انهيار الحواجز الأدبية إدوار الخراط

انهيار الحواجز الأدبية

خبرة الكتابة، لدي كاتب كبير، لا تقف عند حدود إضاءة جوانب خافية من إبداعـه أمام القراء، بل تتجاوزها لتحفز طاقات خبيثة لدى مبدعين آخرين، حتى لو اختلفوا مع الكاتب في الرأي والرؤية. وها هي "العربي" ستضيف كاتبا كبيرا، ليلقي ببعض من ضوئه الخاص على نقطة اشتباك أدبية عامة.. بين القصة القصيرة والروايـة.

إن بعض المسميات التي يفترض أنها من خصائص القصة القصيرة، مثل اللمحة والشريحة والبارقة والومضة وما يشبه ذلك، ليست صحيحة تماما، في تصوري، من واقع خبرة الكتابة عندي. قصتي القصيرة يمكن أن يكون فيها عدة ومضات ويمكن أن يكون فيها نور ثابت، تلك المفاهيم كانت مستوحاة كي تساعد على توضيح وتوصيف وفهم أنواع معينة من القصص القصيرة (وليس تقييمها) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، برغم أن كل توصيف وتوضيح لم يكن مطابقا دائما، فمثلا لا يمكن القول عن عمل لتشيكوف إنه لمحة برغم أنه يمكن قول هذا عن موباسان لوجود حكاية ونهاية محكمة للعمل، لكن هل هذا هو الفن؟ هل الفن هو فقط التشويق والإحكام؟ هل في الفن قواعد مسبقة؟ تلك أسئلة لا تني تؤرقني.

هناك من يزعم، بقدر من السذاجة العقلية، أن القصة وسيلة، أو بداية، كي يكتب الكاتب الرواية، ولكني معك نحاول أن نعرف مفهوم القصة القصيرة حتى في هذه اللحظة المتأخرة، كما يقال.

هل هناك فروق قاطعة مانعة بين هذين النوعين؟ كانت هناك في مرحلة نقدية سابقة بالطبع، اختلافات شديدة في تحديد هذه الفروق بدقة كاملة، وما زالت المدارس النقدية تختلف، بعضها يحيل إلى ما يسمى بالشريط الزمني للأحداث، وبعضها يحيل إلى الحجم، وبعضها يحيل إلى الموضوع، ولكن من السذاجة إن يقال إن القصاص يكتب القصة القصيرة تمهيدا لرواية. مفهوم القصة القصيرة مراوغ وفضفاض.

هل نضع الحد الأدنى لمفهوم القصة القصيرة. سأميل مع كل ما سبق أن قلت إلى استشارة أحد العناصر التقليدية، ويمكن أن يضاف إلى هذا العنصر عناصر أخرى: فلنقل إن القصة القصيرة هي أولا - وفي أحيان كثيرة - التركيز والتكثيف للحظة واحدة، لا تحتمل التفاصيل الكثيرة، ولا تحتمل الشريط الزمني المتطاول. ليس هذا تعريفا نهائيا، ولا جامعا كما يقال، ولكنه علامة يمكن أن نهتدي بها، ابتداء، للتحديد، وفي هذا الضوء فربما كانت قصصي أنا القصيرة - كما ذكرت منذ قليل - يختلط فيها النفس الروائي - والشعري - بالعمل القصصي القصير في الوقت نفسه، إلا أنني لا أقبل وضع حدود فاصلة، وقاطعة، ومسبقة، لها قوانين نموذجية، مثالية، موضوعة في الذهن، مقننة، ولا إطارات سابقة للعمل الفني، ولكن أميل، إلى أن أعتبر الفنان الحق الذي يضع القانون لعمله الفني

ماهية القصة القصيرة

هذا التعريف أو التخطيط الأولي البسيط، الذي ذكرته الآن للقصة القصيرة على أنها تقطير للحظة قصيرة مكثفة لا تحتمل التطويل الزمني هو التعريف المبدئي. إنه ليس تعريفا جامعا، أو مانعا بالطبع فقد سبق لي أن أعطيت مؤشرات في كتاب "مختارات من القصة القصيرة في السبعينات" عن ماهية القصة القصيرة، وضعت أربعة موانع، لا يمكن دخولها إطلاقا تحت ما يسمى بالقصة القصيرة (أو الطويلة):

إن القصة القصيرة ليست شريحة من الحياة، فالحياة شيء والعمل الفني داخل الحياة شيء آخر.

ليست انعكاسا للمجتمع، ولا حتى انعكاسا لوعي الكاتب إلا بقدر معين، فلها وجود خاص "نابع" عن وعي الكاتب، وليس "انعكاسا" له.

ليست "ماكينة" صغيرة مصنوعة محكمة التركيب، تدور تروسها الصغيرة في قنواتها وتدق وتسقط في اللحظة المناسبة في مجراها الأخير المعد سلفا في "لحظة التنوير" كأنها من عمل الحواة المهرة وبخفة اليد الخادعة.

ليست القصة القصيرة ولا الطويلة الآن تقليدية، فقد استفدت هذه الكتابة وأنهكت حتى الموت والجفاف الأخير.

ومن ثم فلعله من المهم أن أربط بين هذه المؤشرات التي جاءت في كتاب "المختارات" - على درجة معينة من التنظير، وذلك التعريف الذي سبق الآن، والذي يقال على الأرصفة بالفعل لأنه عادي وشائع: تقطير اللحظة الزمنية الواحدة بحيث لا تتحمل كذا وكذا الخ..

أظن أن هذه المؤشرات الأربعة - من بين غيرها - هي مؤشرات إلى عمل فني، ففي نفس السياق الذي وضعت فيه هذه الإشارات، ألمحت إلى الأدب الاستهلاكي، أو السلعي، المنتج "الجيد" - الذي يتخذ شكل الأدب، والذي يمكن أن يكون بالفعل "شريحة من الحياة" وتكثيفا أو تركيزا على لحظة زمنية، حسب المواضعات القديمة.

وصحيح أن هناك شرعية لهذا الأدب السلعي والاستهلاكي المنتج بشكل جيد، داخل المجتمع، وكن داخل العمل الفني لا مفر الآن من تجاوز ذلك كله، بل نفيه.

أظن أن القصة القصيرة (أو الطويلة) التي هي مجرد شريحة من الحياة، أو مجرد انعكاس، أو مجرد حمل لرسالة فكرية أو مجرد منتج جيد ومحكم لا يناله النقص عن يمين أو يسار، مغلق على ذاته، ليس مفتوحا لدلالات أخرى، كل هذا يجعل القصة القصيرة - بل يجعل العمل الفني كله سواء كان قصيدة أو رواية أو عملا موسيقيا - شيئا آخر غير "عمل فني". بمعني أن كل عمل فني - ليس فقط القصة القصيرة - يلتصق بهذا السعي نحو المعرفة، هذا البحث عن الدلالة الكلية أو عن دلالة كلية ما، إذا شئت، فإذا كان يفتقده فإنه يفتقر إلى صحته كعمل فني.. لم يكن الأمر إذن، أمر القصة القصيرة فقط، بل كان في الحقيقة الأمر تحديدا للعمل الفني بوجه عام، أو على الأقل إشارة إلى أهم خصائصه في تصوري.

القصة القصيرة.. هل تتراجع؟

يخطر ببالي في سياق هذه التأملات، تفسير سريع لقلة نتاج القصة القصيرة عالميا وانتشارها على نطاق واسع نسبيا في مصر والوطن العربي. وإن كان يخيل إلي أنها تتراجع كذلك في مصر، وتفسح مكانا أكبر للرواية التي يقبل على كتابتها شداة الكتاب ومخضرموهم على السواء، بينما يزداد إنتاج لقصة القصيرة، نسبيا على مستوي الأدب العالمي.

صحيح أن القصة القصيرة تراجعت عالميا - قليلا - من حيث الكم على الأقل في خلال النصف الأخير من هذا القرن الذي يوشك على الأفول. القرن العشرون ليس قرن القصة القصيرة ولكنه القرن التاسع عشر هو القرن الذي وصل فيه هذا الفن إلى رقمة الازدهار عند "تشيكوف" و"موباسان" وغيرهما، وطبعا هناك - الآن - نماذج جيدة تصل إلينا باستمرار، ومازال الناشر الغربي وبعض الناشرين العرب يتوجسون من نشر مجموعات القصص القصيرة حتى الآن.

فهل هذا النوع لم يعد قادرا على تحمل الكثافة، والازدحام، والاحتشاد في الوعي - الذي يواجه الفنان الآن بالضرورة، بعد تراكم التراث الفني الطويل؟ هل يمكن أن يقال أن هذا النوع، الرشيق، الجميل المرهف، يكاد يستنفد أغراضه الآن، إذا كان غير قادر على هذه الكثافة؟ ذلك يشير إلى التقارب الواضح الآن بين القصة القصيرة والشعر، بحيث أصبحت القصة تقترب كثيرا - أو تكاد الحدود تختفي - بينها وبين القصيدة، فلا تتناول القصة إلا هذه اللحظة المكثفة، الوجدانية أو الفكرية، أو ما شئت، التي تقوم بها القصيدة. لعل ذلك من أسباب وضوح ظاهرة القصة - القصيدة (بالدال) التي ألمحت إليها من قبل.

أما عندنا فلعلنا لا ننسى أن البيئة الثقافية بعواملها المختلفة، وما يبدو من سهولة تناول هذا الفن هو ما يغري الكثيرين جدا بالكتابة فيه، وبالتالي يؤدي إلى حدوث هذا الركام الهائل من الأعمال "الناقصة" على أحسن تقدير والرديئة في الغالب.

واضح عندي أن القصة - قصيرة أم طويلة - لم تعد اليوم ذلك النوع الأدبي الذي تخلق في القرن التاسع عشر مثلا..

لم تعد الرواية - كما كان يقال - انعكاسا للمجتمع أو لحياة المجتمع في فترة التكون والتعقد وظهور الطبقة البرجوازية وهكذا من الناحية الاجتماعية. كما أنها لم تعد تلك الصيغة المتعارف عليها في البناء، بمعنى أن تطرح الفكرة أو التحليل، ثم يجهد كاتب الرواية في تحليل الشخصيات ونوازعها النفسية وظروفها الاجتماعية ووضعها في عقدة أو موضع تتبدى فيه المشكلة التي يريد أن يعالجها، ثم يخلص من هذا الوضع إلى نوع من الحل أو الخروج من المأزق الذي وضع شخصياته فيه، بالإضافة إلى نوع من التوازن أو التجارب بين الوصف والتحليل والتغليل والحوار بحيث تتكون من هذه الوصفة التقليدية ما عرف بالرواية البلزاكية مثلا، أو حتى الرواية كما عالجها تولستوى أو دستويفسكي أو ستندال أو ثاكراي أو الأخوات برونتي، وهكذا.

لم تعد الرواية هكذا اليوم لظروف اجتماعية واضحة لا تحتاج إلى بيان. فقد مرت المجتمعات الإنسانية بزلازل وراء زلازل، سواء كان ذلك من حروب ضارية، أو مواجهة الانتحار الجماعي، أو ما شئت من المشاكل التي نواجهها اليوم والتي، بشكل أو بآخر، أدت إلى تغير هذا الجنس الأدبي، فأصبحت الرواية في تصوري جنسا أدبيا مفتوحا، ولم تعد هذه الوصفة التقليدية صالحة.

الرواية وروح الشعر

نستطيع نحن أن نجد الآن الرواية - القصيدة التي يمكن أن نجد فيها سمات أو خصائص الشعر دون أن تنتهي مع ذلك إلى جنس الشعر لأن السردية فيها ما زال لها وجود، بل أولوية، لكنها موضوعة في صياغة شعرية، لا أقصد بالشعرية مجرد الاستعانة بالتشبيهات المحلقة أو الاستعارات أو هذا طبيعي، أو هذا مسلم به، ولكني أقصد بالشعرية نوعا رؤية العالم وحتى مساءلة العالم في صياغة هي أقرب إلى روح أو جوهر الشعر ولا تسألني ما جوهر الشعر لأن هذا لا يتبدى إلا في العمل الفعلي نفسه. افترض أن التقنينات المسبقة مهما حاولنا أن نتقنها تأبى التصنيف والتحديد للأجناس الأدبية. لست أقصد بالشعر أيضا الكلام الموزون المقفى بطبيعة الحال. فلنذكر على سبيل المثال رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" أو روايتي "رامة والتنين" أو رواية "أهل الهوى" لهدى بركات من لبنان أو رواية "العشاء السفلي" لمحمد الشركي من المغرب.. وهكذا..

هناك ملامح لهذه في الرواية العربية التي خلصت من "السردية" في مستواها الظاهري التقليدي، كما خلصت الرواية "الفعلية" منها، شأن الرواية - القصيدة ودخلت السردية إلى مستوى التحديد الهيكلي بغض النظر عن تسلسل الأحداث وعقدتها وحلها إلى آخره.

من بين ما أقصده الآن نوع الرواية الوثيقة، أو الرواية الدراسة. هناك أكثر من مثل، فرغت منذ قليل من قراءة رواية نشرت بالإنجليزية سنة 1988 اسمها "ببغاء فلوبير" لكاتب شاب اسمه جوليان بارنز أوشكت أن تحصل على جائزة "البوكار" في الرواية الإنجليزية.

هذه الرواية تستعين بالحكاية أو بالسرد بأقل قدر ممكن، وتعتمد أساسا على دراسة معمقة جدا لحياة وسيرة وجوستاف فلوبير الشخصية والفنية والفكرية، ورحلاته، ومذكراته، ووثائقه، وهي على لسان طبيب تجاوز الستين فقد امرأته، هو عاشق لفلوبير فقط، ليس باحثا ولا دارسا. في حقيقة الأمر هذه الرواية من أعمق الدراسات في السيرة لفلوبير ولم يستعن فيها مؤلفها بالخيال إلا في حدود ضيقة جدا.

أي أن هذا كتاب في النظرية الأدبية، أو في النقد الأدبي، أو في الدراسة الأدبية، إذا شئت، ومع ذلك هي "رواية" بكل معاني الرواية فيها تشويق يحمل القارئ على أجنحة الكتابة حملا. هذا كتاب غاية في الإثارة، مع أن الدراسة تبدو جافة الموضوع.

مثل هذا النوع من العمل لجأ إليه كاتب لم ينل حظا من التقدير أو الاعتراف الواسع في مصر هو بدر الديس في روايته الأخيرة "إجازة تفرغ" حيث غامر مع دانتي الليجيري في "مطهره" يدرس معنى الشعر وجوهر الفن، وعلاقة الفنان بالمجتمع، وعلاقة الفنان بالفن واستعان بالنصوص من دانتي. لكنه م يتخل عن السردية، بالعكس، هناك رواية، وحدوتة، فائقة، شائقة، بل تنحو أحيانا إلى الدراما (لا إلى الميلودراما)، ومع ذلك فان الكاتب لا يتردد في أن يدخل في صفحات طوال من العرض النظري أو الفكري لتأملات عن موضوع الرواية، لا يتردد.

هذان نوعان من الرواية اليوم كما أراها في العالم وفي حياتنا العربية. هناك كذلك نوع ثالث من الرواية التي تعتمد على السيرة الذاتية، وليست "سيرة ذاتية" بالمعنى الدقيق النقي، كما عرف الأدب هذا النوع من الأعمال الذي يلتزم بالوقائع التزاما صارما وأمينا. وإنما هي تستقي من السيرة الذاتية مادتها الخام وتعيد صياغتها كما لو كان الكاتب يعيد خلق حياته من الأول، لكنه يستند إلى وقائع من حياته، كأنه يريد أن ينفذ إلى حقيقتها لا إلى حوادثها الظاهرية فقط، وفي هذه الحالة يتاح له أن يغير من وقائع حياته كما تقتضيه ضرورة البحث عن حقيقة هذه الحياة أو عن معناها، أو ضرورة التساؤل عن هذه الحقيقة وهذا المعنى. ولعلني قد كتبت في هذا "النوع" ثلاث روايات على الأقل ما زلت أسميها مع ذلك "روايات" بمعنى ما لعل فيه إيحاء بالدلالة العربية التراثية. هي: "رقرقة الأحلام الملحية" و"أبنية متطايرة" و"حريق الأخيلة" اعتمدت فيها على رسائل "واقعية" أو "مصنوعة" وعلى يوميات، معدلة أو كما هي، وعليها طين السنين الخوالي، وفيها تأملات عن فن الرواية نفسها، وتأكيدات بأن هذه ليست قصة، ولا مرثية، ولا سيرة ذاتية. فما هي؟

أكرر إذن أن نظرية الأجناس الأدبية، بصورتها الكلاسيكية المعروفة، تتراجع اليوم، بلا شك، أتصور أن مسألة الأجناس الأدبية أصبحت في حالة مد وجزر، تتداخل الأجناس الأدبية بعضها بالبعض الآخر ويفيد كل جنس من الآخر. ولكني ما زلت أتصور أن لكل جنس من هذه الأجناس كيانه أو وجوده أو استقلاليتة على نحو ما وليس على النحو الذي عرفناه في التطور التاريخي المألوف، بل على نحو متجدد، لا أقتنع بأن كل شيء أصبح كل شيء، فما زالت الرواية أو القصة القصيرة، مثلا، كجنس، قائمة، ولكنها جنس مفتوح، يتطور، وربما كانت القصة - طويلة أم قصيرة - من أغنى الأجناس الأدبية في مرحلتنا الحالية، سواء في البلاد العربية أو في العالم، جنس مرن، شديد المرونة يقبل التطورات المختلفة والإفادة من الأجناس الأخرى، لكن الشعر ما زال شعرا حتى لو استفاد من التوثيق والتسجيل والسرد إلى آخره، وهكذا، لم تعد المسألة فوضى، بل سريان دماء جديدة، وأوصاف جديدة، وخصائص غير معهودة في هذه الأجناس. حاولت أن أضع معايير أولية لذلك بأن "السردية" - بمعانيها المختلفة وربما غير المعهودة - هي الغالبة أو السائدة في القصة القصيرة (والقصة - القصيدة) أو في الرواية (الرواية - الشعر) بينما الشعرية والإيقاعية هي الخصيصة السائدة في القصيدة، بما في ذلك قصيدة النثر.

لكن المرونة، بطبيعة الحال، في هذا الجنس الأدبي الناهض اليوم كثيرا ما يتسرب عبرها أو بواسطتها ما لا يمت إلى العمل الروائي بصلة، أتكلم عن النماذج الجيدة، أو عن الأعمال الفنية التي قطعت شوطا نحو التحقق ونحو الإنجاز.الأعمال السيئة، بطبيعة الحال، دائما مفتوحة لكل العورات، لكل أنواع العطب. نفترض أننا نتحدث عن مستوى معين من الإنجاز. إنني أنشد المستحيل في العمل الفني دائما، أنشد الكمال المطلق، إلى آخره، لكن يرضيني قدر من التحقق في الأعمال التي أقرؤها.أما في أعمالي أنا، فلا يرضيني إلا المستحيل. وهو ما لا يتحقق أبدا، وما لا أني أهاجمه باستمرار.

بعيدا عن التجريد

أظن أن تصوري للقصة القصيرة وللرواية أبعد ما يكون عن التجريد، أنني أرى فيها حشدا يمور بكل عناصر الحياة، ويتفاعل معها، أجد فيها تلك الحرارة البدائية اللاعجة، مصهورة في قوام ساطع النور، شديد النقاء، وربما شديد الكثافة والتركيب معا. ومع ذلك فالفن عندي عامل من عوامل التغيير، لأنه دائما خطوة إلى الأمام في المجهول، هذه مغامرة الفن.. ليس التغيير هنا التغيير الاجتماعي فقط، ولا الخلقي، ولا الجمالي، وأن كان يتضمنها جميعا، ويتجاوزها، ويقر، أيضا، بحقيقة الفوضى والشر والتشوه، لا يسلم بها، ولكنه يتمثلها ويتعداها، وكأنه، لذلك، شيء أكبر وأعمق من الحياة، وأكثر دلالة منها، إنه يتجاوز العبث والمحال واليأس لأنه قادر على تمثل هذه السموم الأساسية في الحياة.

إن مفهومي للقصة وللفن بصفة عامة ينيط بهما رسالة هي، بالضبط، رسالة الخلق، والإيجاد، بمعنى فيجاوز مصطلحات التشكيل والأسلوب، الجدة الكامنة في الخلق هنا هي في الفعل الخلاق لا في مجرد الصياغة. لذلك لا أتكلم عن التفرقة بين القصة القصيرة وغيرها من الأنواع الأدبية، إذا إننا نرى جميعا، كما أقول للمرة الألف، إن الحواجز بين الأنواع الأدبية، قد انهارت حقا، وأن الدمار والشعر والموسيقى والتشكيل والحكاية كلها مقومات مشتركة ومتبادلة.

وما زالت أهدافي الفنية، إن صح التعبير، هي التي بدأت بها في "حيطان عالية" وأظن أنني قطعت بها أو قطعت بي أمدا جديدا، ليس فيها مغايرة، وإن مضت على نفس الدرب أو الدروب إلى حد أبعد أو أعمق قليلا في تقصي تلك "الحقيقة" الشمولية، أو خلقها كما تشاء، أعني حقيقة ما، وليست نهائية بالتعريف.

إن المحاور الأساسية التي يدور حولها مسعاي الفني والوجودي أيضا هو ذلك التوق المحرق نحو الصفاء المنبثق من كثافة حسية وشبق بالحياة، هو أيضا محاولة تأكيد كرامة الإنسان في وجه قوى القهر والامتهان الكونية التي تتأتى من وقوع الإنسان في قبضة شروط قاضية: الموت، والعجز، والمحدودية، وقوى القهر والامتهان الاجتماعية، بكل ما تحمل من قسوة، وكل ما تستثير من مقاومة.

هناك التناقض الأبدي بين الكرامة التي هي خصيصة الإنسان الأولى والأساسية، وبين ذلك القهر الكوني والاجتماعي والنفسي معا، هناك التناقض الأولى بين الرغبة اللاعجة في الحب والذوبان في الآخر، وبين انفصال الإنسان المحتوم، وانغلاقه على نفسه، جزيرة صخرية محاصرة بمياه الاغتراب، شاء أم لم يشأ، مهما كانت لوعة شهوته في التوحد بالآخر. وسواء كان "الآخر" هو "المرأة" أو "الإنسان" عاما أو محدودا، مفهوما أو كيانا متجسما آنيا، أو كان الآخر، في النهاية، هو "المطلق".

هذه هي محاوري في العمل الفني، بدأتها في "حيطان عالية" نوازع تجيش وتتخلق، وأظنها اكتسحت بعض السدود، وبلغت بعض التحقيق فيما جاء بعد ذلك من أعمال.

الحقيقة أو على الأصح "حقيقة ما" - بتواضع - هي المحور هنا، وهي الحد الذي يتفجر باستمرار، فلا يمكن الإحاطة به. وإذا كان البعض يقول إن "الحقيقة" مسألة نسبية، والبعض الآخر يرى أنها "مطلق" فذلك، أيضا، مدار من مدارات الصراع والتوتر المستمر عندي، لا في القصة فحسب، بل في تجربة الحياة أيضا.

ولعل المادة الخام في تجربة القصة وفي خبرة الحياة هي نفسها ذلك التوتر بين النسبي والمطلق، وهو توتر ناشئ عن توحد، وتقمص، وفي الوقت نفسه هو ازدواجية أو ثنائية بل ربما تتناقض.

كما أن هذه المادة الخام وجه من وجوه المخاض والميلاد والموت في القصة وفي الحياة على السواء.

 

إدوار الخراط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات