قصص عربية: قبعة القش ممحمد أبوخضور

قصص عربية: قبعة القش

في كل مرة، كان يقف في ركن قصي، من ساحة محطة القطار، يتفرج على ابنة مدير المحطة الجميلة، ابنة الجيران، التي تعتمر قبعة من القش المزخرف بالأحمر والأزرق ، ويزين حافتها شريط ناصع البياض.

تعود أصابعه لتداعب ذقنه المرتجفة، وهو يعود أدراجه يلوب حزنا، لأنها لم توافق على إعطائه قبعتها الجميلة، ليضعها على رأسه ولو مرة واحدة.

انت تقول، وهي تزم شفتيها الورديتين:

.. ستتسخ!

يبلع ريقه ويعود منكسرا إلى زاوية الجدار ، ويغمض عينيه ببطء منتزعا من الخيال صورة مشتهاة، قبعة على رأسه مثل قبعة ابنه الجيران.

ستنجد بأمه المشغولة دائما بأعمال البيت، غير أن هذه تنده عليه صارخة من تعب الطبيخ والغسيل والضرة الشابة، صارخة:

يش؟ قبعة؟ أبوك! امش انقلع عن وجهي!. وينقلع الصبي الوديع ويغيب، تارة يلعب بكراكر الخشب وتارة أخرى يمتطي عصا يخالها حصانا لا يشق له غبار، ينكفئ على عالم داخلي لا حدود له، ويشعر بأن هناك أشياء كثيرة يتمناها: لعبة "اليويو" ذات الخيط الطويل، كرة الإسفنج التي تنط كشيطان مأزوم، دراجة العجلات الثلاث لابن مدير الشرطة!

رقيك يا صبحة بنت صالح، من عين الجارة وكل حاسدة مكارة وألقى الرجل الكهل بحفنة من بخور الجوري، فتطقطق النار، ويتطاير الشرر في الدخان وينتشر الأريج الذي ينقي القلب ويصفي الرأس من الصداع.

تطلع الرجل الكهل نحو المرأة وابنتها والصبي الصغير، يتطلع بعينين حمراوين يأكلهما الشك، نظرات قلقة لا تستقر على شيء وكأنه يتطلع إلى فراغ مبهم وترتسم على وجهه تعابير تعب وخذلان، تتراقص لحيته البيضاء كلما تحرك حنكه أثناء الحديث.

تناول من رف قريب إليه كتابا تآكلت أطرافه، وأسود غلافه من كثرة التداول. ويتطلع الرجل الكهل نحو المرأة ثم يسألها فجأة:
تب يا أم محمد؟
تجيبه دون تردد:

نعم يا سيدي الشيخ.. اكتب لابنتي، وحلوانك أن شاء الله سيكون كبشا عظيما إذا حملت ابنتي.. صبيا.. بنتا. يشد الصبي الصغير ثوب أمه طالبا:

أريد قبعة قش!

وتزجره أمه مرة ومرتين.

يبل الرجل الكهل طرف قلمه الأحمر بلسانه ، ثم يغرف حفنه صغيرة من بخور الجوري ويرميها في النار فتطقطق من جديد.

كانت الشمس في منتصف السماء. وكان عدد من الأطفال يركضون ويصرخون: سكر! سكر! وراء رجل أعمى يميل إلى القصر.. بشرته سمراء لامعة برغم تجاعيد الوجه. ويعتمر قبعة من القش، ويرفع كرشه المستدير بنطالا مخططا.

يحدق الصبي طويلا إلى قبعة القش التي تستقر على رأس الأعمى الذي يطوّح بعصاه وينهد على الأولاد بصوته اللاذع، ملصقا بهم أقذر ما في قاموس اللغة من كلمات:

" أولاد الحرام.. أولاد الساقطات.. يلعن أبوكم واللي خلفوكم"!!

يضحك بعض المارة، بينما يطلب بعض آخر من الأولاد الكف عن إزعاج الأعمى.

كانت الشمس في منتصف السماء، وكان الصبي مدفوعا برغبة حارة لمرافقة والده إلى المحطة.

وهو يقف مع والده في الأمس في غرفة مدير المدرسة أصر المدير:

لا بد من صورة للصبي. لحفظها في سجله المدرسي.

وهما يقطعان الطريق، طلب الصبي من أبيه شراء قبعة من القش. داخل السوق وأمام دكان يتهيأ صاحبه لرش صناديق البندورة والخيار والفاصوليا بالماء توقفا. غمرت الصبي فرحة فقد ظن أن والده سيشتري له القبعة، غير أن هذا طلب من البائع إعداد بعض الأغراض.

رحب خاشيك المصور الأرمني بوالده وقدم إليه تنكة فارغة ليجلس عليها، ثم مرر يده على رأس الصبي الصغير مداعبا وانصرف لتعليق ستارة سوداء على الحائط.

قال الوالد:

أريد صورة ناجحة للصبي!

كانت مجموعة من المسدسات الخشبية والأفاعي المطاطية والعمرات والنياشين العسكرية وقبعة من القش مرمية في صندوق خشبي قرب حامل الكاميرا.

ركز خاشيك الأرمني رأس الصبي مرتين وأمره بالتطلع إلى حيث مد أصبعه بالقرب من فتحة الكاميرا التي تنتهي بكيس أسود.

قال الوالد:
أريد صورة ناجحة.
ناجحة؟ بل ممتازة، فخاشيك لا تفشل له صورة. قال المصور الأرمني معقبا، وأردف:

اسأل كل أهل المحطة !

تناول الصبي قبعة القش ووضعها على رأسه في الوقت الذي دس المصور خاشيك رأسه داخل الكيس الأسود الملتصق بالعلبة الخلفية للكاميرا.

قال الولد متابعا حديثه دون انتباه.
لكن كاميرا الصيدلي تجعل الصورة أوضح !
يخرج خاشيك رأسه من الكيس الأسود منتفضا ويستهزأ:
تجعل الصورة أوضح؟ رح حبيبي وتصور عنده! يضحك الوالد ويسترضيه.

يركز خاشيك المصور رأس الصبي مرة ثالثة، بتمرير أصابعه على وجنتي الصبي لتركيز الصورة وهو منفعل:

يضحكون على الناس حتى يأخذوا مصاريهم. الصورة الكهربائية بخمس ليرات.. وخاشيك بليرة.. خاشيك أحسن مصور!

يدخل المصور رأسه من جديد في الكيس الأسود ويمد أصبعه قريبا من فتحة الكاميرا. عينا الصبي تتركزان على أصبع خاشيك.. طق.. طاق.

يسحب خاشيك المصور رأسه من الكيس الأسود، ويرفع الصبي قبعة القش عن رأسه ويعيدها إلى مكانها في الصندوق الخشبي، ثم يتناول مسدسا خشبيا ما يلبث أن يرميه، ليتناول من جديد أفعى مطاطية طويلة يلهو بها.

يتابع الرجلان حديثهما حول عجور وعرقه السيئ، يستخرج المصور خاشيك صورة الصبي من الجارور الجانبي المليء بالماء.. يرفع الصور ويمسحها على ركبته وينظر إليها.. يضرب المصور الأرمني جبهته بيده..

يتساءل الوالد:
خيرا!
انظر!
بلهجة استكانة يقول المصور، ثم يلتقط المقص ويبدأ في قص الأطراف الزائدة للصور الأخرى.

يلقي الوالد نظرة على الصورة.. صورة الصبي وقبعة القش مستقرة فوق رأسه وتكاد تغطي عينيه!

يضحك الوالد.. ويضحك الأرمني وهو يطبطب على كتف الصبي:

شيطان صغير! يجب البوزات..

ثم يلتفت نحو الوالد

لا تضع الصور في جيبك وهي مبلولة.

يقول المصور الآرمني للوالد الذي مضى مبتعدا والصبي يلحق به ساكتا، صامتا وهو يحمل صورته معتمرا قبعة القش!!

 

ممحمد أبوخضور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات