أوراق أدبية: حكمة التمرد جابر عصفور

أوراق أدبية: حكمة التمرد

شعر الصعاليك هو صرخة الهامشيين الذين تمردوا على أعراف الجماعة الظالمة، وحلم العدل الاجتماعي في مجتمع لا يعرف سوى ظلم القوة العارية، ودعوة الحرية التي تتأبى على كل قيد، وطليعة التمرد الفني الذي يجسد فعلى التمرد الاجتماعي.

أدركنا ما لشعر الصعاليك من فتنة خاصة حين تعرفناه أول مرة عن قرب في طلع الحياة الجامعية، واجتزنا حواجزه اللغوية الصعبة بالقياس إلى غيره من الشعر الجاهلي. وكان ذلك بفضل أستاذنا يوسف خليف رحمة الله عليه الذي علمنا عشق شعر الصعاليك، حين انشده علينا بإلقائه الفاتن، وشرحه لنا شرح العاشق، فأحببنا هذا الشعر لحبنا يوسف خليف الذي مضينا وراءه في قراءة هذا الشعر، فرحين باكتشاف عوالم من التمرد القديم تستجيب إلى تمردنا المعاصر في مطالع العمر الجامعي، وتغذي شوقنا اللاهب إلى لؤلؤة العدل المستحيل في مطلع الستينيات. وكما ارتحلنا وسط الفيافي والبسابس لنلاقي الغول التي طالبها تأبط شرا بضعها، وشدنا خياله الجامح الذي يفسح مكانا للسعالي والغيلان، ويعاشر الغول ويتأبط الأفاعي والحيات، أخذتنا الدهشة الفرحة ونحن ننصت إلى الشنفرى، وهو يستبدل ببني أمه البشر طوائف الحيوان التي رآها أكثر إنسانية من الإنسان، فاقتحم أفقا جديدا من الشعر لم يكن لنا به عهد ، ولم يصدمنا كثيرا التفسير العلمي الذي قص به الجاحظ المعتزلي أجنحة الخيال حين أنكر وأستاذه إبراهيم بن سيار النظام وجود الغيلان والسعالي، ففتنة لقاء الغول التي أصبحت جارة والتي كان لها باللوى منزل في شعر تأبط شرا، ظلت سبيلنا إلى فهم الصور الرمزية الدالة على القدرات الاستثنائية للنموذج الأصلي للشاعر القديم، تلك القدرات التي ألمح إليها امرؤ القيس حين قال:

تخيرني الجن أشعارها

فما شئت من شعرهن اصطفيت

ولم يغير إعجابنا بلامية العرب ما أخبرنا به أستاذنا يوسف خليف، حين صدمنا بان هذه اللامية التي يستبدل فيها الشنفرى بالبشر الحيوان ليست له وإنما هي منحولة عليه، صنعها خلف الأحمر الذي برع في تزييف الشعر الجاهلي، فقد ظلت اللامية محافظة على جمالها الفريد وجاذبيتها الآسرة في وجداننا وعقولنا، وذلك لما تضمنته من أبعاد إنسانية متعددة المستويات ، وما انطوت عليه من رؤى شعرية دالة على عالم الصعاليك الخاص، فكأنها من شعر الصعاليك أو كأنه منها. ولم ندهش، والأمر كذلك، حين علمنا الأثر الذي أحدثته هذه اللامية في كل من قرأها مترجمة عن العربية، أو من فتن بها من شعراء أوربا الذين جذبتهم إليها أبعادها الإنسانية.

وما زلت مقتنعا بما علمني إياه يوسف خليف من أن التمرد المتفجر في شعر الصعاليك يؤكد حضور الأنا إزاء الآخرين، ويضع الصعلوك في مواجهة القبيلة بالمعنى الاجتماعي، وقصيدته في مواجهة شعر القبيلة بالمعنى الفني. لقد أبرزت هذه القصيدة ما قامت عليه حياة الصعلوك من معاني التضحية بالنفس في سبيل المبدأ، وارتحاله الدائم في بلاد ليس فيها متسع. وصاغت مشاهد هذه الحياة التي يحوطها الخطر من كل جانب، والموت من كل اتجاه، ورسمت مشاهد المعارك والمطاردات والعدو والتربص في المراقب، فضلا عن مشاعر الوفاء التي تجمع بين الرفاق الذين يضفي إخاؤهم على حياة الخطر معنى وقيمة، وحين أكدت هذه القصيدة قيمة الوفاء، في رفقة المغامرة التي تتحدى الموت، جسدت نقطة اللاعودة التي وصل إليها الكبرياء العاتي للصعلوك الذي انطوى على الرفض المطلق للأعراف المضادة للقبيلة، وقهر في نفسه كل إمكان للتنازل، أو المهادنة، أو المصالحة ، أو الضعف، ابتداء من ضعف الجوع إلى الطعام والشراب، وانتهاء برغبة العيش الآمن في حضن امرأة فأصبح الصعلوك بطلا حدي الصفات يتوتر ما بين قطبين، يستبدل بأولهما ثانيهما، قاطعا كالسيف الباتر في اختياره ما بين خطتين: إما إسار ومنة وإما دم، والقتل بالحر أجدر فيما يقول تأبط شرا. هكذا غدا الصعلوك قليل غرار النوم، قريع الدهر، يابس الجنبين، طاعنا بالحزم، لبوس ثياب الموت، يديم مطال الجوع حتى يميته، ويستف ترب الأرض كي لا يتطاول عليه متطاول، شتى النوى والمسالك، يسرى على الأين (التعب) والحيات حافيا، جل ماله حسام كلون الملح ، وإذا خاط كرى النوم عينيه لم يزل له من قلبه حارس يقظ قاطع.

ولم تتوقف قصيدة الصعلوك عند هذه الأبعاد الحدية لنمط البطولة الفريدة التي انطوت عليها والتي ألحت عليها في تجلياتها المتعددة، وإنما اقتحمت هذه القصيدة من أفق العلاقة بين الإنسان والحيوان ما كان موازيا للعلاقة الغريبة بكائنات الصحراء الخرافية وتلتقي لامية الشنفرى (لامية العرب) بعينية تأبط شرا في هذا السياق، حيث تستبدل اللامية بالبشر أصناف الحيوان (ذنب قوى، ونمر أملس أو أفعى ملساء، وضبع ذو عرف طويل) التي وجدت عندها ما افتقدته في دنيا البشر من الأمان والوفاء والإخلاص. وتمضي العينية في وصف صعلوكها الذي:

يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه

ويصبح لا يحمى لها، الدهر، مرتعا

مؤكدة خصال الكائن المستوحش الذي طالت ملازمته للوحوش حتى ألفته، ولم تجد في وجوده بينها خطرا يهدد مرعاها، فوصلت حبالها بحبله، كما وصل هو حباله بحبل الكائنات الخرافية التي صاغها خياله المستوحش فأصبحت أنثى الجن (السعلاة) شبيهة به، وأصبح هو شبيها بها، كلاهما هزيل لكثرة العناء من السفر وصراعهما الذي ينتهي بانتصار الصعلوك الذكر، في قصيدتين منسوبتين لتأبط شرا، تمثيل بالجنس للمعنى الرمزي في الدراما النفسية للنفس المبتورة، أو الأنا المقموعة من الآخرين، وموازاة رمزية لمواجهة الخوف الذي يقهره اللاوعى بالتحويل الخيالي لمساره.

التمرد..اجتماعيا وفنيا

وكما تمرد الصعلوك على العرف الاجتماعي للقبيلة، التي قمعت من يعيشون في سفحها الاجتماعي، وكسر الجدار الفاصل بين الإنسان والحيوان، وحطم الحاجز المنطقي بين الواقع والخرافة تمردت قصيدته على العرف الفني ، وكسرت الحاجز المنطقي لأداة التشبيه التي تفصل بين العوالم والمدركات، واستبدلت الاستعارة التمثيلية الموسعة بالتشبيه الموجز، ووصلت بين أبياتها المتلاحقة بالتضمين الذي يتدفق بالمعنى فوق تخوم القافية، متجاهلا النقاط الحدودية للقافية. وتخلصت قصيدة الصعلوك من المقدمة الطللية، واستبدلت بالطلل حوار المرأة الخائفة على زوجها الصعلوك. وهجرت التصريع والترصيع كما هجرت التعبير والتنميق. واستبدلت بالحولية الطويلة المقطعات المتفجرة كالخطر اليومي. ولامست الواقع الخشن في عنفه الدامي. وسعت إلى إلغاء المسافة الفاصلة بين الكلمة والفعل، كي تتحول الكلمة إلى فعل، ويتجسد الفعل في كلمة، تأكيدا لوحدة القول والقائل، أو المبدأ والحدث، تلك الوحدة التي تنقض كل أشكال التراتب القمعي لأعراف المجتمع وتقاليد الشعر، وتصوغ نموذج الصعلوك الفارس الشاعر الذي يطل على أعدائه كالمنية التي لا راد لقضائها وكان هذا النموذج يشع حضوره الشعري على أصحابه كضوء شهاب القابس المتنور، جامعا في هذا الحضور بين صفات الجسارة والشجاعة، الإيثار والفداء، القيادة والزعامة، الحكمة التي تفضي إلى الشعر والشعر الذي يستنزل الحكمة. ولا تزال صورة عروة بن الورد، أمير الصعاليك، تخايلنى بدلالاتها الإنسانية التي تؤكد معنى الزعامة العادلة، خصوصا حين أسترجع ما رواه صاحب الأغاني من أن عروة كان يجمع المريض والكبير والضعيف في عشيرته أيام الشدة، إذا أصابت الناس سنة قاسية، ويتخذ لهم من المساكن ما يؤويهم وينفق عليهم ما يكسيهم، فإذا برئ مريضهم، أو ثابت قوة ضعيفهم خرج به معه إلى الغارة، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا حتى إذا أخصب الناس وكثر غذاؤهم وذهبت الشدة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، ولذلك سمي عروة أمي ر الصعاليك، وتشير هذه الرواية المجملة إلى تفاصيل سردية كثيرة؟ رواها كتاب الأغاني وغيره من كتب التراث التي اهتمت بحياة الصعاليك، وأحالتها إلى أعمال قصصية تنطوي على معاني العظة والعبرة، وتؤدي دور الأمثولة التحذيرية بين الجماعات التي لا تعرف معنى العدل.

ظلت سيرة عروة فيما أسترجعه من الروايات التراثية نموذجا للإيثار النبيل والأريحية العالية، وظلت حكاياته أقرب إلى القص التعليلي للشعر الذي روي عنه. وقد نسب إلى معاوية قوله: لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج منهم. وروي عن عبدالملك بن مروان قوله: ما يسرني أن أحدا من العرب ولدني ممن يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:

أني امرؤ عافي إنائى شركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى

بجسمي مس الحق والحق جاهد

أفرق جسمي في جسوم كثيرة

وأحسو قراح الماء والماء بارد

العافي هو طالب الفضل أو الرزق، يقال كثرت على الكريم عافيته أي سؤاله وطالبو فضله، وهو الرائد والوارد والضيف. والأبيات تنبني على التعارض الحدى بين قيم الصعلوك وقيم الآخرين، بين الإيثار والأثرة، بين الانظلام والظلم. وتبرز هذا التعارض بواسطة الصورة الكنائية لوعاء الزاد الذي لا يقربه سوى صاحبه، والوعاء المقابل الذي يبيحه صاحبه للناس جميعا فلا يبقى له شيء. صعب الوعاء الأول يزداد سمنة وترهلا، مقابل صاحب الوعاء الثاني الذي يزداد هزالا ونحولا لأنه آثر الحق، والحق مجهد لصاحبه، وآثر أن يعطى من نفسه لغيره، كانه يقسم جسمه في جسوم كثيرة، ولا يتمتع بشيء سوى قراح الماء البارد. هذه الصورة التي تستمد عناصرها من معطيات الحياة البسيطة، ومن وقائعها الخشنة في الوقت نفسه، هي تمثيل للقيم الإنسانية للصعلوك، تلك القيم التي أكدها عروة منذ أن استهل مسيرته في دنيا الصعلكة بسؤاله الاستنكاري الحاسم:

أيهلك معتم وزيد ولم أقم

على ندب يوما ولى نفس مخطر؟!

الأنا والقبيلة

يبدو أن التقابل الحدي الذي يباعد ما بين الأنا وأعراف القبيلة الظالمة قد انعكس على شعر الصعاليك، وتحول إلى عنصر تأسيسي للعناصر التكوينية في بناء هذا الشعر. ولذلك نجد التضاد الحدى بين الأشياء والمعطيات والرؤى والمواقف والأفكار لافتاً في ما روي عن الصعاليك من شعر، ابتداء من أميرهم عروة وانتهاء بأغربتهم المنسوبين إلى أمهاتهم. هذا التضاد الذي قابل، في أبيات عروة السابقة، بين هزال من يتخلى عن زاده للآخرين ومن يستأثر بالزاد، هو نفسه التضاد الذي قابل، في أبيات أخرى لعروة، بين الصعلوك الذليل الذي يرضى بحياة الهوان، مستسلما إلى القمع الذي تفرضه عليه القبيلة، والصعلوك المتمرد الذي يرفض حياة الذل، ويستبدل الثورة بالخضوع. الأول هو الصعلوك الخامل الذي يحوم على بقايا الموائد قانعا بما يلقاه من فتات، قليل التماس الزاد الا لنفسه، يحيا حياته كالحيوان الكسير، يخدم النساء إلى أن يناله الإعياء كالدابة الكسيرة، فيستلقي كالخيمة المنهارة بلا حياة أو أمل أو رغبة أو حلم، والثاني هو الصعلوك الذي يضيء وجهه بالأمل، وكلماته بالخلاص وأفعاله بالقدوة فنراه:

مطلا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهر

وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه

تشوف أهل الغائب المتنظر

فذلك إن يلق المنية يلقها

حميدا وأن يستغن يوما فأجدر

ذا التضاد نفسه هو ما نراه في الحوار المتكرر في قصائد الصعاليك بين الذكر المحاط بالخطر دائما والأنثى التي هي نقيض الخطر والتي تتضمن معناه في الوقت نفسه. الطرف الأول من الحوار هو المرأة الخائفة على زوجهما التي تحذره من حياة الخطر، وتلومه على تهوره في الخروج على أعراف الجماعة. والطرف الثاني هو الزوج الذي يدرك قلق زوجه، ويعمل على تهدئتها، دون أن يتخلى عن مبادئه، أو يضحي بها لإرضاء من يحبها فالمبدأ فوق العاطفة، أو هو العاطفة الحقيقية التي تصل بين الطرفين وراء السطح الخادع للمجادلة. هذه المجادلة، من ناحية أخرى، تكشف عن أدوار متعددة للمرأة في حوارها مع الصعلوك، فهي تنقل أصوات الآخرين إليه، وتمثل مواقفهم في القصيدة. والحوار دائما اعتراف بالآخر وتمثيل لوجوده. وكما يكشف الحوار مع المرأة عن حضور الآخرين في قصائد الصعلوك، واستجابته إلى نقائضه، يكشف عن الحضور المعرفي لرمزية الأنثى، لا من حيث شعورها الطبيعي بالخوف على الزوج، وهو شعور يجسده الحوار وينطقه، ولكن من حيث ما تؤديه المرأة من أدوار موازية، يتعرف بها الصعلوك صدى مشاعره، ويكتشف رجع أفعاله وأقواله وأفكاره ، في المرأة التي تتحول إلى مرآة يجتلي فيها ذاته، كأنها الآخر الكاشف عن وجوده.

ليست المرأة في قصائد الصعاليك بهكنة، هركولة ، مربرية، ثقيلة الخطى، نئوم الضحى، عالية تغري أحضانها بالهروب من الخطر، أو تشعل الشهوة التي تتوهج في اليوم الغائم تحت الطراف المعمد، كأنها حضور جسدي دائم ينسي الهم كالخمر، ويغري بالاقتناص كالفريسة وإنما هي الحبيبة والزوج الملهوفة والمحاورة والشريك ورفيق الفراء قبل السراء. الصورة الأنثوية من الصعلوك المتمرد، في إيثاره وكرمه، وإبائه وحزمه. لا تتردد في أن تهدي جاراتها ما لديها إذا الهدية قلت وترعى أبناءها بالحزم كما ترعى زوجها بالنصيحة ولا يسمع عنها زوجها إلا كل ما يشرفه ولا ترينا قصائد الصعلوك منها سوى جمالها المعنوي، ولا تسمعنا سوى حوارها مع زوجها الذي يجتلي في الحوار ذاته ويتعرف دوافعه، فيتيح لنا فهما أفضل لما ينطوي عليه السياق النفسي الذي يتحرك فيه. ويرسم الشنفرى صورة هذه المرأة في تائيته المعروفة عن أم عمرو التي أجمعت فاستقلت والتي تقضى أمورا كثيرة دون أن تتباغض أو تنفلت أو تتفلت، والتي تحل بمنجاة من اللوم حين تحل المذمة بالأخريات، فهي فخر زوجها إذا أرتحل عنها غازيا، وقرة عينه حين يعود إليها باحثا عن الراحة والأمان، بيتها واحته العطرة وحصنه الأمين، وعقلها مرآته التي يرى فيها نفسه. وإذا كان الشنفرى يرسم صورة هذه المرأة في تائيته، تأكيدا للتقابل بين الأنثى التي عرفها الصعلوك والأنثى التي عرفها شعراء القبيلة من أبناء سادتها فان عروة بن الورد يصوغ نموذجا للحوار المتكرر المتوتر بين الصعلوك وزوجه، ونسمع أم حسان (والحرص على تأكيد الأمومة في الكنية له دلالته التي لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان) التي تلومه على نمط حياته الخطر، ونسمعه وهو يتوجه إليها كما لو كان يتوجه إلى نفسه وإلى الآخرين بالخطاب قائلا:

أقلي علي اللوم يا بنة منذر

ونامي فإن لم تشتهى النوم فاسهري

ذريني ونفسي أم حسان، إنني

بها قبل أن لا أملك البيع مشتري

أحاديث تبقى، والفتى غير خالد

إنا هو أمسى هامة فوق صيري

التضاد الذي يتخلل الأبيات الثلاثة لافت في تعارضاته ما بين الذكر والأنثى، الخوف والشجاعة، اليقظة والنوم، البيع والشراء، البقاء والضياع، الخلود والعدم، الحياة والموت. والتمرد على الأنثى الخائفة يوازي محاولة إقناعها والشدة في الخطاب الأموي تتجاوب واللين في فعل التمني. وابنة منذر المأمورة في حسم هي نفسها أم حسان المتودد إليها في لطف ويستجيب الخطاب في الأبيات إلى الأدوار المتعددة التي تؤديها المرأة في شعر الصعاليك ، فيقابل بين ابنة منذر وأم حسان كما لو كان يقابل بين طرفي الحضور المنقسم للأنثى الواحدة المخاطبة بنداءين مختلفين، فتتقابل الابنة التي تنتمي إلى الآخر والأم التي تنتمي إلى الأنا، ويتعارض الصوت الذي يردد أصداء الجماعة الخارجية والصوت الذي يردد أصداء الخوف الداخلي للأنا التي ترى نفسها في مرآة الزوجة. أما التضمين البلاغي الذي يصل البيت الثاني بالثالث فإنه يصل الرجال بالمرأة في علاقات التعارض التي تكشف أقنعة الصعلوك وتضعنا إزاء المبدأ الحاسم في حياته، وهو التضحية بالنفس من أجل الآخرين، ومبادرة الحياة بالأفعال التي يبقى ذكرها.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات