إسرائيل تشن حرب الحضارة منح الصلح

إسرائيل تشن حرب الحضارة

بعد أن اكتشفت إسرائيل كيف يمكن أن تتخفى جيدا تحت كلمة "السلام " لتصبح أكثر الدول عدوانية ضد جيرانها والأكثر تناقضا مع حقائق التاريخ. أصبحت كلمة "الحضارة" هي الستارة الجديدة التي تنتقل خلفها من الاستخدام الخبيث للسلام إلى الاستخدام الأخبث لمصطلح آخر.

إن إسرائيل فرحة اليوم بأن تكون وجدت الكلمة الوحيدة التي سوف تخدمها في المستقبل كما خدمتها كلمة السلام في الماضي.

لقد قبلت الحكومات العربية السلام ولم يعد لإسرائيل فرصة لاتهام العرب بالعداء لها فكان عليها أن تبتدع استراتيجية جديدة تقول إن العرب هم ضد الحضارة بعد أن لم يعد باستطاعتها الاستمرار في القول إن العرب هم ضد السلام.

بالفعل ما كان لكلمة أخرى غير الحضارة أن تكون جديرة في نظر إسرائيل بأن تحل الآن محل كلمة السلام في حربها الإعلامية والسياسية ضد العرب. ذلك أن البشرية وهي قاب قوسين أو أدنى من القرن الواحد والعشرين مشدودة إلى ظاهرة القفزة الحضارية والسبق الحضاري والإبداع الحضاري أكثر من انشدادها إلى أي ظاهرة أخرى. فالحضارة الحضارة! ذلك هو هاجس الحكومات والشعوب القوية في هذا العالم.

ومنذ اكتشاف العلم للقدرة النووية الحاسمة والمختلفة نوعياً عن كل القدرات السابقة التي تركها الإنسان في الماضي، ومنذ نجاح العقل البشري في عملية تقليد ذاته من خلال ما يسمى بثورة المعلومات والكمبيوتر وكأن عقل البشر قد نجح في خلق عقل الآخر يرافقه في مسيرة تغيير العالم والأشياء والعادات والناس. منذ دخول هذا الزمن الجديد والمعيار الذي يستقر في أذهان أقوياء العالم ويترسخ كمقياس لوزن الأفراد والأمم والشعوب والحقوق قائم على درجة تمكنها من السرّ النووي وعلم تقليد العقل البشري. فهما الجناحان اللذان يحلق بهما الإنسان الجديد في سماء عصر مؤمن بأن كل يوم يطل عليه سينبلج حتما عن فجر حضاري جديد.

ومن يدرس الخطاب الإسرائيلي الحالي عند بيريز وغير بيريز من قادة الدولة العبرية يلاحظ التركيز على التحول الحضاري في الشرق الأوسط كدور في المنطقة لا يستطيع القيام به إلا إسرائيل. ومقابل كل مرة واحدة يأتي فيها ذكر السلام على لسان أو قلم إسرائيلي تأتي مئات المرات كلمة التحضر والتجدد الحضاري والمشاريع الحيوية والاقتصادية وغير الاقتصادية المرافقة له.

في مؤتمر الدار البيضاء كان ظاهراً أن الإسرائيليين لم يعودوا يتخفون في إعلان قاعدتهم الجديدة القديمة لبناء شرق أوسط جديد: "العقل والعلم منا والإمكانات والأرض منكم "! إذ الحضارة بمعنى القدرات الخارقة التي أصبحت تنطوي عليها لم تبق في موقع المضطر للدفاع عن نفسها إلى أي قيمة أو مقياس آخر. إنها بهذا المعنى أصبحت فوق الحاجة إلى تبرير ذاتها بالامتزاج أو الاتصال بتلك القيم الأخرى، قيم الوجدان والأديان والتراث الحضاري الإنساني من عدل ومساواة في الفرص وشرعية قانونية وأخلاقية.

إسرائيل التي لا ينقصها شيء

وكأن إسرائيل بكل بساطة بل بكل دلال هي العنصرية المصفاة تتلفت في العالم لتزهو بنفسها في هذه البقعة منه قائله: "عندي الحضارة، وعندي النوويات، وعندي ثورة المعلومات، فماذا ينقصني بعد"؟

من هنا كان التحدي الراهن الذي يواجه العرب بأن يعملوا لا على نقض السلام المقبول والذي رضوا به جميعاً، أو كادوا، بل ليستمروا في القدرة على منافسة إسرائيل في حربها المستمرة عليهم. تلك الحرب الإعلامية والسياسية التي تشنها اليوم على الإنسان العربي وعلى الحق العربي بشراسة لا تضاهيها تلك التي كان الصهاينة يواجهون بها العرب في الماضي قائلين عنهم إنهم ضد السلام، في حين أن إسرائيل هي من جلب الحرب إلى الشرق الأوسط، لا العرب.

هذا التحدي "الحضاري" الذي تطرحه إسرائيل فيحرك المتنورين العرب ينبغي أن يجيب عنه كل مسئول، وكل قائد، بل كل مواطن عربي بعدم الهرب من ساحة الإبداع الحضاري الذي يتباهى الإسرائيليون اليوم باحتكاره في هذه المنطقة.

والعرب مطالبون أولاً بأن يدرسوا خططهم وأوضاعهم دراسة جيدة ونزيهة. فلا يجوز أن يتركوا أفكار التخلف والظلامية تفرخ على أرضهم. ويجب أن يرفضوا الردة عن مفاهيم النهضة التي خاطبتهم منذ القرن الثامن عشر بالإقبال على العلم والانفتاح الفكري على أفضل ما في العالم من الإنتاج والتفاعل الحضاري مع الغير ويجب أن يفوتوا على إسرائيل فرصة أن تقول إن العرب هم ضد الحضارة، وذلك عن طريق الحزم والحسم في التمسك بالسلاح الأم منذ أن كان الإنسان، وهو سلاح المعرفة والسبق الحقيقي فيه. هذا السلاح الذي كان دائماً فاعلاً ولكنه يزداد فاعليةً وضرورة في الزمن الحالي والمستقبل.

ولا يسعنا هنا إلا أن نبارك اليقظة الحالية التي انتشرت في البلاد العربية ابتداء من الشقيقة الكبرى مصر حول حق العرب في التساوي مع إسرائيل بالتمتع بحق امتلاك الأسرار النووية. فإما أن توقع إسرائيلي كما قالت مصر معاهدة حظر السلاح النووي مع غيرها من دول المنطقة، أو يمتنع العرب عن توقيع هذه المعاهدة. إنها ثقة بالنفس وليس بالحق فقط وجدناها تحرك القائد العربي والإنسان العربي في هذه المرحلة على أعتاب عالم متغير بشكل نوعي ومطرد أكثر فأكثر.

تحية للفكر العربي المناهض

ولا بد هنا أيضاً من تحية الفكر العربي الشاعر بضرورة مقارعة إسرائيل في حملتها الجديدة على العرب وحضارتهم. ومثالاً على هذا الفكر الجديد وقفة الكاتب الأمريكي العربي الأصل إدوارد سعيد الذي حلل عناصر الاتجاه الفكري الجديد عند الإسرائيليين وحلفائهم بمحاضرة له في لندن تعرض فيها لمواقف الكاتب الأمريكي صمويل هانتغتون الذي يركز على الاصطدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية.

فقد كتب هانتغتون مقالاً في مجلة "التقرير الخارجي " الأمريكية عنوانه اصطدام الحضارات، اتبع منطلقا خاطئا وتحليلا سياسي الدافع ينطلق من تأكيد وجود اصطدام حضاري بين ما يسميه الغرب والحضارات غير الغربية وبينها الإسلام والكونفوشية، إلى توصية الغرب بالسهر على حسن إدارة الصراع هذا. وقد اعتبر سعيد أن هانتغتون يحيي بأفكاره روح الحرب الباردة، وإن كان العدو الجديد بات هو الإسلام والعالم الثالث بدل الشيوعية والاتحاد السوفييتي. وقد ذهب هانتغتون الأمريكي الموالي لإسرائيل في عدائيته للإسلام إلى حد نصح أمريكا وأوربا بالعمل على إبقاء الانقسام وتعميق الخلاف بين الحضارتين الإسلامية والكونفوشية بقصد استمرار سيطرة الحضارة الغربية، وقد ربط سعيد منهج هانتغتون الفكري بموقف المؤرخ الإنجليزي برنارد لويس الأشد صراحة وتحديداً الذي يقول بالخطر على الحضارة والثقافة اليهودية المسيحية من الحضارات الأخرى. وبعد أن هاجم سعيد فكر أمثال هذين الكاتبين الداعي إلى هيمنة حضارة محددة على الحضارات الأخرى بين استحالة هذه الهيمنة معتبراً أن هذا المنحى في النظر في موضوع الحضارات ليس إلا إنتاجا لخريطة مبسطة للواقع تزيد الخلافات الحضارية تعقيداً بدلاً من أن تخففها.

