على مدى ثلاثة أيام احتفلت الكويت بصدور معجم البابطين الذي يعد أول عمل توثيقي للشعر العربي المعاصر تم إنجازه على أسس علمية ، وقد حضر الاحتفال أكثر من مائتي أديب وشاعر وناقد من الدول العربية ، فكانوا شهودا ليس فقط على صدور
هذا الإنجاز الحضاري المتميز ولكن على مواصلة الكويت لدورها الحضاري والثقافي.

لقد خلد المعجم ألفا وستمائة وخمسة وأربعين شاعرا على ما يناهز الخمسة آلاف صفحة قسمت على ستة مجلدات واستغرق العمل فيها جهد أكثر من مائة وخمسين مبدعا ومفكرا عربيا اتبعوا منهجا علميا متطورا من خلال جمع الاستمارات ووضع الفهارس حيث أفردت صفحتان لكل شاعر ضمتا ثلاث قصائد من شعره يختارها من أجود ما تفتقت عنه قريحته إضافة إلى صورته وبعض الأبيات المكتوبة بخطه مع بعض المعلومات عن ذلك الشاعر ، ويعتبر هذا المعجم واحدة من أكبر الوشائج التي تربط بين البلاد العربية. فقد ضم بين دفتيه كل المبدعين العرب المعاصرين بغض النظر عن مناهجهم ومذاهبهم ودون تفريق بين شاعر وآخر فتسلسلوا على صفحاته وفق تسلسل حروف الهجاء.

وإن دل ذلك الجهد على شيء فإنما يدل على ما يوليه السيد عبدالعزيز سعود البابطين من اهتمام لخدمة هذا الجيل من الشعراء الذين يعبرون عن الفترة التي يعيشونها أيما تعبير ، كما أنه يدل على أن الكويت قد استعادت دورها الحضاري والثقافي وعادت كما كانت رائدة وسباقة في مجال الثقافة . ومن اللافت للنظر مدى الأهمية التي لاقتها تلك التظاهرة الثقافية الأدبية التي عبرت أجمل تعبير عن الاهتمام الشعبي بهذا الإنجاز الذي انبثق وظهر بفضل الجهود والتكاليف التي بذلتها مؤسسة البابطين عن طيب خاطر وحسن تدبير.

المعجم والمهرجان

وقد صاحب صدور هذا المعجم مهرجان حقيقي هبت خلالها نفحات الشعر مزركشة بألوان الفكر العربي القادم من السواحل والشطآن ومن البوادي التي انطلق مبدعو العربية منها وانطبعوا بطابعها وربوا على طباعها فجادت قرائحهم بألوان الشعر الذي رسم أشكال معاناتهم سواء ما أظهر منها بسبب فقدان بعض ضروريات الحياة أو ما لهم يظهروا كلواعج الحب والحنين. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ظهر الإعجاب واضحا بجودة ذلك النتاج الذي تمثل في المعجم شكلا وجوهرا حيث ظهرت الجهود والتكاليف المبذولة من قبل مؤسسة البابطين حتى أضحى الحلم حقيقة ملموسة .. ولقد أشار السيد عبدالعزيز البابطين إلى ذلك الحلم الذي تحقق في كلمته التي استقبل فيها الأدباء والشعراء الوافدين إلى المهرجان : " إن في ميلاد معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين لآيتين اثنتين من آيات الثقافة العربية الكبرى ، فآيته الأولى إنه يرمز إلى النهضة الفكرية التي تحمل الكويت لواءها من عشرات السنين . وقد أراد العدوان الغاشم تدميرها وأبى الله ذلك.. فله الحمد والشكر ، وآيته الأخرى في دلالته على أن الجهد العربي إذا جد ، والعزم إذا صدق ، والنية إذا خلصت كل ذلك جدير بأن يصنع الأعاجيب ، فهذا المعجم الذي بدأ خاطرة تختلج في الصدر وهاجسا يجيش به الفؤاد ، أفضي به مرة إلى الأصدقاء وأخرى إلى مجلس الأمناء فلا يخلو الإعجاب بفكرته من الإشفاق على من يتصدى له ، لما يقتضيه من جهد وما يحتاج إليه من مثابرة ، وما يتكلفه من أعباء.

هذا المعجم الذي كان حلما فخاطرا فاحتمالا ها هو اليوم يغدو حقيقة تتجسد عبر ستة مجلدات كاملة تناهز خمسة آلاف من الصفحات وتؤرخ لألف وستمائة وخمسة وأربعين شاعرا ، وتطرح نماذج من فيض قرائحهم وتضيف إلى هذا وذاك مجموعة من أدق الفهارس المصممة وفق أحدث المناهج العلمية بما يمكن الباحثين والدارسين والنقاد من التعرف على الشعراء وبيئاتهم وإبداعاتهم الشعرية وبما ييسر لهم ذخيرة من المادة الشعرية جديرة بأن تحدث طفرة في الدراسات الأكاديمية حول الشعر ونقده ".

