المغرب.. عناق البر والبحر محمد المخزنجي

المغرب.. عناق البر والبحر

من إطلالة مسجد الحسن الثاني على المحيط الأطلسي في الدار البيضاء، إلى منارة "مالاباطا" المشرفة على البحر المتوسط في طنجة. مضينا على ساحل عربي تتناغم فيه الألوان والأصوات والروائح. بهجة حقيقية للحواس. وموضع للتوازن العربي المدهش بين الصحراء والبحر. إنه النموذج المغربي العذب، وهو اكتشاف عربي مهم نكاد نحن عرب المشرق لا نعرف عنة شيئا. بينما هناك كثيرون من كبار مبدعي الغرب جعلهم اكتشاف المغرب يعيدون اكتشاف أنفسهم.

"الوطن العربي لا يعرف ذاته. وفي أحوال كثيرة لا نعرف أنفسنا إلا عن طريق الآخر. وفي رأيي أن أكبر حاجز بين العرب هو خيال بعضهم عن بعض. نحن جميعا ضحايا المتخيل العربي عن ذواتنا. وكلما التقينا لا بد من أن نبدأ من الصفر".

ارتفع صوت "محمد بنيس" الشاعر والناقد المغربي المعروف عندما بلغ هذا الموضع من حديثنا. ومحمد بنيس نموذج يشبه المغرب نفسه كما رآه الآن إذ يعرف كيف يصطدم وهو يبتسم، وكيف يطرح الفكرة النقيض دون أن يقطع حبل المودة. وبحيوتيه الدافقة كف برهة عن الكلام بينما راح يعبث في لحيته الخفيفة كأنه يواصل الحديث في داخله. وامتدت البرهة إلى دقائق من الصمت أفسحت لنا فضاء نرتشف فيه شاي النعناع المغربي الشهير، ونتأمل براعة الزخارف التي تصنعها فسيفساء "الزليج" على جدران القاعة من حولنا، وعلى الأعمدة، وحتى حنية السقف المشغول كله بزخارف الجص المنحوت الملون. وكانت هناك نغمات من الغناء الأندلسي تتماوج خافتة في البعيد. بينما شارع " الجيش الملكي" يمتد تحت أبصارنا. . شريطا محفوفا بالأشجار ومطروسا بالسيارات، تترامى على جانبيه عمائر الدار البيضاء الحديثة التي لم تغش عتمة الغروب نصوع بياضها. أمّا ثبج الموج في البحر القريب، فلم يكن إلا بعضا من عرامة المحيط الأطلسي.

وفي فضاء رشفات الشاي المغربي المنعنع، بل المثقل بالسكر والنعناع ، رفت في خاطري انطباعة: ليست يسيرة أبداً وقفة هذا البلد العربي على شاطئ المحيط الهائل والعارم. .الأطلسي الزاخر بالظلمات وبوارق النور الخاطف والأسرار. المغرب العذب ليس سهلا، هو الذي وجد تخومه في سلسلة جبال أطلس الخضراء الوعرة من ناحية، وساحلي المتوسط والمحيط من  الناحية الأخرى. أبدا ليست الوقفة سهلة. فللجغرافيا ثمنها ومعانيها ومراميها أيضا.

عبرت الانطباعة رأسي العامر بدفء الشاي والنعناع، فأكبرت في محمد بنيس رفضه للكلام العام عن "المغرب": "لا أومن أن شاعرا يمكن أن يتكلم في كل شيء.. الخطاب العام خلق لنا مآزق في الثقافة العربية". وأكبرت فيه الحس بالمسئولية الثقافية والمعرفية عندما أحال مشروعي إلى أسماء مغربية يثق في أصالة معينها المعرفي من جوانب بعينها. ولأن الوقت كان أضيق من إفساح المواعيد للتلاقي، اضطررت إلى أن أقنع من لوامع الأسماء الثقافية المغربية ببعض من كتابات عبدالله العروي عن تاريخ المغرب ومن محمد عابد الجابري عن الخصوصية المغربية. وأظن أن هذا مما أضاء لي رؤية ما لم أكن أراه قبل أن تلامس قدماي أرض الدار البيضاء. ثم كانت العين ترى والأذن تسمع ، وجاء الحصاد انقلابا كاملا لمشروع استطلاعي الذي سافرت به إلى المغرب.. فقد (هندست) له مسبقا فكرة عنوانها: "المغرب.. صراع البر والبحر" مفترضا خلالها أن البحر أمواج وافدة، غازية، وناحرة، ومقتلعة. بينما اليابسة أصيلة، مقيمة، ومقاومة. وإنني الآن بعد تلك الرحلة على الساحل المغربي لأشعر بفجاجة الفكرة المسبقة وفرط هندستها. لهذا أهدمها وأتحول إلى وجهة أخرى، أتلمس هذا النسيج المغربي الرهيف ، المركب، الذي وإن كانت أدارت أنواله مواجهات بين البر والبحر والبر والبر. إلا أن نسقه الفريد، في رأيي، مدين بصحته وفرادته لطابع مغربي أصيل أحال الصراع إلى عناق وهو ما تبدى لي عبر تلك الرحلة على الساحل المغربي. لهذا. . يتوجب أن أعود إلى البداية.

من الصحراء إلى الماء

كان ظلاما بينما طائرتنا تعبر حدود الصحراء متجهة عبر خاصرة المغرب إلى عاصمته التجارية "الدار البيضاء". وفي الظلمة لم يكن ممكنا أن أرى الرمل المغربي تحتنا، لكنني هجست بوجوده. ولأننا كنا نطير فقد تذكرت طيارا أوربيا شهيرا جعلته المغرب، والدار البيضاء خصوصا، يكتشف فراديس روحه، فيغدو علما من أعلام الروح الإنساني. إنه الكاتب "أنطوان سانت اكسوبري" الذي كانت دنيا الأدب العالمي في توقيت رحلتنا تحتفل بالذكرى الخمسين لاختفائه الغامض، بينما تحل في ذات الوقت تقريبا الذكرى الخامسة والسبعون لرحلة طيرانه الأولى في 13 يوليو 1919 من تولوز في الدار البيضاء. إلى المغرب التي استخرجت من الطيار كاتبا إنسانيا بسيطا وعميقا، فقد جعلته على حد تعبيره يستعيد سحر أحلام طفولته الباكرة ويعيها في نور جديد، نور طبع حياته فيما بعد بخليط من الإنسانية والتواضع والشجاعة. لقد سبقه في ذلك مبدعون غربيون كثيرون، مشاهير أيضا.. الكاتب بيير لوتي والفنان ديلاكروا، ولحقه آخرون. كان من بينهم أندريه موروا الذي قال عن المغرب:" إنها القديم والجديد، المحافظة والمغامرة، الشاعرية والعملية. وهي باختصار: إنجاز فني ".

فنانون وكتاب عالميون اكتشفوا أنفسهم من جديد في المغرب، وستذكرنا بهم كل خطوة نخطوها في رحلتنا هذه. لكن أنطوان سانت اكسوبري يظل لصيقا بادار البيضاء التي دخلنا مجالها الجوي قرب الفجر. فقد كان صاحب رواية "الأمير الصغير" الفاتنة البسيطة العميقة..كان طيارا مسئولا عن البريد بين تولوز الفرنسية والدار البيضاء وداكار. كانت فترة وقوع المغرب في قبضة الاستعمار الإسباني، وكان اكسوبري يحمل معه شأن طياري ذلك الزمان قفصا به بعض من الحمام الزاجل يطلقه مع رسائله لينقل معلومات طيرانه إلى المطارات التي كانت بها "بيوت للحمام " تستقبل تلك الإشارات المرفرفة، قبل أن تتطور تقنيات "اللاسلكي". ولقد أطلقت المغرب حمائم روح اكسوبري الذي كان نموذجا مختلفا من الأوربيين الذين انخرط في مقاومتهم المغاربة ولم يكونوا يستثنون منهم أحدا، إلا هذا الفرنسي القائل: "أفضل ما يقرب بين البشر والبشر هو العلاقات الإنسانية القائمة على التكافؤ"، وكان تطبيقه لهذه المقولة يثمر عند أطراف للدار البيضاء علاقة فريدة مع زعيم قبائل "المربوط" المغربية. كان الزعيم يعلم أكسوبري اللغة العربية ويشرح له تقاليد القبائل. وكان أكسوبري يتحدث بسعادة عن لقاءاته مع هذا الشيخ المغربي في ظل الخيمة ومع رشفات الشاي بالنعناع. ويرى في صحة علاقاته الإنسانية نوعا من المسئولية وهو الذي طالما ردّد: "أن تكون رجلا، أو إنسانا، يعني أن تكون مسئولا". ولقد كسرت قلبه روح اللا مسئولية الأوربية التي أشعلت نيران الحرب العالمية الثانية، فقال قبل اختفائه: "إنني لشد حزين وآسف لجيلنا الذي فقد إنسانيته " ثم ركب طائرته في الحادي والثلاثين من يوليو عام 1944 كواحد من المنخرطين في المقاومة ضد الفاشيست وكانت طلعته باتجاه جرينوبل، لكنه لم يصل إليها أبدا، واختفى.

ظل اكسوبري يحلق في خاطري حتى حطت الطائرة على مدرج مطار محمد الخامس في الدار البيضاء. فقد كنت مشغولا بهذه العلاقة بين الشرق والغرب التي يجسد سؤالها المغرب. وكانت هناك دعوة للاحتفال بذكرى الكاتب الإنساني تقيمها جمعية "الشرق والغرب" التي نشأت بمبادرة من "ياسمينا الفيلالي" لتعنى بالحوار الإبداعي بين العالمين اللذين تفصل بينهما مياه المتوسط ويكون الفاصل بينهما أضيق ما يكون عند الساحل المغربي المواجه لأوربا.

من الجو إلى الأرض انتقلنا، فكأنني انتقل بسؤالي إلى الواقع المغربي. وبينما تلقانا بترحاب جميل السيد مصطفى دنيني مسئول الصحف بأكبر مؤسسة توزيع مغربية تسمى اختصارا "سوشيبرس " ومضى بنا على الطريق المشجر الطويل من الوادي إلى الساحل، تعرفت أول وجه مغربي. رجل دقيق يقظ ومنفتح بأريحية على ثقافتين يجيد لغتيهما العربية الفرنسية. وأخبرني أن معرفة لغة ثانية أمر شائع بين أبناء جيله. وأحسست بالتوازن في هذا النموذج المغربي مزدوج اللغة. وراح إحساسي يتنامى عبر الانطباعات الأولى عما أراه حولي بينما كنا نوغل في شوارع الدار البيضاء العصرية الناصعة، التي يعود كثير من أبنيتها بطرازه إلى أبنية الثلاثينيات الفرنسية. وفي بشائر الصباح الباكر كان لي أن ألمح بداية ما سوف يلفت انتباهي بشدة فيما بعد، وهو الإحساس بالتصالح بين الناس وبيئتهم، بين الزمن المغربي الكائن والأزمنة التي كانت.

فماذا عن تمحيص ذلك؟

مئذنة تطل على المحيط

الدار البيضاء قد تبدو نقطة ليست دالة بوضوح على النموذج المغربي. لكن هذا للوهلة الأولى. إنها مدينة كبيرة وغضة في أن تنامت مائة مرة أكثر من حجمها الذي بدأت به عام 1900، وتكاثر سكانها من عشرين ألفا إلى أكثر من ثلاثة ملايين. توحي للوهلة الأولى بنمط حاضرة عصرية من حواضر البحر المتوسط. مدينة "بيزنس " بطرق واسعة وأبراج سكنية وفنادق فاخرة وأحياء شعبية عند الأطراف. لكن لا.. فقليل من الإيغال في قلب الدار البيضاء هذه، سواء باتجاه المحيط أو العكس، يكشف عن بعض من خصوصية ألوان المغرب وعطورها ورفيف الروح فيها. ولعل مسجد الحسن الثاني الكبير، الأعجوبة الإسلامية العصرية المطلة على مياه الأطلسي.. لعله يكون بداية لمشهد مغربي ذي خصوصية وفرادة. وأرى أنه  أبعد من زمن افتتاحه بكثير. صحيح أنه افتتح في أغسطس 1993 بعد ست سنوات من التشييد، استهلكت 50 مليون ساعة عمل، وجهود 25000 فنان (ولا أقول عاملا)، لكن هذا "القلب الرمزي" كما وصفه أحد الكتاب الغربيين فأحسن الوصف يكتنز في رحابه وبين حناياه لمحات معتقة من روح المغرب الفنان المؤمن، والمنفتح. كما أن الصروح العملاقة البديعة من هذا النوع هي حالة من تجلي اللحظة التاريخية حتى لو كان مولد فكرتها في عقل ملك. ولعلي أبرهن على ذلك بما شاهدته في كثير من البيوت والمحال والحوانيت من احتفاء فخور بامتلاك إيصال للتبرع مشاركة في بناء هذا المسجد الشامخ. فالإيصال رأيته كثيرا داخل إطار معلق على الحائط بشكل يوحي بالزهو والتشريف. إنه قلب رمزي حقا. ومن ينظر مثلما فعلت من مكان مرتفع في نهاية الدار البيضاء فسوف يرى كيف أن هذا الصرح منفردا قد طبع. المدينة كلها بطابعه. وقد بدا لي المشهد الرحيب وكأن الدار البيضاء وهي بيضاء حقا سفينة عريضة تشق زرقة المحيط الأطلسي اللا متناهية الأفق بمقدمها الرصين المطمئن الذي تشكله بناية مسجد الحسن الثاني الشهباء المتميزة، المكللة يالقرميد الأخضر، فيما المئذنة الشاهقة الموشاة بفيروزية الزخارف تعلو في السماء فكأنها صار من صواري الروح المسلم ينشر شراعا شفيفا يمتلئ بهواء المحيط العفي الذي لا يبين، لتثبت السفينة في مرساها المغربي وتتكسر عند أقدامها أمواج المحيط إن عنفت أو طغت. فكأن هذا الصرح رمز لمسعى التوازن المغربي على مستوى الشكل ينم عن حرص على هذا المسعى في الجوهر.

مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، إذن، ليس بعمر افتتاحه أو بدء تشييده، أو حتى بزوغ فكرته، بل هو أقدم من ذلك كما أرى، كما استنتجت من تأملي المبهور لعمارة المسجد وزخارفه ونقوشه. فالأطنان الخمسة والستون ألفا من الرخام ، والأعمدة الألفان والخمسمائة، وقاعة الصلاة التي تسع عشرين ألف مصل إضافة إلى ثمانين ألفا في الباحة. والمئذنة مربعة المقطع التي ترتفع مائتي متر. والأبنية الملحقة بالمسجد لتشكل مجمعا ثقافيا إسلاميا متكاملا.. كل هذا ينبض بفن الروح المغربي المتصالح مع ذاته والمسبوك من عناصر تصاهرت معا برغم كونها من مصادر شتى..زخارف "الزليج" أو فسيفساء الخزف الملون على الأعمدة والجدران وأضلاع المئذنة وهامتها. والحفر على خشب الأرز الذي يجلد صحن المسجد. وأعمال الجص المنقوش الملون في الحنايا والأفاريز. كل هذا الفن ليس ابن ثماني سنوات أو عشر أو عشرين. وليس وقفا على مسجد الدار البيضاء الكبير هذا. أنه تراث فني يستمد جذوره من عبق أول مسجد في عمر الإسلام بالمدينة المنورة منذ ألف وثلاثمائة واثنتين وسبعين سنة مضت. ويبلور حصاده من إسهامات السنين والأمصار ، من الكوفة والأندلس حتى فاس ومكناس ومراكش. ليستقر كنزا فنيا لدى الصانع المغربي ورمزا تنداح ظلاله أبعد من الرامز ذاته. ففسيفساء الزليج المغربي بوحداتها المتكررة بنمنمة وإتقان وبهاء تجذب الرائي لتنتزعه من عالم الواقع المحسوس إلى عالم الروح اللا متناهي. فالتكرار البديع يبدو وكأنه لا ينتهي ومن ثم يكف البصر عن التركيز فتتحرر البصيرة.

هذا الصرح المنطوي على ذلك الإرث الفني المغربي الإسلامي هو نفسه نموذج على الروح المغربي المنفتح على ما ينفع، دون ذلك التشنج المعهود لدى الباحثين بالعنف عن هوية ع فالمسجد يمر تحته نفق طويل حديث حتى يستمر في السريان طريق "سيدي محمد بن عبدالله " وثمة (جراج) متعدد الطوابق تحت أرض الساحة ، أما صحن المسجد فإنه ينفتح بتجهيزات إلكترونية متطورة فيما لا يتجاوز ثلاث دقائق عندما يكون الجو صحوا، وينغلق في الدقائق الثلاث ذاتها إن أنذرت بالمطر.

هذا عن المسجد، أما عن الناس، فقد شكل المسجد لهم متنفسا روحيا رحيبا وساحة طيبة لتنسم هواء المحيط في ساعات العصر والغروب العذبة، حيث يقتعدون الأسوار الخفيضة لباحته المطلة على الماء من كل ناحية.. تستجم أجسادهم في طراوة النسائم وترف الأرواح في حضرة هذا النقاء الباذخ.

لقد جلسنا مع الناس نستروح نسائم المحيط، ونستجلي آفاق الشاطئ المغربي، وأشار مرافقنا " بانوس عبدالكبير" إلى بروز صغير من الأرض داخل المياه باتجاه الجنوب وهو يقول: "مربوط سيدي عبدالرحمن". وكانت إشارات عبدالكبير المغربي الكريم والمرح تتحول فورا إلى حركة يحملنا عبرها لنرى مغزى الإشارة. وعلى امتداد (الكورنيش) ذي الشواطئ الفسيحة ومطاعم المأكولات البحرية الطازجة توقف بنا "بانوس عبدالكبير" على الشاطئ حيث يمتد لسان رفيع من الرمال والصخور إلى جزيرة صغيرة تعلو مدارجها بيوت صغيرة بيضاء. وكان هناك بعض من أبناء البلد يتجهون أو يعودون من الجزيرة. ولما رآني عبدالكبير لا أفهم كلمة "مربوط " ترجمها في "مقام" فثمة ضريح لأحد الأولياء في الجزيرة يذهب إليه الناس لقراءة الفاتحة استجلابا للبركة وأملا في أن يزيل الله كروبهم.

قلت لنفسي وأنا أطوف بناظري حول المكان.. عمائر المدينة، والشاطئ، والمقام القريب، والمسجد الشاهق في المدى: "كل شيء هنا". وأضيف الآن في لحظة الكتابة: "كل شيء هنا..وكل الأشياء في تصالح ".

ويتنامى إحساسي بحالة التصالح هذه إذ نكمل جولتنا بالدار البيضاء، فمن أقصى غرب الشاطئ نمر بفندق "أنفا" فنتذكر أن الفينيقيين كانوا يقيمون لهم ميناء في هذا المكان، وفي هذا المكان تم لقاء روزفلت وتشرشل عام 1943 فاتخذوا قرار غزو سيشل وقرار الإنزال البري ضد هتلر عام 1944.

نمر قرب الميناء بالمدينة القديمة التي تتهيأ للتبدل حتى يمر الطريق الكبير الجديد إلى مسجد الحسن الثاني، فتتذكر أن البرتغاليين أقاموا في هذا المكان لأول مرة منذ خمسة قرون، وكعادتهم التي جعلت البعض يسميهم "براغيث البحر" لم يمكثوا في المكان، لكنهم عادوا إليه بعد قرن وأسموه " كازابلانكا" أي " البيت الأبيض " أو الدار البيضاء، وكان مقامهم ينهض على مرتفع يشرف على خليج صغير دمره زلزال لشبونه عام 1755. ثم عاد بعد ذلك التجار المغاربة وعمروا المكان وأسمو المدينة (وينطقها المغاربة لمدينة) .. المكان مزدحم ويعج بسكانه البسطاء، وإذ نخرج منه نمر بمركز كبير للتسوق يسمي "مركز 2000" فكأن خمسة قرون كاملة قد ذايت في (المدينة) وتماهت في زمن واحد هو الزمن المغربي.

الزمن المغربي.. أراه بعدا يختلط فيه الزمان بالمكان، وأراه يتجلى أكثر ما يتجلى في الدار البيضاء بمنطقة "الحبوس". وهي نموذج مصغر لمدينة مراكشية شكلا وموضوعا. وقد بدأ تبلورها في الثلاثينيات كمقام لأبناء البلد في زمن عزت فيه البيوت وقت الهيمنة الاستعمارية الفرنسية. الآن تبدو الحبوس قطعة فنية معتقة من ذلك الزمن الحي والحيوي. حوانيت بائعي، الجلايات " ، والطرابيش ، والزرابي المغربية على أنواعها، والخشبيات، والنحاسيات، والزيتون الذي يستقل بسوق خاص تحتشد فيه عشرات الأنواع التي يصعب على غير المغربي المخضرم أن يميز بينها.

الحبوس.. حبور الحديقة المورقة وسط الميدان الصغير الجميل ، والأبنية الخفيضة المتكاتفة في تلاحم، والأزقة، والحمامات، وأبواب المدينة، وبناية المحكمة الشرعية بسقوفها القرميدية وأبراجها العديدة ثم امتداد الدروب حتى جادة النخيل الباسق وبوابة القصر الملكي.

وفي الحبوس نادتني المكتبات والكتب. وتشهد العناوين والصفحات بخصوصية الاجتهاد المغربي وانفتاح ذهنية هذا الاجتهاد. القديم يجاور الجديد ، والمحافظة تفتح على حرية حيية. واللحظة تمتح من مشارب شتى بلا افتعال ولا وجل، لهذا أظن أن الخطاب المغربي في حقل الثقافة العربية يلعب اليوم دورا قائدا في مجالات تسود فيها مفرداته، كالنقد الأدبي الحديث، واللسانيات، ونظرية المعرفة، وعلم الاجتماع السياسي، والمثاقفة. والأسماء عديدة ولامعة يصل مدى بريقها إلى المشرق بجدارة.. العروي، أركون، الجابري، براده، بنيس، إضافة إلى أسماء لا نعرفها وما أقسى ألا نعرفها.

الكتب صورة من صور الحياة في زمن نشرها وانتشارها.. وأرففها شهادة على حالة التصالح المغربي مع الذات، فتلمس الهوية في هذا البلد المواجه للبحر والمحيط، المطل من أقرب نافذة أو شرفة على الآخر قضية حقيقية. لكن السوية المغربية تسعى إليها بلا تشنج ولا عنف، برغم أن العنف المتشنج على تخومها يذبح البنات ويمثل بالجثث. لهذا يطرح النموذج المغربي بهدوئه أسئلة حرجة ومحرجة على التطرف الذي يعربد هنا وهناك في وطننا العربي خارج الحدود المغربية. ففي المغرب فقراء، وتباين اجتماعي، ومواجهة جغرافية سياسية للآخر، وإرث تاريخي غير مبرأ من عسف الأخر بل مواجهة يومية مع الآخر، فلماذا لم أحس بوجود التطرف في المغرب؟ كما لم أحس بالتفريط. بل أحسست بالتوازن والتسامح. لماذا؟

ويجيئني مقترح للإجابة على لسان محمد عابد الجابري إذ يقول: "إنه المشروع الثقافي المغربي الذي تم التبشير به منذ أواخر الثلاثينيات، المشروع الداعي إلى تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة ، والذي بقي إلى اليوم مطمح الأجيال الجديدة".بلغة أخرى.. إنه الاطمئنان إلى صحة تعايش الثقافات. وبلغة الجغرافيا المغربية..إنه حوار البر والبحر...وسيرورته السوية إلى العناق.

فهل نستمر في لمح هذا العناق، بينما تتواصل رحلتنا على الساحل؟

بستان في قلعة البحر

أردنا أن ننتقل إلى الرباط، فقالوا لنا "خذوا عويطه.. إنه الأسرع"! وعويطه الذي قصدوه ليس هو بطل العدو المغربي العالمي الشهير "سعيد عويطه"، بل هو قطار سريع يربط بين الدار البيضاء والرباط. وقد أطلق عليه المغاربة هذا الاسم مرحا ودلالة. " فالمغاربة انبساطيون وإن من دون صخب. وأظن أن هذا الانبساط الإنساني نقيض الانطواء هو شرط من شروط التوازن والتصالح الذي لمحته وألمحت إليه. لم نأخذ عويطه ، إذ أصررت على أن أظل بجوار الماء، على شريط الساحل. ومرة أخرى هبت لمعونتنا الدار الشريفية لتوزيع الكتب والصحف "سوشيبرس" إذ منحتنا مودّة أحد أبنائها بانوس عبدالكبير الذي خف إلينا بسيارته وخبرته لينقلنا على الطريق الساحلي السريع إلى العاصمة "الرباط". وفي الطريق جعنا، فانعطف بنا "بانوس" إلى واحدة من الاستراحات الشعبية على الطريق. وهي مطاعم تعرض في واجهتها قطع اللحم الطازج ويختار الزبون ما يريد ومن اختياره يصنعون له "الكباب" الذي كان طيبا جدا ربما لطزاجة اللحم ، وربما لأن هذا اللحم نتاج  المراعي الطبيعية التي رأيناها فيما بعد تنتشر بين تلال ووديان الأطلسي عندما ذهبنا إلى "الريف".

كان الجفاف الذي يضرب الأرض المغربية. منذ سنوات باديا في المساحات الخصبة العطشى التي لم تنزرع، لكن حزام التخضير حول الرباط كان مستمرا برغم الجفاف. ومن أحد الأبواب الأثرية الضخمة بمدينة الرباط دخلنا. وعلى الفور انفسحت أمامنا الشوارع النظيفة الواسعة بأشجارها الوارفة والنخيل الباسق الذي يعطي تنسيقه في الشوارع انطباعا لا ينسى. ومن الشوارع الحديثة انتقلنا إلى المدينة القديمة التي يفضي إليها شارع الحسن الثاني. ومررنا بسور الأندلس فالسوق المغطى ثم "السويقة" أو السوق العتيق الذي يمنح الرائي مذاقا مغربيا خاصا حيث مئات المتاجر التي تصل حتى "سوق السباط" وصلنا إلى "زنقة القناصلة" وصعدنا إلى "قصبة الوداية" المطلة على المحيط الأطلسي ...

طالت جولتنا في قصبة الوداية ، ووددت لو تطول لحد الإقامة، فثمة شيء جميل وأليف في هذه الأحياء الشعبية العالية المطلة على الماء المحاطة بأسوار المدن القديمة. الطابع نفسه في كل "قصبة" صعدنا إليها من الدار البيضاء وحتى طنجة. شبكة الدروب الدقيقة الملتفة والمتواصلة بين البيوت البيض البسيطة النظيفة، والورد والنباتات التي تتبدى مشرقة ورهيفة على خلفية البياض الناصع.

"القصبة" المسورة تبدو اختزالا جماليا لعناصر مغربية شتى، محصلة سلمية لعراك طويل بين البر والبحر. ولقد وقفنا هناك فوق "برج القراصنة" لنرى أمواج المحيط تتكسر على الصخور عند أقدام الحي الذي تحرسه الأسوار العتيقة. وكانت المدينة الشقيقة للرباط "سلا" تلوح شفيفة البياض على الضفة الأخرى من مصب نهر أبي رقراق الذائب في اتساع المحيط. وقبل أن نغادر مررنا بمصنع "الزرابي الرباطية" البهيجة حيث تتناغم الألوان الحمراء والزرقاء وفي زركشة تتوسطها دائما نجمة ويسورها محراب دائري. وعرجنا على أقدم مساجد الرباط والراجع تاريخه إلى عام 1150 ميلادية. ولم نغادر القصبة إلا بعد أن طفنا بمتحف الفنون المغربية وفتنتنا حديقته الداخلية المنسقة على الطراز الأندلسي. وانتهينا إلى مقهى ظليل يطل على مصب النهر في مياه المحيط.. وكان الشاي بالنعناع وداعا عطرا لقصبة الأودية. لقد صعدنا بعد ذلك إلى مرتفع صومعة حسان وضريح الملك محمد الخامس ، ومن إيحاءات التاريخ القديم الذي تلقي بظلاله المئذنة الهائلة المكسورة والأعمدة الواقفة في الفضاء المشمس. ومن جلال السكون في الضريح المزين بلمحات كل الفنون المغربية رحت أطل على الرباط من هذه الذروة.. على يساري الرباط تمتد حتى القلعة المطلة على المحيط.. وعلى اليمين سلا يوشي بياض مبانيها خيط السور العتيق.. وبين سلا والرباط يمضي في الأسفل نهر أي رقراق متجها إلى المحيط حيث تتكاثر على شاطئه زوارق صيادي الأسماك ويقف على البر الراغبون في شراء الأسماك الطازجة...

البراح الشفيف المضيء، والنسمة العذبة، وجلسة هادئة في ظل صومعة (مئذنة) حسان، وإطلالة شاملة على المدينة جعلت أمواج التاريخ تتدافع في الخاطر...

هنا كان يقف البحارة الفينيقيون والقرطاجيون ومن بعدهم الرومان الذين أسسوا مدينة "شالة" حاملة ذلك الاسم الذي كان يتسمى به النهر. وكانت "شالة" أهم موانىء "موريطانيا الطنجية" التي احتلها الرومان واندثرت بانهيار الإمبراطورية الرومانية. وفي القرن العاشر للميلاد أسست قبيلة بربرية من المسلمين هي قبيلة "زناته" مدينة "سلا" على الضفة اليمنى من النهر بينما شيدت على الجانب الأيسر حصنا دفاعيا ضد هجمات ما يأتي من البحر وأسموا الحصن "رباطا". وأعطى الحصن للمدينة اسمه. وفي عهد الموحدين قرر القائد الكبير عبدالمؤمن تحويل هذا الموقع إلى مركز محصن تنطلق منه الحملات العسكرية إلى بلاد الأندلس فصار "رباط الفتح". وفي نهاية القرن الثاني عشر أصبحت تتكون شيئا فشيئا مدينة داخل سورين طويلين وكان السلطان يعقوب المنصور يحلم بأن يجعل من رباط الفتح عاصمة كبرى. ويحكى أن منارة حسان تلك التي شاهدنا بقاياها أمام ساحة ضريح محمد الخامس كانت تشكل مئذنة أحد أكبر مساجد العالم الإسلامي آنذاك. ولما استولى المرينيون على الرباط عام 1253 م أصبحت مجرد مدينة صغيرة مقارنه مع مدينة حكمهم فاس، ولم تدب الحياة في الرباط من جديد إلا بعد توافد المهاجرين العرب عليها آتين من بلاد الأندلس. وحوالي عام 1610 ميلادية بدأت تصل تباعا إلى مدينة الموحدين الأفواج الأولى من المسلمين النازحين من بلاد الأندلس لإسبانيا واستقرت في ما كانوا يطلقون عليه سلا الجديدة (وهي المدينة القديمة في الرباط حاليا) قبالة سلا القديمة على الضفة اليمنى لنهر أبي رقراق. وبمرور السنين توافد عليها بعض القراصنة الأوربيين من جنسيات شتى وصاروا يعرفون بقراصنة سلا الذين راحوا يهاجمون قوافل الملاحة القادمة من وإلى أوربا. وظلت الرباط وتوأمتها سلا تعيشان حالة من عدم الاستقرار في أن ظهر ملوك الدولة العلوية فاستولى "مولاي رشيد" سنة 1666 على حصن أبي رقراق وبعده استطاع "مولاي إسماعيل" إخضاع المدينتين لحكمه.

وفي القرن التاسع عشر أصبحت الرباط مركزا كبيرا إلى أن تحولت رسميا إلى عاصمة إدارية للمغرب عام 1912

رحت أتأمل سلا والرباط من قمة صومعة حسان وأستعيد ملامح قنطرة مولاي حسن الواصلة بينهما وصور الأزقة العتيقة والحوانيت وما تعج به من أثواب مطرزة وخزف ملون وخشب منقوش وأثاث من القصب. أستعيد مروري عبر الأبواب العتيقة وأدور في أزقة القصبة النظيفة المرحبة بالنور. وأستعيد وجوه الناس الطيبين. وأتعجب أن تكون هذه الحالة من الدعة الجمالية والسلام هي محصلة صراع طويل بين البر والبحر، أخذا وردا، حتى انتهى الصراع إلى عناق وادع. فلا بد أنها روح الأرض وجوهر الناس. فماذا يقول الشمال؟

بياض ناصع وزرقة عميقة

222 كيلو مترا شمال الرباط، وأربعون كيلو مترا قبل طنجة تسطع الشمس ويهفهف نسيم المحيط. هنا أصيلة. ونستريح ونهدهد التعب وجوع الطريق بوجبة طازجة من سمك الأطلسي في مطعم للمأكولات البحرية يطل على الماء..ثمة أغاني إسبانية. وضيوف من جنسيات شتى. وعمال المطعم المغاربة حسنو الضيافة ونشطون. وأبدأ في الانفتاح على نغمة جديدة..بل نغمة مغربية عميقة تطفو كلما اتجهنا شمالا فالإحساس بالآخر لا يزج به في إطار التربص. بل ثمة رغبة في الاقتراب الإنساني مادام هو خيرا هذا الاقتراب. وإذ أتجاذب مع جاري المغربي أطراف هذا الهاجس يرد بالمثال العملي: "اسمع..هذا الرجل العجوز هناك وهذان ابنته وحفيده..إنه أسباني..كان يمتلك هذا المطعم وهو لا يعيش هنا الآن..لقد ترك المطعم لعماله المغاربة وهو يأتي ليستعيد أطيب ذكرياته ويقيم أياما ويذهب..ليس كل الغربيين أشرارا".

ولقد جعلني المذاق الرائع للسمك المغربي المعد بطريقة أسبانية أوافق تماما على مقولة الرجل: ليس كل الغربيين أشرارا! ونهضنا لنصعد إلى المدينة القديمة.وهي كشأن القصبات جميعا..مدينة داخل أسوار حصن عالية عتيقة. وأمام باب القصبة الهائل الذي كان يغلق قديما في المساء ليرد كيد المغيرين ليلا من البحر، أقرأ شعرا محفورا على قائم من الرخام في  حديقة أمام الباب الكبير وهي تسمى باسم الشاعرة "شكايا أوتامسي" صاحبة الأبيات: "لا / لن تعرفوا شيئا عن ذاكرتي/ ولا عن حيواتي الكامنة / تعالوا هذا المساء/ رأسي مطيب/ عرقي من الصمغ العاطر/ تعالوا هذا المساء/ أشعلوا المصابيح/ فروحي متأهبة تماما".

"زيليس" القديمة يؤكد المؤرخون أن تاريخها يمتد بعمق ثلاثة آلاف وستمائة سنة من الإطلال على المحيط وقد تعاقب على احتلالها كل الآتين على الموج: الفينيقيون، والقرطاجيون، والبيزنطيون، والرومان، والبرتغال، والإسبان. وبعد دخول الإسلام إليها أسميت أصيلة وأعيد بناؤها عام 844 م.

هناءة الجلوس في المقاهي المفتوحة على الأرصفة حول القلعة، وعذوبة سير الهوينى في أزقتها البالغة النظافة داخل السور. البيوت البيضاء، ولمسات الألوان على الحيطان وبهجة الشبابيك، وامرأة ترتقي سلما مزدوجا لتجدد طلاء نافذة بأزرق كزرقة الموج، وأولاد يرددون جذلين بلغات شتى "مرحبا. مرحبا". ويالعذوبة الساحة الصغيرة بين البيوت البيضاء المنمنمة، ساحة برج القمرة قصر الثقافة الذي كان مقر إقامة الباشا الريسولي. نمضي كأننا نصعد. ونصعد حتى نبلغ لسانا ممتدا فوق الماء عند قمة أصيلة فينجلي بهاء المشهد الناصع للبيوت المتلاحمة داخل السور الشاهق العتيق. وإذ أطل إلى الأفق ثم أسفل يجيء المحيط وتتكسر أمواجه عند أقدام القلعة. وعلى الشاطئ الصخري يلعب الأولاد الكرة بينما التمت مجموعة منهم فوق صخرة ضخمة وسط الماء للصيد. وهنا وهناك بعيدا عن الماء تترامى التلال الخضراء في لوحة عناق البر والبحر.

إنه بر المغرب، وهو بحر المحيط.

وفي قمة النشوة الرائقة املأ رئتي من أنقى هواء على الأرض. هواء المحيط الذي تعلوه شمس عذبة. وأحس بتصالح روحي مع روحي. فهل هذا هو الجذر البيئي، للتصالح الذي أعني وألمح ؟

عند مفرق البحرين

"كيقولو طنجة اللي ما شافاتي كتبكي عليه، واللي شافا كيبكي عليها" هل هذا صحيح؟

سألت الروائي الكبير محمد شكري فضخك ضحكة خفيفة، بينما قهقه الحاج حمدي غراس ابن طنجة الذي أكرمنا بصحبته الطيبة. ولا بد أن ضحك الحاج حمدي كان راجعا إلى نطقي "الطنجاوي" المهشم، بينما هو طنجاوي أصيل وتلك لهجته التي لم يغيرها أبدا طوال اصطحابه لنا بطول طنجة وعرضها، بل وعمقها حتى جبال الريف .

الجملة حرفية من رواية " الشطار" لمحمد شكري الذي أخبرني أن الاسم الأصلي للرواية هو "زمن الأخطاء". فقلت إنه أفضل. فهز كتفه مومئا إلى رغبة الناشر المشرقي .

الجملة تعني: "يقولون أن من لم ير"طنجة تبكي عليه ، ومن رآها يبكي عليها". رددها أحد أبطال رواية شكري. كسؤال موجه إلى بطل الرواية الذي هو صورة شكري الروائية المسكون بحب طنجة والذي ما فتئ يفكر في (ليل طنجة المغري إلى حد الموت وصيدها البحري: "رأس المنار"، " مالاباطا"، "مغارة هرقل" ، "سيدي قنقوس"، المريسة" و "الرمل").

كنا جالسين في شرفة بمقهى "الجنينة" الصغير البديع النظيف بشارع ماركو بولو، وأشار محمد شكري إلى الشاطئ والبحر أمامنا..خليج محوط بالتلال الخضر التي تهجع على مدارجها البيوت البيضاء ذات السقوف من القرميد الأحمر: " إننا الآن نطل على مكان يسمى مالاباطا أو المنار. واحد من أجمل الشواطئ المغربية".

طنجة..هي مدينة ساحرة، السحر الذي أغوى يوليسيس، والسحر لا يمكن تفسيره فإذا فسرناه لم يعد سحرا. هذه المدينة إما أن تقبلك أو ترفضك، مدينة لا ترحم. لا بد أن تعرف كيف تعيش فيها. أناس جاءوا ليكتبوا وعادوا. أناس جاءوا ليرسموا وعادوا. لو لم أعش في طنجة لما كتبت بالطريقة التي كتبت بها. تعدد الأشخاص وتعدد جنسياتهم. هذه مدينة تصب فيها معظم التيارات بصفتها جسرا. بالإضافة لكونها ميناء وهي مدينة أسطورية. المغاربة الطنجاويون يقولون إن فلك نوح رست على هضبة الشرف فأرسل الطائر وجاء بالتراب في أقدامه مما يعني ظهور البر وانحسار الطوفان أي بلوغ النجاة فقالوا: "طين جا"، ومنها: طنجة!".

نعم، طنجة مدينة أسطورية، بقدرتها على الإيحاء بالخيال الذي يحلق عاليا بارتفاع أسطورة. وكاتب طنجة هو الآخر أسطورة. فالصحافة الأدبية عرفتنا به كما لو كان قفزة مستحيلة من الأمية في الإبداع. محمد شكري ليس أسطورة من هذا النوع. أنه كطنجة أسطورة صنعت نفسها بمقومات نادرة كامنة في تكوينها فمحمد شكري كان لا يكتب حتى سن متأخرة نعم، لكنه ما إن عرف كيف ترسم الكلمات حتى انطلق في بناء معمار كاتب عربي مهم، بل أنه أحد الكتاب العرب القلائل القادرين على المحاورة العميقة مع الإبداع الغربي. فهو قارئ ممتاز للثقافة الغربية ، الإبداعية منها خاصة، ويأخذها من مصادرها فهو يجيد الأسبانية والفرنسية ويعرف الإنجليزية أيضا. متعدد اللغات كطابع طنجة المعتق. ثم إن الغرب أتاه إلى حيث هو فعايش هذا الغرب على أرضه أي طنجة بندية إنسانية. لهذا يتحدث محمد شكري عن المثاقفة لا بمنطق صراع الثقافات بل بمنطق لقاء الثقافات. فيقول لي بينما كنا نتناول غداءنا في أحد مطاعم طنجة الصغيرة الأنيقة وتحتنا مدارج التلال والبيوت وزرقة البحر: "سأتحدث معك ك (شاعر) هناك من الغربيين من أتى مغتصبا وهناك من أتى من أجل المصاهرة والعيش. وحتى من يأتي مغتصبا فهو يترك أثره. لكنه يترك من السيئ أكثر من الجيد. ولو أن الزمن أعطي للاختيار لأخذت الجانب الإيجابي دون السلبي ".

مواجهة الثقافات لدى كاتب طنجة مشروع للعناق أكثر منها مشروعا للصدام. وهذا منطق طبيعي في مدينة تقف عند مفترق الطرق ، فهي أقرب بوابات إفريقيا إلى أوربا، وهي زاوية الإطلال على لقاء البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي. وهي نموذج لحوار البر والبحر. وهو حوار لم يكن دائما هادئا، بل كثيرا ما كان داميا، وقليلا ما كان عادلا.لكنها لطبيعة قوية فيها، استطاعت طنجة أن تذيب في نسيجها كل من هبط على برها وإلا لفظته.

ما يبقى من المدن بعد الطواف بها إلا انطباع يلصق بالذاكرة، حفنة من الصور تقل أو تكثر، وطنجة تركت في روحي شريطا من الصور الفاتنة أسترجعها كحلم لعلي أعود للتوقف أمامها بالتأمل: أتذكر تلك التلال الخضراء المكسوة بغابات الصنوبر ونحن نصعد إلى منار رأس سبارطل أقصى نقاط الشمال الغربي للقارة الإفريقية. أتذكر الجبل بصخوره البنية الحمراء التي تنبثق من جنباتها الخضرة. أتذكر "الشرف" المطل على الخليج. وقوس البيوت على التلال يحدق بدائرة الماء.

أتذكر شارع إسبانيا بنخيله الباسق وزحام الفتيان والصبايا المتنزهين في نسائم الغروب. أتذكر المقاهي الأليفة الجميلة. السوق الهابط تحت شرفة المدافع المطلة على الماء. أتذكر الهبوط والصعود والالتفاف في الدروب النحيلة بين بيوت حي القصبة. أتذكر بوابة البحر الهائلة القديمة، والرحبة المطلة على الميناء. أتذكر عبارتين بيضاوين في زرقة المياه واحدة عائدة بالمغاربة من أوربا القريبة وأخرى ذاهبة إليها. أتذكر بهجة الإطلال على تلال مالاباطا وبيوتها البيضاء الرانية إلى الماء. أتذكر الطريق المظلل الطويل إلى منار مالاباطا. أتذكر مقهى الحافة المغمورة مدارجه بالنباتات والزهور وهو يطل من بين الغصون المغربية على أوربا التي تلوح طيفا على مد البصر. أتذكر رشفات الشاي بالنعناع والنسائم الطرية والإحساس بألق الحياة وتشابكها...ثم أتذكر الريف الخضراء جباله برغم الجفاف الطويل، والسهل الذي تنساب فيه أنهار لا أعرف لماذا تركت لدي انطباعا بأن مياهها الهادئة فيروزية اللون. أتذكر البيوت في حضن الجبال الخضر. وأتذكر السوق بفلاحيه ذوي الجلابيب الصوف وأغطية الرءوس من ذات النسيج. قبعات القش واسعة الحواف المحلاة بكريات الصوف الملون للنساء. أتذكر أكوام التوابل صارخة الألوان. والمطاعم المفتوحة تقدم السردين المشوي واللحم المشوي والنعناع. أتذكر طريق الرجوع من ريف طنجة إلى قلبها. وأتذكر تلك المغارة المطلة على البحر بنافذة ترسم وجه رجل يصرخ...

طنجة مدينة بديعة الطبيعة والروح.

"طنجة البيضاء" كانت تسمى هكذا يوم كانت مدينة دولية، بل أكثر مدن العالم دولية.نجمة كثير من الأفلام، ونداهة كثير من النجوم، كانوا يأتون للزيارة فيمكثون. لقد زال عنها طابع المدينة الدولية الواقعة تحت نفوذ الأعلام الغربية العديدة لكن قدرتها على الإغواء لم تزل. إنها تجتذب البشر من كل بقاع الدنيا وتجتذب المغاربة من أعماق الشاطئ والصحراء وذرى الأطلس.

طنجة حمامة بيضاء حطت على كتف إفريقيا بتوازن مرهف. منذ فجر وجودها في القرن الرابع قبل الميلاد وهي تشاهد المتصارعين من أجل الفوز بالنفوذ عليها: القرطاجيون، الرومان، الفينيقيون، العرب، البرتغاليون، الإنجليز. لكنها ظلت تمتلك نفوذها الخاص على كل من أتوا إليها.

لا مدينة شرقية مثلها أحبها الغربيون. كتاب وشعراء وفنانون أتوا إليها فأغواهم سحرها وأقامها زمنا أو حتى النهاية.. ديلاكروا، ماتيس، فأن دونجين، تينسي ويليامز، جان جينيه، جوزيف كاسل، بول بولز، ترومان كابوت.

أسماء بلا حصر...وأحلم بالانضمام إلى مريدي المدينة.

لقد تتبعت درجها وعبرت قوس "باب الراحة" لأنعم بالمشهد الساحر العريض من فوق المدينة وخليج طنجة. أصغيت لرفيف الأصوات الصاعدة من الميناء وحي القصبة وهبطت أسعى في مدارجها المفعمة بالنسيم والخضرة. " السوق الكبير" المتوج بالمئذنة بديعة الألوان المرسومة بزخارف الفسيفساء التي تعتلي مسجد " سيدي بوعبيد" الراجع إلى أوائل القرن. وفي ساحة السوق ينتشر الفلاحون الآتون من الريف. حيث تلف النساء فوق الملابس (فوطة) تقليدية مخططة بالأحمر والأبيض ويرتدين قبعات من القش عريضة الحواف مزينة " بالبوم بوم" كرات الصوف الملونة. تلال النعناع الأخضر والجبن في علب الخوص وعشرات الألوان من فاكهة المغرب الطازجة. وباقة الروائح المدهشة حيث تميز رائحة الليمون والبرتقال والقرفة والشواء والخشب العاطر. نصغي إلى جلجلة أجراس النحاس للسقائين في كيانهم المترف بالألوان المزركشة، ونرهف الأسماع للأغاني.

أمضى جنوبا إلى مدخل المدينة القديمة، وعلى مبعدة خطوات من السوق الكبير..ها هو ذا السوق الصغير.الميدان الصغير البديع المحاط بالفنادق والمطاعم والمقاهي. نقطة جذب كثير من فناني وكتاب أوربا الذين جذبتهم غواية طنجة. وفي فندق الكونتنتال أدور مسحورا في البهو، المترف السقف بزخارف الجص الملون ولوحات فسيفساء الزليج على الحيطان والقرميد الأخضر تعتمر به السقوف.

أمضي وأمضي، كل دروب طنجة تقود إلى البحر وكل طرقاتها تأتي عن البحر.

وعبر البحر المتوسط يلوح جبل طارق من ربوة منار مالاباطا على مبعدة عشرة كيلومترات شرقا. وعلى مبعدة أثنى عشر كيلو مترا إلى الغرب يلتقي المتوسط بالمحيط عند رأس سبارطل. وتلتقي الصخور بالأساطير على مقربة من رأس سبارطل في مغارة هرقل. الكهف العميق الذي ننفذ إلى داخله في عتمة ما تلبث حتى تنجلي عن فتحة النور. نافذة تحت الجبل تطل على مياه الأطلسي وترسم وجه رجل صارخ. وفي السقف نرى دوائر غائرة في قبة الحجر. إنها الرحى التي قدت من بدن الكهف لتعد طحين الناس. فالأسطورة القديمة تختلط بخبز البشر في هذه البقعة. والأسطورة تقول إن المكان كان ممتدا يصل إفريقيا بأوربا ويفصل بحر الروم (البحر المتوسط) عن بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) ولما كان لأطلس ابن نبتون (إله البحر) ثلاث بنات يعشن في بستان يطرح تفاحا ذهبيا ويحرسهن وحش. قاتله هرقل (ابن جوبيتر) وهزمه، لكن هرقل في غضبة من غضبات الصراع ضرب الجبل فانشق لتختلط مياه المتوسط الزرقاء بمياه الأطلسي الخضراء وتنفصل أوربا عن إفريقيا، ثم يزوج هرقل ابنه سوفاكيس لإحدى بنات نبتون ليثمر زواجهما بنتا جميلة أسموها طانجيس، ومنها كانت طنجة..

طنجة المقدودة من الأساطير ومواجهات الشرق والغرب يجيء ليلها فلا تنام.ولا ننام ليلة رحيلنا عنها والصحو في طنجة يغري يالتنقل بين جنباتها. وحيثما كنا كان البحر يعانق اليابسة كجزء من العناق المغربي الكبير بين البر والبحر. فلا نقول وداعا يا عذوبة المغرب.بل..إلى لقاء.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





المغرب عناق البر والبحر





مطعم مغربي تقليدي: مناضد مدورة وكراسي خفيضة والفسيفاء على الحيطان والأعمدة والأرض وتهيؤ مغربي لأشهى الأطباق المغربية





الدار البيضاء حول شالاع الجيش الملكي، واحدة من حواضر البحر المتوسط





مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، قلب رمزي للمدينة يكتنز أبهائه وحناياه ابداع الصانع المغربي الفنان المسلم





في مقهى الحافة من بين غصون شاطئ طنجة يمكن رؤية الشاطئ الأسباني





حسن بشري مغربي على خلفية من حسن آخر أبدعته أيادي البشر في المغرب





أصلية بيوت بيضاء بنوافذ سماوية أو خضراء فيروزية.. تشتهي نسائمه النفس





نوبة حراسة لضريح الملك محمد الخامس في الرباط





في السوق القديم بحي الحبوس بالدار البيضاء الزرابي المغربية كل منها قصيدة





جوقة الغناء الأندلسي المغربي فن  عمره ألف عام حفظه المغرب وزكاه





الروائي محمد شكري: طنجةجسر وميناء وأسطورة





الشاعر والناقد محمد بنيس: لا توجد عملية تحديث ثقافي إلا بازدواجية اللغة





مغارة هرقل المطلة على المحيط  الأطلسي في طنجة... في النهار





مغارة هرقل المطلة على المحيط  الأطلسي في طنجة... في الغروب





في سوق الريف الفوطة وشاح تقليدي للفلاحات وقبعة القش تزينها أربطة من الصوف تنتهي بكريات ملونة تسمى بوم بوم





قصبة الوداية في الرباط، شأنها شأن قصبات الساحل المغربي الأخرى