرن التاسع عشر).

ساهم الريحاني في توطيد العلاقة بين المملكة السعودية وأمريكا, هذه العلاقة التي مازالت راسخة حتى يومنا هذا.

ومازال الريحاني هو واحدا من أهم من كتب في أدب الرحلة عند العرب.

واللافت أننا اليوم في نهاية القرن العشرين نجد الفكر العربي المعاصر يواجه (العولمة), هذا التحدي الهائل والخطير, الذي حاول أمين الريحاني أن يطرحه في ما كتب وألف وحاضر! فكان شاهداً على عصره ولايزال رغم مرور 60 سنة على رحيله.

حنين للمتوسط

بعد هذه المقدمة يهمنا من البحث أن نتناول ما كتبه الرحالة أمين الريحاني عن المغرب الأقصى. كان الأمين قد قام برحلته الشهيرة إلى جزيرة العرب ووضع كتابه (ملوك العرب) وعقد العزم على القيام برحلات إلى الأقطار العربية كافة وفقا لقناعته التي عبر عنها بقوله: (فالتنافر بين البلدان العربية مصدره الجهل والتباعد, ولا يزيله سوى التقارب فالتفاهم فالحب) فسلسلة من الكتب تُعنى بأحوال تلك الدول تكون خير سفير لتعاطف هذه الأقطار وتقاربها ووحدتها. وقد قام بهذا الكتاب ثم وافاه الأجل فلم يحقق كل آماله بزيارة جميع البلدان العربية.

ولابد هنا من أن نشير إلى أن أمين الريحاني قد دأب على الترحال. فقد هاجر من وطنه لبنان وهو في العاشرة من عمره إلى أمريكا الشمالية التي زارها مرات عدة وعاش فيها سنوات من عمره.

وعندما كان يركب الباخرة للسفر إلى أمريكا كان يحن عندما يتصل البحر الأبيض بالأوقيانوس وتدنو الشواطئ الأوربية والإفريقية بعضها من بعض, يتلفت قلبه إلى الجبال الإفريقية المكللة بالضباب الشفاف والضياء, تلفت العاشق المشتاق. يصل إلى جبل طارق بن زياد الذي لم يبق من عروبته غير اسمه, يبدأ بطنجة التي تتمطى في ظلال الفردوس الدولي, مطمئنة آمنة, راضية مرضية, ومن طنجة ـ مسقط رأس رحالتنا ابن بطوطة ـ إلى أول ميناء في إفريقيا الأطلنطيقية, إلى أصيلة, ومنها إلى العرائش فالدار البيضاء. ثم يصل إلى وهران في الجزائر وتلمسان وفاس ومراكش وجبال الأطلس. قرر الأمين أن يعرج في طريق عودته من أمريكا سنة 1939 على شمال إفريقيا وقد تجاوز الستين من عمره.

وفي كتابه (المغرب الأقصى)وهو ثلاثة أجزاء ويقع في حوالي 700 صفحة. الجزء الأول يبدأ بجولة في تاريخ المغرب الأقصى الحديث بدءاً بالقرن السابع عشر وسعي الدول الأوربية إلى أن يكون لها موطئ قدم في المغرب حيث يدور صراع بين فرنسا وإنجلترا وإسبانيا على وجه خاص. ثم يسترسل في ذكر تفاصيل الوقائع التاريخية منذ بداية القرن العشرين.

ثم يتناول جبل طارق وكيف أن الإسبان يعللون النفس بالسيطرة عليه وإنقاذه من سيطرة الإنجليز. احتل العرب جبل طارق سنة 711م واستمر حكمهم 750 سنة إلى أن انتزعه منهم الإسبان سنة 1309 ثم فقدوه. وفي سنة 1462 كان الفوز لهم فأخرجوا العرب منه. وأما استيلاء الإنجليز عليه فكان للمرة الأولى في الحرب الأوربية (1701 ـ 1714).

ويتحدث عن طنجة جنينة الفرنجة! حيث تلتقي أمواج البحر المتوسط بأمواج المحيط الأطلسي حيث المناخ الدافئ والشمس المشرقة في كل الفصول وهو يصفها بأنها مدينة الشهوات العارية, والمنكرات السارية. يصف رجالها ونساءها اللاهيات والملاهي والملاعب والقصور والأسواق والجوامع.

يقول (ص84): (هاهو ذا المغرب بفقره واتضاعه, بقناعته وصبره, ببساطته وكرامته, بأسماله وأوساخه, بإحساسه الشعري!

ها هو ذا المغرب في مرحه وفرحه, في ألاعيبه وشعوذاته, المغرب الروائي الشعري, المغرب اليائس الضحوك, المغرب العجيب!).

يقول (ص87) عن طنجة ما يلي:

(فلقد ذكرنا الفينيقيين مؤسسي طنجة, والرومانيين مستعمريها, ثم جاء الفنداليون غازين ناهبين مخربين, والبيزنطيون مصلحين مستثمرين. فكانت طنجة في عهدهم على شيء من العمران, ثم فتحها واستعمرها العرب. ويوم مر بها إدريس الأول (788م) قادماً من تلمسان, في طريقه إلى فاس, كانت طنجة أجمل مدينة في المغرب.

وما ذهب شيء من جمالها وعمرانها في عهد البرتغاليين الذين انتزعوها من العرب في سنة 1471, ولا في عهد الإسبان الذين خلفوهم بعد نيف ومائة سنة (1580), خسر البرتغاليون طنجة مرة أثناء ذلك ثم استعادوها في سنة 1556.

وبعد ست سنوات من احتلالهم الثاني عقد لملك الإنجليز تشارلز الثاني على الأميرة ده براغنزا البرتغالية, فراحت طنجة مع الجهاز, انتقلت بزواج كاترين إلى حوزة الإنجليز, فحكموها ثماني عشرة سنة فقط. ذلك لأن مولاي إسماعيل الكبير قام يطالب برد (الجهاز) إلى أصحابه, فشهر الحرب على أقارب كاترين الجدد وأخرجهم من طنجة في سنة 1680.

منذ ذلك اليوم إلى آخر القرن التاسع عشر بقيت هذه المدينة في حوزة سلاطين المغرب, وهي تنعم بشيء من العمران المادي, وبأشياء من الأمن والنظام. ساد فيها السلم على الأقل والإطمئنان. أما تجارياً فقد كانت أول مدن المغرب, ومازالت. ولا غرو فهي باب المغرب الأقصى من أوربا والشرق وإليهما).

ثم يتابع (ص91) قائلاً:

(ولكن فرنسا ـ وقد تعاظم نفوذها في المغرب بعد استقرار الحماية فيه ـ حاولت أن تستقل في إدارة طنجة, فاعترض الإسبان أشد الاعتراض, واستمر الإنجليز يقاومون كل ما في سياستها من نزعات الاستقلال أو الاستئثار.

فإن لم تكن طنجة إنجليزية, يجب أن تكون دولية.

وإن لم تكن طنجة للفرنسيين, فلا بأس أن تكون للجميع على السواء, ولو إلى حين.

وإن لم تكن طنجة للإسبان اليوم, فلابد أن تكون لهم غداً..

أحوال طنجة

اجتمع ممثلو الدول, وهذه عقليتهم الطنجية, اجتماعاً تمهيدياً في لندن, في صيف سنة 1923, ثم نقلوا إلى باريس في أكتوبر, حيث تمت المؤامرة على عروس المغرب. فوقعت فرنسا في 8 ديسمبر 1923 المعاهدة التي قضت بأن تكون طنجة دولية, ووقعتها إسبانيا في 7 فبراير من السنة التالية. حي على الفلاح!

ولكن سكان طنجة الوطنيين والأجانب على السواء, وخصوصاً الفرنسيين والإسبان الأجانب, استمروا يشكون ويحتجون. أما الفرنسيون فلأنهم كانوا يأملون أن تستقل فرنسا في حكم المدينة. وأما الإسبان فلأنهم خدعوا كما يقولون فحرموا الوظائف التي وعدوا بها في المعاهدات السابقة.

وأما الوطنيون فلا لشيء غير الاغتصاب إنهم أبناء المدينة المغتصبة)!

ثم يتناول جبل طارق وسبته جارته التي استولت عليها إسبانيا وارتضت ذلك لأنها لم تستطع أن تأخذ جبل طارق من الإنجليز. ويقول عن سبته إنها مثل طنجة فينيقية الأصل. استوطنها القرطاجيون, فاستعمرها بعدهم الرومان مرتين ثم الغوطيون.

ثم ينتقل إلى وصف المدينة البيضاء فيصف موقعها وطبيعتها وجغرافيتها وسكانها ومناخها وتطوان وصناعاتها.

وهو يصف جغرافية المغرب وجبال الأطلس ارتفاعها وامتدادها وحتى عدد الأشجار المغروسة فينقل عن تقرير وضعته الحكومة لسنة 1934 وفيه أن الأشجار المغروسة في تلك المنطقة الخليفية من بلاد المغرب تبلغ مائتين وأربعة وثلاثين ألف شجرة. والأرض المزروعة قمحاً وشعيراً تبلغ ثلاثة وستين ألف هكتار. ويتناول القبائل التي تقطن تلك المنطقةويعطي تفاصيل دقيقة وإحصاءات موثقة.

كما يتحدث عن السكان البربر الذين يقطنون هناك وتاريخ الحكم والحكام الذين توالوا على الحكم بدقة المؤرخ المتخصص بعلم التاريخ. ويذكر حكم البيت العلوي ويورد أسماء الذين حكموا منذ سنة 1630م.

إلى أن يتناول نهضة التعليم (ص183). وهو يلاحظ ملاحظة صحيحة وهي أن أهل المشرق العربي لا يعرفون الكثير عن المغرب العربي بينما المغرب العربي على العكس من ذلك يعرف الكثير عن المشرق العربي. وهو يتناول تطور التعليم فيورد تنامي عدد المدارس وميزانيات المعارف وعدد الطلاب والطالبات في المدارس ويقارن ذلك بينها وبين مصر ولبنان. ويذكر بعض الأساتذة المصريين واللبنانيين الذين يدرسون ويعملون هناك أمثال حبيب سعادة وسلفه الشيخ عبدالله الدحداح والشيخ ميشال الخازن والأستاذ عبود أبي راشد, والمناهج التربوية الحديثة والمعاهد والمدارس التي يقسمها إلى ثلاثة أقسام: (1) المدارس المغربية, الإبتدائية, والثانوية, وهي تعلم اللغتين العربية والإسبانية, ومعلموها عرب وإسبان. (2) الكتاتيب وأكثر معلميها من الشيوخ. (3) المعاهد الدينية أو بالأحرى المساجد, التي تلقى فيها الدروس الدينية والفقهية مع بعض الدروس الأخرى كاللغة والحساب والجغرافيا والتاريخ. اضف إليها المعاهد الخاصة.

والأحزاب السياسية لها كذلك نصيب من كتابه ومنها حزب الإصلاح الوطني الذي تأسس سنة 1936 وحزب الوحدة المغربية.

وهو يتناول كل ما تقع عليه عيناه يصفه ويتحدث عنه كما يتناول الطرق الصوفية. ويفرد فصلاً عن الشريف أحمد الريسوني وموقفه من الإسبان ومن الفرنسيين وحواره مع الجنرال الإسباني سلفستر والصراع بينهما إلى أن تمت الغلبة للريسوني.

أقوال وأشعار

وهو في رحلته هذه ومشاهدته للأماكن والجبال والبطاح غالباً ما يقارن بينها وبين لبنان. والكتاب موشى بأبيات الشعر التي يحفظها الأمين وقد يعدل في بعضها (كلمة) أحياناً كما في إيراده لهذا البيت للشريف الرضي:

وتلفتت عيني ومذ خفيت
عنها (البطاحُ) تلفت القلبُ

وهو يتنقلُ في أماكن المغرب فيذهب إلى (سبتة) و(طنجة) و(مليلية) التي يخاطب منها الثغور العربية المنتشرة على سواحل البحر المتوسط كبيروت وحيفا ويافا والإسكندرية قائلاً (ص433): (إني أخاف عليك, إن لم تقم الدولة العربية الموحدة, المفعمة بروح المدنية الحقة ـ مدنية الدين والعلم مقترنين ـ مدنية المادة والروح متعانقين ـ فتحميك من التيار الأوربي الصائل الغلاب, وترد عنك أخطار الاستعمار الحديث التي بدأت تدس سمومها في دسم الثقافة والتجارة والسياسة والدين).

ثم يخاطب الملوك العرب: (فيا ملوك العرب, ويا أمراء العرب, إن الأجل قريب, وإن اليوم الذي ستشاهدونه رهيب. إلا أن تستفيقوا, وتعملوا, بعزم وإخلاص, العمل الواحد, مهما اقتضاه من بذل النفس والنفيس, فتحموا الثغور العربية على هذا البحر الأبيض ـ تحموها تحقيقاً لأماني أهلها, تحموها بالرغم مما يريده أهلها, تحموها وأنتم في البداية والنهاية أهلها, وإن لم تدركوا معنى التبعة وقيمة التبعة التي ألقاها الله على عوائقكم, فأنتم الخاسرون, وأنتم المظلومون. فالثغور اليوم ذاهبة, والعواصم ذاهبة غداً, ولات ساعة مندم. وهذه مليلية تشهد على ما أقول).

وهدف المستعمر من وراء ذلك أن يثبت بأن الفرعونية والفينيقية والبربرية لا علاقة لها بالعروبة.

وفي الجزء الثالث من كتابه يتناول زيارته إلى إسبانيا فيزور إشبيلية ومدريد ويلتقي بالجنرال فرانكو ويجري حديثاً معه وينتقل منها إلى قرطبة ويصف بلاد الأندلس وآثارها وهو كان يريد أن تنتهي الحرب الإسبانية الأهلية لكي تنعم بالسلام وتعيش في هناء وقد انتهت فعلاً فشجعه ذلك على القيام برحلته هذه.

وإني أصرف النظر عن تناول هذا الجزء لأنه لا علاقة له بالمغرب العربي.

ويكفي أن شير في نهاية المطاف إلى أن أمين الريحاني في كتابه هذا قد برهن على إنه مؤرخ واسع الإطلاع لا يكتفي بنقل الأخبار وتسجيلها بل إنه يشاهد الأماكن ويجول في البلدان ويحاور الناس ويراقب حياتهم ويصف تقاليدهم. وهو متمكن من المراجع التي يعود إليها في أبحاثه عن السياسة التي يتبعها الاستعمار. وهو يريد كذلك أن يُفهم الأمريكان الذين يعتقدون بأنه لا يوجد سواهم في هذا العالم ـ وهو العربي الغيور على سمعة عروبته يدافع عنها ـ فكان يكتب ويخطب ويؤلف بالعربية وبالإنجليزية لتحقيق ذلك حتى لا يبقى الأمريكان على جهلهم. وسعى كذلك إلى مجابهة الصهيونية المتفشية في أمريكا, وخاصة في نيويورك, والطامعة بالسيطرة على فلسطين. ولكنه كان يعتقد بأن الحق أصدق إنباء من الدولار! وأن فلسطين هي لأصحاب الحق لا لأصحاب الدولار.

هذا هو (دون كيشوت) أمين الريحاني الذي كان يمتطي جواده حاملاً رمحه, ذاهباً وعائداً من (الفريكة) قريته إلى نيويورك, ومن نيويورك إلى (الفريكة).

هذا الكتاب يدل على سعة اطلاع أمين الريحاني وغزارة علمه ودقة ملاحظته مما يعطينا صورة عن الرجل الذي أحب الدرس والاطلاع والاستكشاف والمعرفة وليست الغاية من زيارته هذه مجرد النزهة.

هذا هو أمين الريحاني الذي قال كلمته ومشى.

هكذا كان أمين الريحاني يدق ناقوس الخطر محذراً الملوك والأمراء العرب من التخاذل والتصارع بدلاً من السهر على مصلحة الشعب وعزة الأمة.

ثم يتحدث عن الثروة الهائلة من المعادن, ولاسيما في (جبل الحديد) التي تجنيها الشركة الإسبانية للمناجم. ولا يذهب منها شيء للعرب أصحاب الأرض. وهناك الفحم والحديد والنفط الذي بيد الفرنجة.

وفي الفصل الثالث عشر يتناول العرب والبربر. الذي يفضل عليه تسمية العرب والمغاربة. وهو يرى أن المغرب العربي كالمشرق العربي يعاني من الاستعمار الغربي الرابض على صدره والمستغل لثرواته والمتحكم بشعوبه وكما أنهم اخترعوا الفرعونية في مصر والفينيقية في لبنان والبربرية في المغرب الأقصى, اخترعوا أيضا هذه النعرات القومية التي لم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الأولى من أجل استغلال الشعوب العربية في بلاد العرب لأنها تصب في سياسة فرق تسد التي هواها الاستعمار ويسعى من أجلها.

ويكفي أمين الريحاني فخراً أنه لا يوجد في العالم العربي رحالة يوازيه وأنه قد أبدع في أدب الرحلة الذي كان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقفاً على الرحالة الأجانب.

 

ميشال خليل جحا

 
 




أمين الريحاني