الميوزيكال رياض عصمت

الميوزيكال

الفن الذي سرق الأضواء من الأوبرا

الميوزيكال .. مسرحية غنائية راقصة ، كانت في زمن مضى محكومة بالموضوعات السطحية الخفيفة والكوميديا ولكنها واصلت تطورها في العقدين الأخيرين حتى لمست من خلال أنغامها أعمالا أدبية معروفة وصعبة وتناولت شخصيات سياسية وتاريخية معروفة.

أخذ فن الميوزيكال يحتل بالتدريج في عواصم العالم الفنية الكبرى مكان الأوبرا ، ولا يعني هذا أن الأوبرا اندثرت ، وأن أعمال فيردي وموزارت وسفاغنر لم تعد تقدم في عصرنا ، مقابل عدد متزايد من عروض "الميوزيكال" وإذا كانت الأوبرا تصنف عادة نوعا من أنواع الموسيقى ، فإن الميوزيكال أقرب إلى فن المسرح ، مما يجعل لها رواجا بين جمهور الشباب . وكما تألق في الأزمان الماضية مؤلفو أوبرا عظماء ، تسطع في سماء الميوزيكال البريطاني الأمريكي اليوم شمس أندرولويد ويبر من جهة ، وشمس كلود ميشيل شونبرغ وآلن بوبيل من جهة ثانية. أن أعمال هؤلاء الضخمة الباهرة التي انطلقت من " الوست إند" في لندن ، و" برودواي " في نيويورك ، غزت برلين وباريس ، اللتين لن تفعلا سوى استيراد العروض.

وجذبت عروض الميوزيكال الشهيرة منتجين أقوى ، ومخرجين أبرع ، وممن كانوا يقبلون على الشغل على الكلاسيكيات ، وأصبح لها نجومها المشاهير التي تزدهي الإعلانات الجذابة بحضورهم الباهر وتتغنى بإمكاناتهم الغنائية الصداحة ، كما كانت وما زالت الأوبرا تفعل بماريا كالاس وبافاروتي ودومينيغو وغيرهم.

وكثيرا ما تجد اليوم مخرجين شكسبيريين قد اتجهوا للتخصص في مثل تلك العروض الاستعراضية ، مضحين بالعمق من أجل المشهدية. ومثلهم تجد في تصميم الرقصات. والسبب ، بالطبع ، هو ما تدره عروض الميوزيكال من أرباح طائلة ، بالرغم من كلفة إنتاجها الفاحشة.

إن الإقبال يتزايد عليها ، بحيث يتوالد العرض نسخا طبق الأصل ، تجول المدن الأخرى ، فتجد شبح الأوبرا في سان فرانسيسكو في الوقت نفسه الذي تعرض فيه في نيويورك ، وتجد البؤساء في لوس أنجلوس في الوقت الذي تعرض فيه في لندن ، وتجد توتئم من فاتنة سايغون تعرض في أكثر من مكان من العالم في آن معا. وقد بدأ النجاح يصل إلى مستويات لم يصلها من قبل منذ المسيح نجم ساطع لأندرو لويد ويبر ، التي صارت تنتج بالإنجليزية حتى في برلين ، كما تنتج أعمال فيردي بالإيطالية في لندن وباريس ، ولكن السنين التي تقارب عقدا من الزمن من عمر عرض لندن الشهير للمسرحية ، ما لبثت أن اخترقت برقم قياسي آخر لعرض قطط عن أشعار لاهية للشاعر الكبير ت.س. اليوت ، إذ وصلت حتى عام 1995 في لندن وحدها قبل 13 عاما متواصلا من العرض.

وقبلها ، حققت " إيفيتا " نجاحا خلال عقد من الزمن أيضا على طرفي المحيط الأطلسي. ومثلها ، اليوم ، تحقق ( البوساء) و(فاتنة سايغوت) ( وقطار النجوم ) الكثير من النجاح ويصل حجز البطاقات لميوزيكال (شبح الأوبرا) حتى منتصف عام 1996م. كما تحيا أعمال قديمة ، مثل (أوليفر) لليونيل بارت ، و(قصة الحي الغربي) و(شهرة) و(صوت الموسيقي) و(سيدتي الجميلة) و(معطف جوزيف المسحور) وغيرها. لكن الميوزيكال أخذت بلا شك طابعا جديدا منذ انطلاقة (هير) للملحن غالت ماكديرموت ، كأول ميوزيكال روك عن جيل الهيبيز والحب والذهور.

