الجواري والشعر في العصر العباسي
الجواري والشعر في العصر العباسي
من المكتبة العربية عرض: سعدية مفرح الحمراء عاشت المرأة في العصر العباسي جارية في العلن حاكمة في الخفاء وكان لها دور في إتقان فنون الغناء وكانت سبباً في انتشار الشعر الغزلي. أما هذه الأيام فهذه المرأة نشاهدها في الإعلان التلفزيوني حاكمة في المشهد عبر الرؤية وجارية في المشهد ذاته. في تمهيدها لكتابها (الجواري والنساء في العصر العباسي) الصادر في طبعته الثانية (عام 2000) عن دار قرطاس في الكويت, تقول الدكتورة سهام الفريح إن المرأة لا تزال وستبقى جزءا أساسيا في الظاهرة الفنية, وتكون موضوعا للفن كما تكون صانعة له, كما قد تكون مشاركة فيه بالآراء أو التوصيل بوسائل فنية أخرى, ومهما يكن دور المرأة في الفن, والشعر من أقدم الفنون, فإن أثرها واضح فيه, فإذا كانت هذه المرأة جارية أو قينة, في عصر جمع بين الأضداد, فإننا لاشك أمام ظاهرة لا تخلو من غرابة أو تعقيد وتحتاج إلى صبر وعناية.. تلك الظاهرة التي صارت جزءا من عنوان هذه الدراسة الفنية التاريخية). وربما كان المناسب جدا أن يعاد طبع هذا الكتاب ـ الذي كان في الأساس مادة رسالة تقدمت بها المؤلفة لنيل درجة الماجستير ـ بالذات هذه الأيام حيث ترتسم قضية المرأة وعلاقتها بالكتابة والإبداع عنوانا لمرحلة حاضرة.. فالكتاب في إشارته الأساسية الخفية يبدو علينا على زمن مضى كان أكثر احتفاء بتجارب المرأة مع الإبداع.. وأي إبداع?! مستوى آخر من القراءة لهذا الكتاب تتيح لنا أن نتذكر صورة المرأة الحديثة في وسائل الإعلام الحديثة ووفقا لهذه الوسائل, خاصة وأن هناك العديد من المعنيين بقضية المرأة وتحررها من يبلور هذه الصورة الإعلامية الجديدة للمرأة سلبيا وكأنها نسخة جديدة, ولكن معكوسة, من صور المرأة التي شاعت في العصر العباسي كجارية تمارس السلطة بطريقة غير مباشرة انتقاما في كثير من الأحيان لعبوديتها المتبدية بشكل مباشر, فالمرأة التي تصورها الإعلانات التلفزيونية الحديثة وكأنها المحور الحدث الإعلاني أو سيدة المشهد المصور بأكمله, هي في المستوى النهائي لرؤية الإعلان مجرد أداة لترويج السلعة التي يعلن عنها, ولذلك فالإعلان يبالغ في استغلال الملامح والتقاطيع الجسدية بمواصفاتها الجمالية المثالية لصالح الترويج للسلعة عن طريق جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين لمتابعة ذلك الإعلان التلفزيوني الذي قد لا يعلن بالضرورة عن سلعة تهم المرأة أو تخص عالمها بشكل خاص, أي أن المرأة التي بدت لأول وهلة هي محور الحدث الإعلاني وسيدة المشهد أو سلطانته هي في الحقيقة مجرد أداة ترويجية فيه أو جارية تلبي من خلاله رغبات المعلن. فصورة المرأة الحديثة في الإعلانات التلفزيونية الحديثة هي نسخة مكررة بشكل معكوس عن صورة المرأة الشائعة كجارية في العصر العباسي. لقد كانت المرأة جارية في العلن حاكمة في الخفاء, فأصبحت المرأة الإعلانية حاكمة في المشهد التلفزيوني عبر الرؤية المباشرة, وجارية في ذات المشهد عبر الرؤية الحقيقية غير المباشرة. لكن المرأة الحديثة بصورتها الإيجابية الفاعلة في المجتمع الإنساني بشكل عام, لحسن الحظ, لا تغيب إلى هذا الحد الذي تشير إليه مؤلفة كتاب (الجواري والشعر في العصر العباسي) د. سهام الفريح وهي تشير إلى غياب المرأة الحرة عن المصادر التاريخية مقارنة بحضور الجارية مما دفعها لاختيار الخيرة مادة لدراستها وبحثها فقد كانت رغبة الباحثة الأولى كما جاء في مقدمة الكتاب بأن تدرس أدب المرأة في العصر العباسي وبعد أن