شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

شاكونتالا الهندية... ورحلة النسيان...!

لمحة من تاريخ ملوك الهند التقطها المؤرخ والكاتب الهندي الكبير (كاليداسا) صنع منها ملحمة تاريخية أصبحت ذائعة الصيت ضمن الملاحم التاريخية الهندية, تلك هي التي رواها عن الملك (دثيانتا) والفتاة (شاكونتالا), وحكى تفاصيلها (ول ديورانت) في موسوعته التاريخية (قصة الحضارة)... فما القصة...?

لم تكن شاكونتالا واحدة من بنات المهراجات, عاشت حياتها كلها في داخل هذه الصومعة الصغيرة على طريق الغابة منذ تبنّاها (كنوري) كبير الرهبان البراهمة, ولم تكن تدري حين راحت تدور مع صاحبتها بين الأزهار أن الملك (دثيانتا) قد قادته قدماه إلى هذا المكان - اذ ابتعد عن رجاله وهو في رحلة صيده - حين أنصت إلى صوت غناء ملائكي. ومد بصره متسللاً ليشهد أجمل ما رأت عيناه, فتاة رائعة الجمال كادت تسقط من فرط الاضطراب بين يدي صاحبتها, ولم يكن بد من أن تلتقي العينان ويتآلف القلبان وأن يسقط الاثنان في غمرة حب جارف, بعد أن تتوالى أيام الصبر, والملك لا يبرح مكانه بجوار صومعة الراهب الغائب, في انتظار أن يعود لينال بركته على زواجه من ربيبته الرائعة (شاكونتالا)?

ولكن الأيام تمضي والراهب لا يعود. وحين يعرض الملك على (شاكونتالا) أن تقبل الاقتران به تشترط عليه أن يظل الأمر سرّاً وألا تسافر معه إلا بعد عودة الراهب ليبارك زواجهما. وإذ تتأخر عودة الراهب وترفض الفتاة أن تنطلق مع زوجها دون إذن أبيها, يجد الملك نفسه مرغماً للمغادرة وحده إلى عاصمته, ولكن بعد أن وضع في إصبعها خاتمه الملكي وهو يطلب منها انتظاره حتى يعود ليأخذها إلى قصره الكبير.

وتتوقف الحياة في قلب الفتاة في انتظار أن يجيء يوم اللقاء, وتمضي الأيام الوالهة وهي تحلم مستغرقة في سرحتها, فلا تنتبه إلى أحد النساك, وقد جاء يدق بابها دون أن ترد عليه إلا بعد وقت طويل, وعندما فتحت الباب آخر الأمر بعد انتباهها وتصوّرها أن زوجها الملك قد عاد, إذ بها تفاجأ بالناسك (دروشة) يطلب طعاماً, وإذ أخرجها ذلك من فرحتها امتلأت بالناسك ضيقاً وتبرّماً, فردّته وصفقت من ورائه الباب.

لعنة الناسك

ارتفعت لعنة الناسك رهيبة مرعبة وهي تصفق الباب:

(لك الويل يا لعينة بما جرؤت أن تستخفّي بضيف مثلي. فلينسك ذلك الذي شغلت به ولا يذكرك حتى آخر الحياة...!).

وتسمع رفيقة الفتاة دعاء الناسك, فتأخذ بها صفعة مرعبة, فهي تدرك أن اللعنة ستحيق بصاحبتها فينساها حبيبها الذي مضى ولم يعد. وتنطلق الفتاتان إلى الناسك تستغفرانه وتستعطفانه وتشرح له صاحبتها الأمر. وإذ يرق قلبه يكون جوابه:

- كلمتي لا تبطل. ولكن أثرها يزول عندما يرى مَن نسيها خاتم الزواج...!

قال هذا ومضى. واستردت الفتاتان أنفاسهما. فقد كانتا تعرفان أن الملك كان قد وضع خاتمه الذي يحمل اسمه في أصبع شاكونتالا. وأن هذا الخاتم رقية تذكر مَن يصيبه النسيان...!

في هذا الوقت, يكون الراهب كنوري قد عاد من حجته المقدسة. ولا يجرؤ أحد على إبلاغه بقصة زواج ربيبته بالملك. غير أن الراهب يسمع صوتاً كأنه يهمس في أذنه يقول له:

- إن في بطن ابنتك جنيناً, أبوه هو الملك (ديثانتا)... فأبشر..!

ويبارك الراهب ابنته. ويأمر بعض أتباعه بأن يكونوا على أهبة الرحيل للسير إلى حيث قصر الملك, ومعهم عروسه التي يباركها ويرسلها إلى زوجها مكرمة معززة.

وينطلق الركب في الطريق إلى العاصمة.

غضبة الملك

في القصر. بينما دثيانتا في قاعة الحكم, يبلغه الحرّاس بقدوم نساك حاملين رسالة إليه من كبير الرهبان البرهمي كنوري. وإذ يستقبلهم الملك وهم يدخلون متقدمين شاكونتالا التي غطت وجهها بحجاب ثوب الزفاف, يطيل الملك إليهم النظر في حيرة, وهو يتساءل عن رسالة الراهب العجيبة, ويتقدم إليه كبير النساك فيقول:

- إن الراهب الأعظم أمرنا أن نبلغك أنه بارك الزواج الذي عقدته على هذه السيدة سرّاً. وهو يبلغك أنه صادق على ذلك الزواج, وإنه يبارك ولدك الذي هي حامل به...!

ويفتح الملك عينيه في دهشة واستغراب:

- زوجة...? وقران..? وولد أيضاً? ما هذا الذي تخرّفون به?!

وتُصعق شاكونتالا. ويزداد بها الرعب وهي تسمع الملك يقول:

- مَن قال إنني تزوجت هذه المرأة?

ويقول الناسك في حيرة?

- أيجمل بالملك أن يحيد عن سبيل الحق ويخلف العهد?!

ويكشف رسول الراهب الحجاب عن وجه شاكونتالا المصعوقة ليذكر الملك بزوجته. غير أن دثيانتا لا يذكر شيئاً. وتحاول شاكونتالا أن تذكّره بنفسها فتحكي كيف تعارفا وتزوجا. ولكنه يهز رأسه وهو ينكر كل ما قالته ويتساءل عن الدليل على صدقها. وتمد الفتاة إصبعها لتعرض على الملك خاتمه. وتكاد تسقط على الأرض, لقد كان إصبعها خالياً لا خاتم فيه, فقد سقط منها وهي في الغسل حيث تعبّدت في حوض (ساكي) المبارك قرب المدينة..!

وتلقي شاكونتالا الهوان ويتحطم رجاؤها. فتنطلق مسرعة مغادرة القصر حيث تلقي بنفسها وسط غابة أخرى بعيدة عن الجميع. وهناك تلد شاكونتالا ولدها (بهاراتا) الذي كتب على أبنائه من بعده أن يخوضوا معارك (المهابهاراتا) أوديسة الهند..!

رحلة البحث عن المجهول

وتمضي الأيام, وذات يوم كان أحد الصيادين يشق بطن سمكة اصطادها, فلمعت لعينيه جوهرة عبارة عن فص خاتم ذهبي. وكان الخاتم هو خاتم الملك دثيانتا نفسه, وعليه اسمه الملكي...!

واقتيد الصياد إلى الملك ولايزال الخاتم الذي حاول أن يبيعه في السوق بين أصابعه. وما كادت عينا الملك تقعان على خاتمه, حتى دارت رأسه, وإذا بذاكرته تعود إليه.

وصرخ الملك:

ابحثوا عن شاكونتالا, إنها لم تكذب. إنها زوجتي وأم ولدي..?

ويعود الحب صاعقاً عارماً إلى قلب دثيانتا. وينطلق في جنون يبحث عن الحبيبة التي فقدها. ويقسم ألا يعود إلى قصره إلا ومعه شاكونتالا زوجته.

وذات يوم والملك على قمة الهيمالايا يواصل رحلة البحث, إذ بطفل صغير يلعب غير بعيد منه أمام صومعة صغيرة منعزلة على السفح, وينحني يداعب الطفل وهو يبكي إذ تذكر أن له ولداً لا يعرفه, وفجأة يسمع صوتا من داخل الصومعة, إنه صوت الأم تنادي ولدها بهاراتا. وتخرج شاكونتالا من الصومعة, إنها هي حبيبة قلبه بلحمها ودمها وجمالها الملائكي الرائع إلا من مسحة حزن وأسى. ويجثو الملك عند قدميها ويلتمس عفوها. وبعد تردد تستجيب الفتاة لاستعطافه وقد عاد حبّها أقوى مما كان. فتعفو عنه. ويعود ثلاثتهم في الطريق إلى القصر, قصر الملك دثيانتا, والملكة شاكونتالا, وابنهما الصغير بهاراتا الذي يصبح فيما بعد أسطورة الهند..!

 

سليمان مظهر