من المعطف 00 إلى المسيح نجم ساطع لم ينجح مؤلف موسيقي نجاح البريطاني أندرولويد ويبر في قطف النجاح. وويبر عازف على آلة الفيولونسيل ، ورجل ذو ذكاء مسرحي جعل راداره يلتقط الموضوعات المثيرة لاهتمام عامة الناس ، ومعالجتها بطريقة عصرية درت عليه إيرادات خيالية ليصبح من أغني شخصيات المسرح وأشهرهم في العالم على الإطلاق. وهو متزوج من المغنية سارة ولكن بطولات أعماله تقاسمتها بعض أهم الأصوات في بريطانيا والولايات المتحدة ، مثل ايلين وباتي بوبون ومارتي ويب وستيفاني لورنس ، بينما لمع من الرجال النجم الكوميدي مايكل كروفورد عندما لعب دور الشبح لدي افتتاح (شبح الأوبرا).

بدأت شهرة أندرولويد ويبر تتسع بخجل مع أولى نجاحاته "معطف جوزيف المسحور" ، ولكن انطلاقته الكبيرة كانت مع "المسيح نجم ساطع" إذ إن فن الميوزيكال بمجمله دخل مع هذا العرض تاريخا جديدا . كان اختيار موضوع سيرة حياة السيد المسيح مادة لعرض غنائي يتضمن ألحانا من طراز الروك اختيارا جريئا للغاية ، فضلا عن الأسلوب المسرحي الحديث والمجدد في تناول هذا المضمون التاريخي الديني دون المساس بمشاعر الناس ونجحت " المسيح نجم ساطع " نجاحا ساحقا في " الوست اند بلندن ، وتحولت إلى فيلم أمريكي ذائع الصيت. بعد ذلك ، قدم ويبر " إيفيتا " عن زوجة الرئيس الأرجنتيني الأسبق بيرون ، التي كانت امرأة ذات ماض ثم أصبحت السيدة الأولى وقابلت بعض أهم زعماء العالم وقادت الحركة النقابية في بلادها. وأيضا ، نجحت المسرحية بشكل منقطع النظير في برودواي ، بفضل نجمتنا الأمريكية هارولد برنس ، كما بفضل نجمتها الأمريكية باتي لوبون. وفي لندن ظلت " إيفيتا " تعرض لسنوات طويلة بالإخراج نفسه ، وببطولة النجمة الكبيرة إيلين بيج ، ثم تبعتها ستيفاني لورنس وأخريات. ووصفت " إيفيتا " بأنها ميوزيكال عالة المستوى "مثل كتاب". وتتابعت نجاحات أندرو لويد ويبر ، فمن "أغنية ورقصة" في لندن مع مارتي ويب من جهة مغنية ، وواين سليب من جهة أخرى راقصا ، ضمن إمتاعا بقي يشع لفترة على

واحدا من أكبر مسارح العاصمة البريطانية وما لبث أن أطلق عرض " قطط " عن مجموعة أشعار ساخرة للشاعر الكبير ت. س أليوت ، وبإخراج لواحد من أشهر مخرجي المسرح الشكسبيري الإنجليزي تريفورنن ، وتصميم رقصات لجيليان لين ، وحتى اليوم ، وبعد 13 سنة على افتتاح " قطط " على مسرح لندن الجديد ، ولا يزال الحصول على بطاقة يقتضي جهدا ووقتا. وعندما انتقل العرض إلى أمريكا ، أثير لغط كبير ، إذ كيف سيتحقق التأثير نفسه للمسرح الدائري اللندني هناك على مسرح تقليدي المعمار في برودواي ؟ برغم ذلك ، فإن أحدا لا يمكنه أن يغمط الراقصين حقهم على طرفي المحيط ، ولا يستطيع إنسان أن يغفل تأثير أغنية " ذكريات " الساحر أينما أنشدت في أرجاء المعمورة. ولكن كثيرين انتقدوا ويبر على تقديمه عرض " قطط " لأنه عرض سطحي المضمون ، يقوم فقط على الإبهار الشكلي والتقني ، خاصة في المكياج والأزياء . وبدلا من أن يستجيب للنقد ، كان رده عمليا بإطلاق " قطار النجوم " الأكثر سطحية وشكلانية مع المخرج الشكسبيري ( سابقا ) تريفورنن ، ومع مصمم الديكور نفسه جون بابير. والعرض بمجمله سلسلة من السباقات الباهرة على الباتيناج وسط تقنية مذهلة حقا ، يدخل فيها الفيديو بصورة حية ، وتستثير موسيقاه الصاخبة حماسة الفتيان بشكل جنوني ، وكأنه بمجمله لعبة من ألعاب الكومبيوتر. ومنذ أن احتل أندرو لويد ويبر عرش فم الميوزيكال في الثمانينات دون منازع بدأ يعود إلى الإبداع بعناية أكبر معيدا إلى الأذهان النجاحات الجادة التي بنى عليها مجده ، تجلى ذلك في عام 1986 عندما أطلق أندرو لويد ويبر رائعته الشهيرة " شبح الأوبرا " بإخراج هارولد برينس ، وتصميم الرقصات لجيليان لين ، وتصميم ديكورات العرض لماريا بيورنسون. وافتتح العرض بنجاح ساطع مع زوجته سارة في دور البطولة ( حتى أثير لغط كبير ، واعتراضات عديدة ، عندما قامت بالدور في أمريكا للأشهر الستة الأولى بالرغم من وجود نجمات أمريكيات بالمستوى ذاته ) وبالنجم الكبير مايكل كروفورد في دور الشبح. واليوم ما زال العرض يتألق في عديد من عواصم العالم المسرحة.. مع خيرة نجومها.. وبمختلف اللغات. أما في لندن ، فإنه أكثر العروض صعوبة في الحضور ، فبطاقاته نادرة وغ الية.

ويلعب أدواره الرئيسية حاليا كل من جيل واشنطن ، إيثان فريمان باومان. وحكاية " شبح الأوبرا " - كما هو معروف - مقتبسة عن كتاب بالإسم نفسه لجاستون لوروا ، الذي كان مديرا لأوبرا باريس في قديم الزمان ، وآمن بوجود الشبح الذي أحب مغنية صبية ،وساعدها كي تصبح نجمة كبيرة في سماء الفن. هذه القصة الحافلة بالإثارة والعواطف الرومانسية ، وبالخيال والإبهار المسرحي هي بالفعل الوصفة المناسبة لجمهور الميوزيكال في الربع الأخير من القرن العشرين باختصار يشاهد المتفرج عرضا باهرا للغاية في " شبح الأوبرا " ، ليس فقط بالتقنية المتقدمة ، وإنما بالفن الخلاق والحيل الأخاذة.

شارع الغروب

وفي (يوليو) 1993 ، أطلق أندرو لويد ويبر أحدث أعماله الغنائية ، وهي " ساسنت بولفارد " ( أي شارع الغروب ) عنوان المسرحية وموضوعها مأخوذان عن فيلم سينمائي من إنتاج 1950 ، وهذه مناسبة نادرة حقا لاقتباس مسرحي عن فيلم سينمائي إذ إن العكس هو المألوف ، الفيلم من إخراج المخرج الشهير بيلي وايلدر ، وبطولة غلوريا سوانسون وويليام هولدن فضلا عن ظهور بعض كبار المنتجين والمخرجين فيه ضيوف شرف ، وهم إريك فون ستروهايم وسيسيل ب. دو ميل ، وكتب نص المسرحية دون بلاك وكريستوفر هامبتون ، وأخرجها تريفورنن .