تجمع لديها كم هائل من النصوص الأدبية والأخبار والتحليلات وجدت أن القدر الأعظم منها تحظى به المرأة الجارية, وليس للمرأة الحرة منها إلا النزر اليسير لذا اتجه عنوان الرسالة البحثية التي تمخض عنها هذا الكتاب إلى (الجواري والشعر في العصر العباسي), وربما تحقيقا لرغبتها القديمة الأولية تلك, وإن بصورة أخرى, تعلن الباحثة في ذات المقدمة عن نيتها إصدار دراسة جديدة عن مكانة المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية منذ العصور المتقدمة وما آلت إليه هذه المكانة بعد ذلك حتى عصرنا الحاضر. قراءة أخرى جديدة للكتاب إذن إعادة لكتابته في ظل واقع لا يتغير إلا قليلا..!! رقيق في الجاهلية.. رقيق في الإسلام رغم أن المساحة الزمنية التي يستغرقها موضوع الدراسة لا تتجاوز القرن, فإن هذا القرن بالذات يعتبر من أخصب مراحل التاريخ العربي الإسلامي, ورغم أن الدراسة اقتصرت على موضوع محدد فيه فإنها نجحت على صعيد آخر في تقديم صورة شاملة عنه, بل إن الصورة تعدت حدود ذلك القرن في بعض الأحيان وخاصة عندما تحدثت الباحثة في تمهيدها للدراسة عن أحوال الرقيق في الجاهلية مقارنة بأحوالهم في الإسلام. فقد أشارت الباحثة بوضوح إلى أن الإسلام دعا إلى إلغاء الرقيق تدريجيا ووضحت الأسباب التي لم تدعُ إلى تحريمه مباشرة وذلك لأن نظام الرق كان نظاما قائما لدى كل الشعوب. ومن هنا, وفقا للباحثة كانت النظم والقوانين التي جاء بها الإسلام لتحسين أحوال الرقيق والرفع من مكانتهم الاجتماعية. وبالإضافة إلى التمهيد وزعت الباحثة مادة كتابها على خمسة فصول وخاتمة. وفي الفصل الأول لاحظت الباحثة كثرة الجواري في العصر العباسي بشكل قد يبدو مبالغا فيه مقارنة للعصور التي سبقته, وقد أرجعت تلك الكثرة المفرطة إلى كثرة الحروب التي كان على الدولة العباسية خوضها في جغرافيات مختلفة مما أدى إلى اتساع الدولة وانتشار تجارة الرقيق انتشارا واسعا, وقد استعانت الباحثة بكتاب (رسالة جامعة لفنون نافعة في شري الرقيق وتقليب العبيد) لابن بطلان في رصد مصادر الجواري وأنواعهن, ورغم تأخر الرسالة بالنسبة للعصر الذي تتطرق إليه الباحثة إلا أن ذلك لا ينفي أنها تصلح للرحالة إلى حال الجواري ليس في عصر ابن بطلان وحسب بل إن الإحالة تتعدى ذلك إلى ما قبل عصره أيضا. وقد لاحظت الباحثة أن الملامح العضوية والنفسية التي حددت صفات الجواري اللواتي ينتمين إلى أصول مختلفة تدل على وعي كبير بخصائص تلك الشعوب, وأن للطبيعة أثرا مهما في خلق التواؤم أو التنافر بين الجارية والبيئة التي انتقلت إليها, وأن المواطن الأصلية للجواري لم تعد المصدر الوحيد لتزويد المنطقة العربية بهن, فقد صرن يتكاثرن بالزواج من الرقيق وصارت الجارية تنسب بالمولد. ولن يكتمل الحديث عن الجواري إلا بالحديث عن كل ما يتصل بهن, ولعل أول من يتبادر للذهن عند التفكير بهذا الصدد هم النخاسون أو تجار الجواري ودورهم المخصصة لتلك التجارة القائمة بذاتها على شواطيء نهر دجلة في أسواق الرقيق, كما أن دور الرقيق وبيوتهن الخاصة كانت مما يجدر البحث فيه في هذا الفصل مما يتصل بحياة الجواري بشكل عام, خاصة على صعيد ما يجري في تلك الدور من مجون وعبث كان يجري تحت إشراف النخاسين وبتوصية منهم استجلابا لطبقة الأغنياء وطبقة الشعراء ممن يستهويهم ذلك النوع من الحياة اللاهية في أوساط الجواري, مما شجع النخاسين على تثقيف جواريهم وتعليمهن حتى يتمكن من مجالسة أفراد تلك الطبقات والتأثير فيهم. وقد نجحت جهود النخاسين الكبيرة في هذا المضمار للدرجة التي أصبحت فيها الكثير من هؤلاء الجواري يجادلن ويحاورن في كثير من أبواب العلوم والفنون بالشكل الذي تفوقن فيه على كثير من الحرائر اللواتي لم تتح لهن كل هذه الفرص في التثقيف والتعليم, مما ضاعف من أثمانهن وزاد في حظوظهن مع الرجال بالشكل الذي أدى إلى ازدياد تأثيرهن السلبي في المجتمع العباسي بأكمله وخصوصا على صعيد نشر الخلاعة والابتذال وإشاعة المجون. لكن هذا لا ينفي أثرهن الإيجابي على المجتمع على صعيد مساهمتهن في نشر الثقافة والفنون الجميلة, فقد كان هؤلاء الجواري من أمم مختلفة فنقلن معهن عادات وتقاليد مجتمعاتهن ونشرنها في المجتمع العباسي, كما كان لهؤلاء الجواري تأثير أدبي تمثل فيما تثيره الجواري من عواطف في صدور الشعراء فتخرج على ألسنتهم شعرا جميلا, بالإضافة إلى ما تنتجه هؤلاء الجواري أنفسهن من شعر نتيجة لتثقيفهن ثقافة عالية من قبل نخاسيهن. بل إن أثر هؤلاء تعدى ذلك إلى الناحية السياسية فقد اتسع نفوذهن وقوي سلطانهن وخاصة اللواتي حظين بأن يكون لهن أزواج أو أبناء من الخلفاء. غناء وشعر وغزل وقد فضلت الباحثة أن تخصص الفصل الثاني لدراسة الغناء وما كان للجواري من أثر في نقل هذا الفن من الحجاز إلى العراق ثم اتساع موجة الغناء واهتمام أهل العصر بهذا الفن, وذكرت الباحثة مجموعة من الخلفاء وأبناء الخلفاء ممن كانت لهم صنعة في الغناء. وبعد أن تحدثت عن ألوان الغناء المختلفة ومدارسه العديدة مع ما كان بينها من منافسات مشهودة وعن اتقان الجواري لفنونه والإجادة فيها عددت بشيء من التفصيل الممتع بعض أشهر الجواري اللواتي برزن على هذا الصعيد ومنهن بذل وتيم ودنانير وعريب وفريدة وعاتكة بنت شهدة وقلم الصالحية. أما الفصل الثالث فقد تناولت الباحثة فيه بالدراسة مجموعة الشعراء الذين اشتهروا بالغزل بالجواري, وشاعت أخبارهم بحبهم لجوار معينات مما ساعد على اتساع نطاق الشعر الغزلي بشكل عام وذلك لعدة عوامل منها التقدم الحضاري والمزج بين حضارات الأمم المختلفة نتيجة اتساع رقعة الدولة العباسية ثم الغنى والرخاء الذي عم البلاد, بالإضافة إلى كثرة الجواري والقيان اللائي كن مدار شعر الغزل. ونتيجة لكثرة هذا الصنف من النساء وسهولة الاتصال بهن أخذ الشاعر العباسي يتغزل بجوار متعددات وأصبحت هذه الصفة ظاهرة العصر. وقد فرقت الباحثة بين لونين من الغزل هما الغزل المادي والآخر العفيف حيث أطالت في الحديث عن اللون الأول ربما لشيوعه وانتشاره بين شعراء العصر انتشارا واسعا ولكونه أصبح أكثر صراحة وفحشا عما كان عليه في السابق وذلك يعود إلى أن المرأة الحرة لم تعد هي موضوع ذلك الغزل, كما أن مشاركة الجواري في نشر الخلاعة وانتماء الكثير من الشعراء لفئة الموالي ساعدت كثيرا على انتشار ذلك اللون المادي من الغزل, وبعد أن ضربت الباحثة بعض الأمثلة من الشعراء الذين اشتهروا بهذا النوع من الشعر الغزلي عادت لتتحدث عن الغزل العفيف الذي ضعف تعاطيه كثيرا في ذلك العصر, وعددت كوكبة من أبرز فرسانه, ثم خصت بالحديث طائفة من الشعراء الذين ظهروا في ذلك العصر وشاعت أخبارهم بين الناس بسبب تغزلهم بجوار معينات حتى اقترنت أسماؤهم بهن بعد أن أشارت إلى العوامل التي أثرت في قصصهم العاطفية معهن وهي طبيعة الشاعر ومتجهه النفسي والفني, وطبيعة الجارية وتكوينها الثقافي والنفسي, والبيئة التي كان لها أبعد الأثر في حياتها والمنزلة الاجتماعية التي يحتلها مالك الجارية. ومن أشهر القصص التي ذكرتها الباحثة على هذا الصعيد قصة بشار بن برد وعبدة, وقصة العباس بن الأحنف وفوز, وقصة أبي العتاهية وعتبة, وقصة أبي نواس وجنان, بالإضافة إلى قصتين إضافيتين أقل شهرة من القصص السابقة هما قصة إبراهيم الموصلي وذات الخال, وقصة محمد بن أمية وخداع. وفي الفصل الرابع تعرضت الباحثة بالدراسة للجواري الشاعرات حيث لاحظت أن هناك مجموعة من الجواري قلن الشعر وتفوقن في النظم فيه, ولكنها لم تتوسع في الحديث عنهن لقلة أخبارهن وأشعارهن التي أوردتها الكتب التي أتت على ذكرهن. وقد تبين للباحثة أن هؤلاء الجواري ذوات الثقافة والأدب اللاتي يحضر مجالسهن الأدباء ويتبارين مع فحول الشعراء لا يمكن أن تكون هذه الأبيات القليلة التي ترد في كتب الأدب هي كل نتاجهن الفني, ورجحت الباحثة تأسيسا على ذلك أن تكون أشعارهن وأخبارهن الفنية فقدت وأصابها الضياع, لكنها وقفت عند جاريتين شغلتا المجتمع العباسي وسيطرتا على تفكير كثير من الخلفاء والشعراء بما تملكانه من موهبة فنية في نظم الشعر ورواية للأخبار والأشعار وهما عنان جارية الناطفي وعريب جارية المأمون. وقد أخرت الباحثة دراسة الخصائص الفنية للفصل الأخير من الكتاب, حيث بدأت حديثها في هذا الفصل عن اللغة والأسلوب وما طرأ عليهما من ميل نحو الشعبية واستعمال لغة الحياة اليومية حتى اتجه بعض الشعراء إلى استعمال الأمثال الشعبية وكذلك استعمال بعض ألفاظ التظرف وإشاعة الرقة في لغة الغزل نتيجة تأثر هذه اللغة بالحياة المتحضرة الجديدة, وبالثقافة الشائعة, فأكثروا من ذكر الورد والتفاح في أشعارهم, وأصبح للورد لغة في شعرهم يفهمها المحبون. واستخدم الشعراء العباسيون البديع في أشعارهم وأكثروا منه, وأشهرهم بشار ومسلم بن الوليد, فمال أسلوب الشعراء إلى البساطة والسهولة مستفيدا من لغة العصر المتطورة ومن هنا نشأ أسلوب جديد يسمى بالأسلوب المولد أو أسلوب المولدين. ثم انتقلت الباحثة في ذات الفصل إلى الحديث عن المعاني حيث لاحظت أن الشعراء لم يهملوا المعاني القديمة بل جاءوا بكثير منها في أشعارهم, وفي الوقت ذاته أبدعوا في اختراع المعاني الجديدة والدقيقة, أو استخراجها من معاني القدماء وصياغتها في قوالب جديدة تتلاءم مع روح عصرهم, كما استخدموا ألفاظ المتكلمين والفلاسفة ومصطلحاتهم. بعدها عالجت الباحثة الأوزان والقوافي فأشارت إلى ما أصاب الأوزان من تطور وتغير, وكيف أن الشعراء ابتعدوا عن الأوزان الطويلة واتجهوا للأوزان الخفيفة. وكان للغناء أثر كبير في ذلك, فقد أخذ الشعراء ينظمون في أوزان جديدة تتلاءم وذوق المغنين, وقد أكثروا من النظم في الأوزان المهملة التي سجلها الخليل مثل المجتث والمضارع والمقتضب. كما أشارت إلى أثر الغناء في القوافي وكيف أن الشعراء أخذوا يجددون في قوافيهم ويستحدثون قوافي جديدة تتحاشى الخشونة والوقفات غير المستحبة. كما وقفت الباحثة عند ظاهرة الوحدة العضوية في القصيدة الغزلية, وما كان من رفض هؤلاء الشعراء لفكرة استقلال معنى البيت عن بقية أبيات القصيدة وهو ما سماه القدماء بالتضمين, وقد أدخلوه في عيوب القافية. وفي النهاية حاولت الباحثة تلخيص كل مباحث الكتاب في صفحات الخاتمة, لكن الموضوع لا ينتهي بل يصير بداية بحد ذاته لدراسات أخرى لابد منها في سبيل سبر أغوار الظاهرة بمختلف تجلياتها, وهي تجليات تتكاثر وتتنامى مع تنامي دور المرأة في حياتنا المعاصرة بما لا يتناسب مع حجم الاعتراف الذكوري بذلك الدور أو على الأقل بما ينبغي أن يكون عليه ذلك الدور.. نقول ذلك ونحن نخوض في لجة الزمن منذ القرن الرابع الهجري حتى القرن الحادي والعشرين الميلادي وما بين الزمنيين والتاريخين من معان وآفاق ودلالات و... أشياء أخرى!!
|