ولم يستطع السيد البابطين وهو صاحب الإحساس الرقيق إلا أن يتذكر الإخوة الأسرى الذين لا ذنب لهم إلا حب وطنهم ذلك الحب الذي هو شرف يتباهى به العرب.

عمل ثقافي جليل

ومن ثم ألقى محمد الميلي المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم كلمة نيابة عن الدكتور محمد صالح الجابري عبر فيها عن اعتزازه بحضور المنظمة التي تكبر الشعر الذي كان ولا يزال ديوان العرب. وأشاد بجهود مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين التي ظهرت في وقت أحوج ما يكون إليها لأن المثل العليا قد قتلت والخيال قد تراجع. أما رئيس تحرير جريدة الأهرام ونقيب الصحفيين بجمهورية مصر فإنه يبدي سعادته بالمشاركة في عمل ثقافي جليل يكاد يكون الأول من نوعه في التاريخ الأدبي المعاصر ، ويظهر الأستاذ إبراهيم نافع إعجابه بالمعجم الذي يعد جهدا موسوعيا ضخما احتشدت له عقول وجهود نخبة كبيرة من الباحثين العرب على مدى شهور طويلة ويقول مشيدا بمؤسسة البابطين : " وحين تجيء مؤسسة ثقافية أهلية - وليست حكومية - وتتصدى لمهمة التأريخ والتسجيل للشعر والشعراء العرب المعاصرين معتمدة في ذلك على الأساليب البحثية الحديثة فلا بد أن يكون هذا العمل الموسوعي الكبير إضافة جليلة لنهر الثقافة العربية وجهدا مخلصا ومشكورا ممن تصدوا له وتحملوا مؤنته في سبيل خدمة الثقافة العربية ".

وقد ألقى الشاعر يعقوب السبيعي قصيدة "ضيوف الشمس" متباهيا ببلاده ومرحبا بالضيوف:

وفي ختام هاتيك الأمسية قام وزير الإعلام الشيخ سعود الناصر الصباح ممثل راعي الاحتفال صاحب السمو أمير البلاد والسيد عبدالعزيز سعود البابطين بتوزيع شهادات التقدير على المشاركين.

وبعدئذ انتقلت كوكبة الشعراء والأدباء إلى الأبراج الكويتية حيث أقيمت لهم حفلة عشاء ، وكم كان إعجابهم بروعة الكويت التي كانت تتلألأ مغرية أولئك الضيوف الذين ينظرون إليها من أبراجها ، وقد بدا الانبهار على الوجوه بذلك المنظر الساحر وبالضيافة الكويتية التي تعبر عن استمرار خصلة الكرم التي امتاز بها العرب منذ فجر التاريخ.

الأسير.. الغائب الحاضر

وفي مبرة المرحوم صباح السالم استمع الشعراء والأدباء إلى شرح مفصل من الشيخ سالم الصباح حول معاناة الأسرى في سجون النظام العراقي وكم بذلت الكويت من جهود ، ولكن النظام العراقي صم مسامعه عن الأصوات كلها، وأكد رئيس اللجنة الوطنية لشئون الأسرى والمفقودين إن اللجنة لديها قناعة بوجود الأسرى وأعرب عن أمله بأن يتراجع العراق عن سياسته ويعيد النظر في هذا الموضوع الإنساني.

وقد أعلن المشاركون في احتفالات معجم البابطين للشعراء تضامنهم مع شعب الكويت وطالبوا نظام بغداد بضرورة إطلاق سراح الأسرى والمرتهنين الكويتيين والعرب.

أما في الأمسية الثالثة فقد كانت رابطة الأدباء الكويتيين ملتقى الشعراء العرب وعلى منبرها صعد الكثير من المشاركين يجودون بقصائدهم التي تضمنت أفراح العرب وأتراحهم وهموم الإنسان وأحاسيسه ، وبنهاية هذه الأمسية كان الشعراء يستعدون للعودة إلى بلدانهم.. وكل منهم تبدو عليه مظاهر السعادة بلقاء إخوانه العرب وبالحفاوة التي لقيها في الكويت.

وقد قام المشاركون بزيارة المنشآت النفطية العملاقة في الكويت وبزيارة مركز وثائق العدوان العراقي على دولة الكويت ، ولقد تركت الزيارة في نفوسهم أثرا طيبا سيبقى ذكره مخلدا مع خلود هذا المعجم الذي كان حلما في ذهن إنسان حساس طالما جد وسعى حتى جسده حقيقة تستفيد الأجيال منها .