ويبدو موضوع المسرحية ملائما للكاتب هامبتون ، الذي يسبق له أن كتب مسرحية " برشت في هوليوود " إذ أن موضوعها يدور في كواليس عاصمة السينما في العالم ، تتحدث المسرحية عن علاقة بين نجمة شهيرة آفلة من عصر الأفلام الصامتة ( لعبت الدور باقتداء تمثيلي وغنائي عظيمين إيلين بيج ) وكانت سيناريو شاب ومغمور ولكن الأمور تتطور من رغبتها في استغلاله ككاتب مجهول في الظل يكتب لها سيناريو " سالومي " الذي تطمح من خلاله إلى عودة مظفرة إلى الشاشة الناطقة ، دون أن تدرك عامل الزمن واضمحلال شهرتها ، إلى علاقة حب لذلك الشاب المتمتع بخيرات قصرها الفاره في الشارع الفاخر حيث يقطن كبار النجوم " ساسنت بولفارد " ولكن ذلك الشاب يقع في حب شابة من طينته وجيله ، فنبدأ الكارثة ، إذ إن النجمة العجوز المتصابية تكشف لها الحقيقة ، لتتأزم العلاقة الثلاثية ويعترف الشاب لحبيبته بحقارته وخداعه لها ، وبأنه يعيش من أفضال النجمة وقد استمرأ هذا الثمن للمجد الهوليوودي ، فتتركه باكية . لكنه ما يلبث أن يعلن للنجمة أنه كذب على حبيبته وأنه أيضا سيغادر قصرها دون رجعة ، فلا تملك إلا أن تقتله بالرصاص وتقاد إلى مصح عقلي بعد أن فقدت صوابها ، وغمرتها فضيحة الجريمة العاطفية المأساوية .

عرض " ساسنت بولفارد " في لندن مهم للغاية ، فالمسرحية ليست خفيفة هذه المرة ، بل هي " كتاب " حافل بالدراما والشخصيات المدورة المعجونة من لحم ودم. إننا نرى الحلم المجهض ، وخداع الذات. بل نرى ثمن الشهرة المدفوع بالدم والدموع. ومن التفاصيل الغنية في العمل اكتشافنا أن رئيس خدم النجمة هو مخرج أفلامها الصامتة وزوجها الأول ومكتشف موهبتها (ستروهايم) الذي دأب على تغذية حلمها وأملها بإرسال رسائل زائفة يوميا بإسم معجبيها . أما المشهد الأبرز فهو مشهد النهاية ، بعدما تقتل حبيبها الشاب كي لا نفقده ، لأنه لا أحد يدير ظهره لنجمة ، إذ تجد البوليس والصحافة في أسفل دارها ، فتردد في النزول ، لكن رئيس خدمها ذاك يوهمها أن ما تراه مشهد من مشاهد شهرتها . وأنها في سبيلها إلى العودة المظفرة المأمولة إلى المجد مع السينما الناطقة. وهكذا تنزل الدرجات بكل أبهة وعظمة ، سائرة برأس مرفوع إلى مصيرها المأساوي المحتوم.

ونتذكر ردها على الشاب أول ما التقته وقال لها : " كنت كبيرة " إذ قالت : " مازلت كبيرة ، لكن الأفلام أضحت صغيرة. "

ولا شك أن بعض عروض الميوزيكال التقليدي ما زالت تجتذب جمهورا ما يستعيد عبرها ذكرياته وماضيه. فالموضوعات العاطفية ، ذات الشخصيات المسطحة بين طيب وشرير وجميلة ، يجدها المرء حتى اليوم تحيا بين حين وآخر ولكن الأعمال من هذا النوع - ولنطلق عليه اسم نوع " الساندريللا "- تبقى محصورة الأهمية ، ومخصصة للسياح. منها يجد المتابع في لندن مسرحية بعنوان " كوبا كابانا " ليس فيها ما يذكر سوى بعض الاستعراضات . وعادة تقحم في مثل هذه الأعمال شخصية كوميدية مبالغة في دور رئيسي لاستدرار الضحكات كلما داهم الملل الجمهور.

ولكن ، إذا كنا بدأنا من القاع ، فإن مستويات الميوزيكال التقليدي تتفاوت ، حتى تصل أحيانا كثيرة إلى ما هو جدير بالمشاهدة. وحتى " قراصنة بينزانس " لجيلبرت وسولفيان أو " آيرين " أو " آني " أو "أوكلاهما " فيها ما يشفع للسطحية. وبعدها نأتي إلى الميوزيكال المتوجهة إلى الأطفال ، وفيها بعض الروائع الباهرة ، وعلى رأسها " بيتر بان " عن حكاية بار حول الولد الطائر الذي لا يكبر أبدا.. التي حولت إلى فيلم سينمائي كبير لسبيلبرغ تحت عنوان " هوك " ، لعب دور القرصان ذي اليد / الخطاف داستن هوفمان ، بينما لعب دور بيتر بان وبن ويليامز. ويبدو أن شرط النجاح المضمون عن عمل ذائع الصيت أدبيا. مثل هذا النموذج نجده متحققا على أحسن ما يرام في عرض "أوليفر " عن رواية " أوليفر تويست " لتشارلز ديكنز.

أوليفر اقتباس حر قام به عن رواية تشارلز ديكنز تأليفا زتلحينا وقصائد ليونيل بارت ، وأخرج العرض الجديد الذي يعرض منذ 1995 في لندن المخرج سام مينديس ، وبطولة نجم المسرح البريطاني المعروف جوناثان برايس. أما أول إنتاج الميوزيكال " أوليفر " فكان عام 1960 حين أخرجها بيتركو ، وغزا بها برودواي بنجاح هائل .

وما لبث المخرج روبن ميدغلي أن أعاد العرض في أواخر السبعينات بإنتاج ضخم مماثل. لكن العرض الجديد يحمل ميزة الاستخدام المتطور والخلاق للديكور ، وهو من تصميم أنتوني وارد. ويبدو أن التيار الحديث الذي بدأ يسيطر على إخراج وتصميم عروض الميوزيكال هو تيار جاد من جهة ، وشاب بوجه عام من جهة أخرى ، على نقيض الماضي.

فما أن يلمع نجم مخرج موهوب في إخراج الشكسبيريات أو المسرحيات المعاصرة لفرقة مثل "فرقة شكسبير الملكية " أو " الفرقة القومية الملكية " حتى يتخاطفه المنتجون ، ويزاجوا به في إخراج أعمال استعراضية ضخمة ، لأن الميوزيكال الناجح هو أفضل استثمار فني وتجاري في الوقت نفسه. لكن المأساة هي أن أولئك الشباب المبدعون من المخرجين نادرا ما يجدون الوقت بعد ذلك لإخراج مسرحية جادة وتجريبية ، ويستقرون عند ما هو مضمون ورابح. قصة " أوليفر " مؤثرة كأعمال ديكنز جميعا ، خاصة أنها تدور حول مأساة طفل في ميتم ، ثم بين أيدي زعيم النشالين .

ولكن الميوزيكال حافل بلمحات من المرح والسخرية ، كما يحفل ببعض الأغنيات التي لا تنسى. وكما أن هناك شخصية لمجرم شرير يحاول استغلال أوليفر ، وحرمانه من استعادة أسرته الثرية الحقيقية والخلاص من حياة التسول واللوصوصية ، فإن هناك شخصية فتاة الشوارع التي يفجر فيها عاطفة الأمومة ، فتضحي بنفسها لإنقاذه.

ويتعقد لواء البطولة لشخصية زعيم النشالين البخيل " فاغين " ، الذي منحه أداء جوناثان برايس جاذبية خاصة محببة ، وأخرجه من دائرة القتامة إلى مزيج من الخير والشر ، من خفة الظل والجشع ، وذلك عبر أداء حديث يعتمد على الحضور والارتجال المقنن المدروس على طريقة عروض شكسبير المجددة. وبرزت سالي ديكستر بين المؤدين بصوتها المميز القوي ، لتهز الأفئدة في أغنية " طالما يحتاجني. شونبرغ يمسرح هوغو و"مدام بتر فلاي في الثمانينات بزغ في سماء فن الميوزيكال العالمي نور الملحن كلودميشيل شونبرغ وزميله مؤلف الأغاني آلن بوبيل ، وذلك عبر اقتباس هائل من رواية كلاسيكية عظيمة هي " البؤساء " لفتكور هوغو. ولا شك أن مجرد التفكير في إعداد مثل هذه الرواية الملحمية الضخمة التي تقع في الأصل الفرنسي في 14 جزءا ، وتستعرض من خلال شخصياتها الثورة الفرنسية وحرب المتاريس ، هو تفكير جرئ للغاية ، إلى حد الجنون. لكن ثمن هذه المغمرة الجنونية كان مرضيا جدا .

فقد أثمر عرض " البؤساء " الغنائي عن نجاح جعلها تتوالد في كبريات عواصم العالم ، بما فيها اليابان واستراليا. حكاية جان فالجان والشرطيجافيير الذي يتعقبه بلا هوادة ، معروفة مثل حكاية كوزيت المؤثرة.

ولكن تحويلها إلى ميوزيكال أمر يحتاج إلى خيال خصب ، لعل أول من امتلكه وطرح الفكرة هو ألفريد هتشكوك عندما قال ذات مرة : " هذا الكتاب يصلح لأن يصبح ميوزيكال رائعة ". لكن الفكرة انتظرت طويلا إلى أن تأثر مؤلف الأغنيات آلن بوبيل بمشاهدته لعرض " المسيح نجم ساطع " عام 1972 ، واتصل بزميله الفرنسي الآخر شونبرغ بهدف انجاز ميوزيكال حول موضوع " الثورة الفرنسية ". ونجح العرض ، مما أثمر عن إنتاج فرنسي ل " البؤساء " في باريس ، ولقي الإنتاج نجاحا ملحوظا دفع بالمنتج العالمي كاميرون ماكنتوش للتعاقد مع شونبرغ وبوبيل الفرنسيين لتحويل العمل إلى عرض غنائي عالمي بالإنجليزية عقب تقديمهما للمخرجين الشهريين تريفورنن وجون كيرد ، اللذين نجحا معا في إخراج اقتباي ديفيد ادغار لرواية تشارلز ديكنز " نيكولاس نيكلبي " للمسرح. وتحمس المخرجان للمشروع ، فتم إنتاج أول عرض لميوزيكال " البؤساء " على مسرح فعالة من كاتب الكلمات بالإنجليزية هربرت كريتزمر.

وما لبث هذا الإنتاج أو تواد ليصل إلى نيويورك ولوس أنجلوس ، ثم إلى عديد جدا من عواصم الفن العالمية. أنه عرض ضخم وجبار بكل معنى الكلمة ، وخاصة من ناحية الديكور الهائل المتحرك. وهو عرض ينمو تدريجيا ليحرز تأثيرا عاطفيا متناميا ،وينتزع حماسة المتفرج ، ويستدر دموعه . لكن اللافت للنظر أيضا هو تلك الحلول الإخراجية الخلاقة والحديثة ، كمشهد انتحار جافيير على المسرح عندما يواجه أزمة ضمير ، فلا يقدر على إلقاء القبض على خصمه الهارب من القانون وهو الذي أنقذ حياته من الموت وعفا عنه ، فيضطر ضميره المهني إلى الانتحار بإلقاء نفسه في مياه نهر " السين ". أما النهاية فمؤثرة حقا وقد أدرك الحبيبان تضحية ونبل ذلك الرجل العجوز الذي نذر نفسه لفعل الخير وإسعاد من حوله وخاصة الصبية التي تبناها وتحدى الصعاب من أجلها ، وفاء منه لعهد قطعه لأمها وهي على فراش الموت وكم كان المشهد رائعا عندما يظهر شبح الأم في النهاية ، ليصحبه في رحلة الموت ، تعبيرا عن الامتنان. أما آخر أعمال الميوزيكال التي تنتزع الإعجاب والنجاح في لندن فهو "فانتة سايغون". وقد انطلق هذا العرض منذ عام 1989 ، بعد حملة بحث عالمية ضخمة عن نجمته ، وما لبثت أن صارت له فاتنات نجمات في كل عاصمة يعرض فيها. والقصة مستوحاة من الأوبرا الشهيرة " مدام بتر فلاي " ،ولكن قصة الحب المأساوية التي تدور بين ضابط أمريكي وفتاة يابانية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها منتهية بانتحار البطلة تحولت هنا إلى تاريخ أكثر مئولا في الذهن ، ألا وهو وجود العسكري الأمريكي في فيتنام. وفاتنة سايغون هي فتاة تضطرها الظروف إلى أن تصبح من فتيات اللهو. ويقع في حبها ضابط أمريكي متزوج ، فترتبط به رباطا روحيا مخلصا ووثيقا ، وتنجب منه بل تضطر من أجله أن تقتل بالرصاص قريبها الغيور من رجال الثورة ، إلا أن الظروف تفرق بينهما إذ يضطر للرحيل. وتسعى فاتنة سايغون بشتى الوسائل إلى أن تنضم إلى رجلها في الولايات المتحدة مع ابنها الصغير ، إلى أن تتمكن أخيرا من ذلك. لكنها هناك تواجه الواقع المرير ، وهو كون حبيبها متزوجا وله وضع مستقر. وتدرك أنها لن تكون له زوجة أبدا ، ولكن ابنها يجب أن ينعم بحياة رغدة مع أبيه ، فتقدم على الانتحار .

جنون الملك جورج

لحن هذا العرض الكبير أيضا كلود ميشيل شونبرغ ، وساهم مع زميله آلن بوبيل بتأليف النص ، أما الإنتاج فقام به دون شك ثانية كاميرون ماكنتوش ، عقب النجاح الهائل لـ " البؤساء ". أخرج " فاتنة سايغون " هذه المرة مخرج جديد الإسم على مثل هذه العرو ، هو نيكولاس هيتنر. وكالعادة ، فإن خلفية هيتنر ، القادم من مدينة مانشستر ، خلفية جادة مر خلالها بفرقة شكسبير الملكية والفرقة القومية الملكية وعديد من المسارح وفرق الأوبرا الأوربية ، كما كانت له تجربة في إخراج أول فيلم سينمائي له ، وهو فيلم " جنون الملك جورج " ، الذي نافس بطله نيجيل هوثورن على الأوسكار ، وفازت بطلته هيرين ميرين بجائزة التمثيل في مهرجان " كان ". أما ديكور العرض فصممه واحد من أبرز مصممي بريطانيا ، وهو جون نابيير. لا شك أن تعون هذه المجموعة من الطاقات المحترفة القديرة أنجب واحدا من أهم عروض الميوزيكال على الإطلاق. ويجد المتفرج نفسه أمام قصة قوية ، وتلحين جيد ، ومشهدية باهرة مبتكرة ، حتى أنه يذهل للإمكانات الفنية في الديكور والإضاءة ، ونزول طائرة الهيلوكوبتر على المسرح ، وتمثال " هوشي منه " هائل الحجم ، ومشهد الهجرة من فيتنام إلى الولايات المتحدة. ولكن إبهار تلك المشاهد المسرحية ذات الضخامة والخيال الخصب الخلاق ، لم يلغ روعة المشاهد العاطفية الصغيرة ، ولم يؤثر في جودة الأداء.. وبالأخص أداء فاتنة سايغون نفسها ( الممثلة روان مونتي ) القادمة من أستراليا. كما لا بد أن نذكر شخصية المهندس ( الممثل جونيكس أندوسيان ) القادم من الفلبين ، وهو صاحب دار المتعة الذي يجلب فلتنة سايغون أصلا ، ويمهد للقائها حبيبها الضابط الأمريكي. ثانية ، يتذكر المرء ذلك الوصف الذي يطلقه النقاد عادة على الميوزيكال الناجح الجاد ، إذ يقولون : " أنه كتاب " هناك كثير جدا من عروض الميوزيكال تعرض في لندن ، بعضها مستمر منذ سنوات. ويجد الزائر مسرحيات مثل "خمسة يدعون ماو" ، و"مجنونة بحبك" و"كوبا كابانا" ، وغيرها. لكن عروض الميوزيكال المتميزة تظل تلك الحفنة المتميزة جدا من " الكتب " الموسيقية الاستعراضية ذات المضمون الإنساني والعاطفي السياسي المهم.. مثل نهاية " فات نة سايغون " حيث خاتمة اللقاء بين ثقافتين ، مواجهة ذات نهاية مأساوية تحفر أثرها في الضمير والذاكرة.. دون أن يلقي الذنب مباشرة على كاهل أحد.. وذلك سر التراجيديا العظيمة. ويبقى أندرو لويد ويبر ( البريطاني ) ، وكلود ميشيل شونبرغ (الفرنسي) ، يتصدران ساحة الميوزيكال العالمي حتى إشعار آخر .

 

رياض عصمت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




البؤساء مستمرة في بريطانيا وأمريكا بنجاح كاسح





النجمة ألين بيج في مسرحية "شارع سافست"





ميوزيكال"فاتنة سايغون"





قطط 13 عاما من النجاح





الميوزيكال التقليدي في السسبعينات (أوليفر)





قطار النجوم





شبح الاوبرا