إلى أن نلتقي
إلى أن نلتقي
من حوالي عام تقريباً, نشر جابرييل جارسيا ماركيز وصيته بأهم لغات العالم المتداولة, وقد وجه ساحر كولومبيا وأمريكا اللاتينية الذي تجاوز السبعين من عمره بخطوات, رسالة إلى أصدقائه وقرائه عبر (الإنترنت), بعد اكتشاف اصابته بسرطان الدم والرئتين, ما يجعل الأمر في حدود المنطقي والمتوقع, من روائي طلع من الصحافة إلى الرواية, ومن الرواية إلى السينما, فافترشت شهرته الإبداعية العالم, ونال باكراً (نوبل) (1982), هو صاحب (مائة عام من العزلة) و(ليس للكولونيل من يكاتبه), و(الحب في زمن الكوليرا), وسواها من الروايات الشهيرة. إذن, في لحظة الإحساس بقدوم الموت, سوف يودع الأب أبناءه. فما المانع? ونص الوصية الوداعية لماركيز, كما نشرته (الإنترنت) وعممته وسائل الإعلام بسرعة البرق, قبل التدقيق في صحته, يكاد يصل إلى حدود القصيدة. بل هو قصيدة حقيقية يرغب هذا الروائي العجوز في أن يختم بها حياته, ولم لا? فالشعر داخل أصلا في مفاصل رواياته التي تطلع من لحم اليومي وترابه ودمه الحي, في اتجاه الأسطورة. وتحمل الوصية زخم الشعر وطاقة المخيلة, فضلا عن جوهر الحكمة المقطوفة من حياة عاشها بالفعل ماركيز, في اتجاه حياة أخرى متخيلة. إنها اقتراح حياةٍ على الحياة وخطة سيرة محتملة, يطرحها الكاتب على نفسه, ويشرطها بشرط إلهي, كجزء من إعطاء الحياة لمن انتهت حياته. والوصية تبدأ بالجملة التالية: (لو نسي القدر للحظة, أنني مجرد دمية تافهة, وأعطاني قطعة جديدة من الحياة...) ثم يسترسل بعد هذا الشرط الافتراضي, في تعداد مشروعه لحياة أخرى قادمة, فيقلل من فسحة النوم من أجل إكثار فسحة الأحلام, ثم يضع لنفسه (أو يرسم لها) خط سير طويلا يبدأ به حين (يقعد الآخرون), وخطة يقظة يبدأ بها حين ينام الآخرون, ونوبة (صمتٍ) حين يثرثر الآخرون, ويلبس نفسه الافتراضية لباسا بسيطا, بل يجنح بها إلى التعري في الشمس, لا تعري الجسد حسب, بل الروح أيضا. وكان سيرسم على صفحة النجوم, بحلم مستمد من فان جوخ, قصيدة لـ (بنيدتي) وسينشد للقمر (سرينادا) مستمدة من (سيرات), وكان سيغسل الزهور بدموعه لكي تقرصه أشواكها, حين يقبلها في عنقها قبلته الحمراء. ويتابع ماركيز قصيدته المفاجئة, فيعد (فيما لو منحت له قطعة جديدة من حياة), أن يخبر الناس أنه (يحب أن يحبهم), وأن يعيش في (غمرة حب للحب), وأن الرجال يخطئون إذا اعتقدوا أن تقدمهم في العمر, يمنعهم من الحب, غير مدركين أن التوقف عن الحب هو الشيخوخة عينها , قبل حلولها في الجسد. إن ذلك هو شيخوخة الروح). وكان (فيما لو...) سيعطي للطفل أجنحة.. لكنه قبل ذلك, يعلمه الطيران. وكان سيعلّم الناس أن الموت (قبل الموت) هو النسيان. وأن الصعود إلى القمة, هو السعادة الحقيقية, لا بلوغها, وأن الطفل الوليد, حين يقبض بكفه الصغيرة على يد أبيه, للمرة الأولى يكون قد أوقعه في حبه إلى الأبد. وفي النتيجة, فإن موته المرتقب, سيكون موتا غير سار, فيما لو احتفظ بهذه الأسرار, داخل حقيبة, ولم ينشرها على الناس. حسنا. هذه هي الوصية الشعرية الني نشرها الإنترنت موجهة من (ماركيز) إلى أصدقائه. لكن ذلك ليس سوى الجزء الأول من الحكاية, فالجزء الثاني يأتي لينقض الجزء الأول. كل شيء في الوصية كما نرى, هو (ماركيزي).. أي محتمل النسبة لماركيز, من شغفه بالحياة إلى اقتراح حياة أخرى عليها, ومن ذكر شاعر من الأورجواي هو (بنيدتي) إلى ذكر مغن وكاتب كاتالوني هو (سيرات). إلا أن ذلك كله لم يشفع لماركيز في صحة وصيته. فقد كشفت سكرتيرته الإسبانية (كارمن بارسيلاز), أن الوصية ملفقة, وأن كاتبها شخص مجهول, بثها هكذا عبر الإنترنت, ونسبها لماركيز. إن ذلك, كما نرى جزء من استنساخ المبدعين, الذي بدأ به عصر الكمبيوتر والإنترنت, ولن ينتهي.