وحذّر سعيد بصورة خاصة من إغراء وضع التسلط والمصالح في قالب ثقافي بحيث يصبح الاستعمار أمرا إيجابيا، واصفاً دعوة هانتغتون بالتغطية الثقافية للاستعمار كما فعلت الصهيونية عندما ركزت على أن احتلالها الأرض العربية في فلسطين هو لمحاربة اللاسامية ولتحرير الشعب اليهودي من الظلم! ونقى أن يكون صحيحاً الموقف الرسمي السائد في الجامعات والمراكز الثقافية في الولايات المتحدة والدول الغربية القائل بالعنصر الأبيض وحضارته أساساً لكل شي ء.فالصحيح هو ما استقته حضارات العالم من بعضها البعض، مؤثرة حينا ومتأثرة حينا آخر.

ونفى سعيد أن تكون مشكلة المستقبل بين الإسلام والغرب، بل هي في كيفية تقوية المنطلقات الفكرية والمفاهيم التي ستعالج مشكلة التباعد بين الحضارات. والمطلوب الآن مزيد من التنور والعلم حول الموضوع، بينما يعم العالم جو من عدم الاطمئنان منشؤه غياب القيادات السياسية الفعالة وهبوط مستوى الثقافة والتعليم، ونتيجته السلبية زيادة التشديد على الخلاف بين الغرب والإسلام والحضارات بشكل عام.

صدام الحضارات

وسط هذا المناخ العالمي التحريضي على الحضارات والديانات الأخرى والذي بدأ بعض المفكرين منا يواجهه في عقر داره، يتعرض موكب السلام في الشرق الأوسط للهزات الآتية من إسرائيل المصرة على اعتبار تفوقها النووي شرطا لأمنها، والمتناسية كليا مبدأ السلام مقابل الأرض، والمنادية بأن السلام والأرض والقدرة النووية جميعا يجب أن تكون لها. فهي بذلك لا تصون مصلحتها القومية المقدسة وحسب، بل تدافع عن الغرب كله في عصر صدام الحضارات المحتوم.

إن إسرائيل كما قلنا من قبل ونكرر تنتقل اليوم من الاستخدام الخبيث لكلمة سلام بوجه العرب إلى الاستخدام الأخبث لكلمة حضارة.

إن العرب بأقوامهم وأديانهم وثرائهم وفقرهم وعددهم الكثير وعدتهم القليلة هم في الوصف الإسرائيلي لهم "قوم متعصبون لن يتآلفوا مع شروط الحضارة وسحرها، وما تردادهم لكلمة سلام إلا رغبة في العيش الرتيب البالي. إنهم لا يزالون يفكرون بالأرض في زمن رحله البشرية إلى الأقمار والنجوم، ويطلبون لأنفسهم الأملاك والمزارع، في وقت أصبح فيه العالم كله قرية صغيرة، ويتحدثون عن الأديان فيما يكاد الكمبيوتر يتحول في يد الشاب، بل الطفل، إلى صانع عجائب لم تمرّ في ذهن صاحب كرامات أعطاه الله ما لم يعط للبشر الآخرين".

هكذا يهتم الصهاينة اليوم باتهام العرب بنقص الحضارة ويجعلون من صدام الحضارات حتمية تاريخية ، ويدعوننا على مرأى من حكم دولي منحاز إلى مبارزة اختاروا فيها هم نوع السلاح ، محولين جشعهم بالتمسك بمشاريعهم النورية إلى مشهد سبق في مباراة بين متحضرين وغير متحضرين.

ولا منقذ للعرب في مرحلة الحملة الحضارية. عليهم المستعرة الآن إلا المراجعة الجدية لأوضاعهم وترشيحهم أنفسهم بجدارة ووعي لدور حضاري حديث، ورفضهم مبدأ صراع الحضارات الذي لا يقول به الصهاينة وحسب ، بل أناس منا مع الأسف يلعبون من حيث لا يدرون لعبة أعداء العرب الذين يريدون إقفال العقل العربي عن الحاضر والمستقبل.

 

منح الصلح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات