قصر البارون منار حسن فتح الباب

قصر البارون

استطعت بالأمس فقط أن أزيل الغبار الممزق لصورة جدي من فوق اللوحة..كانت معلقة على الحائط تواري شرخا عميقا متعرجا وقذارة مبهمة وظلالا بنية ويحرسها صرير بعض النمل الأسود.

أسكت صرير النمل وحطمت اللوحة وأخرجت رأسي بين دفتيها..مصصت أظفارى وعضضت وتساءلت:

هل يمكن للإنسان ألاّ يرى نفسه إلا في مرآة أو صفحة نهر أو ظل القمر على الأرض؟ هل كان يمكن أن أرى صورتي مصغرة من خلف الميكروسكوب في معمل قصر العيني قبل أن يلمحني أحد من زملائي؟

أطفأت كل الأنوار الخافتة من حولي ونظرت إلى السماء..تحسست جسدي ثم نفخت في اللوحة المحطمة كي أرى كيف يمكن للروح أن تصعد منها إذا ما استدعتها نثارات الزجاج الهشة بهسيس ما وذرات رياح خفيفة تشبه رياح النار.

تساقط الشارب الكبير الذي يشبه القارب من وجه جدي على الأرض عندما دقت الساعة القديمة العاشرة..ظللت أنفخ في اللوحة..ترى أكنت رسمت له هذا الشارب أم أنه نما طيلة هذه السنين فوق اللوحة حتى بدا أخضر اللون؟

أفق يا جدي من نومك كي تشهد يوم حفل زفافي في أفخم الفنادق حين تسطع الردهات اللامعة وتتسع لخطوتك الكبيرة وأنت تطير مزهوا في الموكب المرصع بالدخان وتعبر بين الأقواس الحديدية المشتعلة بالنار والفتيات من.حولك ورأسي مطوق بالياسمين الحي وأرجل المدعوين غابة مزدحمة والكؤوس رفيعة تطقطق وفراء السيدات البيضاوات يعوي عليا..ألا ترى كل هذه الموائد المثقوبة بدوائر أطباق اللحوم الهرمية يسيل منها عرق "المرق" وصفرة الدسم ويطير ريش الدجاج الأبيض الهائل المذبوح..ألا ترى النادل الفقير الشارد وهو ينصت إلى صوتي الرقيق ويتأمل أظافري المطلية التي جذبت زوجا ثريا..ولكن..آه ..لقد نسيت! مثلما تنسى.

أرتمي على سريري..وامتد..امتد طويلا ..

وجهك يتفكك..تتساقط البشرة وتتلوها بشرة جديدة وتتراجع سماء الليل الطويل .

في الظلام لا أبدو جميلة لكن جدي وسيم..لقد مررت بمنحنيات شوارع بها محلات تصوير كبيرة في لهاث ساعدني على إجهاض رغبة للنوم المستمر..وزعت صورة جدي مع صورتي خلف واجهات المحلات وكتبت اسم عائلتي الباعث على الضحك. ثم اخترقت عيني زميلي الطبيب الثري ووجهته نحو الصورة..قلت له وأنا أشحذ قطرات من ندى دموعي:

- إنه جدي ..وبلدته ليست شركاسيا لكنه شركسي راق من أعرق العائلات الشركسية ..كان يخاف علي كثيرا لأني وحيدة دون إخوة..كان قليل الكلام مثلما كان الملوك..من شدة ما أحببته كنت لا أدري إن كان أبي أم خالي أم جدي..كان يختار أبعد ضفة من النيل كي يعلمني الصيد..وكنت أغافله وأعود لإلقاء السمك في الماء كي يعيش وأضع عشبا جافا في حقيبة الصيد بدلا منه.حملق في زميلي قائلا:

- إن الصيد هواية الأغنياء..فهل كنت..

قاطعته سريعا:

برغم هدوء مظهري كنت أشاغب عصابة صبية يلتفون كل يوم حول قصرنا ويتلصصون بأنوف تستنشق عاليا..كان ثمة صبي منهم عيناه تقتربان من بعضهما حتى تكادان تلتصقان وكان يحبني وأحبه..ربيت أسماكا ملونة كثيرة في ماء حوض السباحة المالح، فسرقها هؤلاء الرعاع ليلا بعد أن قفزوا في الحوض وأغرقوا الهواء وتصايحوا وتسببوا في أن يسقط جدي من أعلى السلم الداخلي للقصر وظل طيلة حياته مهشم الذراع..ها هي مائلة في الصورة..كنت ألثمها دائما بأنفاسي كي تشفى وتلتئم وأرى عروقها وتضاريسها انكماشات الأشجار الجافة في قصر البارون.

ساءلني وهو يتفرس في وجهي:

- إنها لا تشبه تضاريس حفر الأحياء الشعبية القديمة؟.صرخت في رعشة:

- إنه جدي..قلت لك..لقد غرس أول شجرة في رمال مصر الجديدة ووضع أساس طريق المطار وأعمدة الكهرباء وحين أضيئت أنوارها وهدأ، عكف على تدوين تاريخ العائلات الكبيرة في المنطقة وتزوج بناتها من أجل ذلك.

أبرزت خصري وشفتي..ألقيت بنظرة ساخطة على فتاة جميلة تلبس سروالا ضيقا تقف بعيدا عنا وتضحك بشدة.عبثت بعصبية بضفيرتي الخشنة وجرحت خدي دون أن أدري.

ظهرت ابتسامة ساخرة على وجه زميلي

وقال: تقصدين أن جدك الشركسي الأبيض غرس جنين جسد أسمر نحيل مثلك لكني أراك جميلة..لا تغضبي.

رددت في توتر:

خذ هذه الصورة..احتفظ بها..إنه جدي..كان مهندسا ويشبهني..وكان يسكن قصر البارون قبل أن يتحطم الجانب الأيسر منه وهو يشارك في ترميمه.

سأل في دهشة مريبة:

أهو محطم؟

قلت وأنفاسي تتهدج :

نعم..إنني أعلم منعرجاته منذ كان جدي يصحبني إلى هناك..وكنت ألعب مع حشرات الحشائش والأركان وأطعمها ثم أقتلها غرقا واقطعها وأدفئها في راحتي واعتصرها وأبردها في الهواء فجف وأحاول تشريح أجسادها..كنت أتصورها ثقيلة الوزن..يبدو أنني كنت أملك هاجس تفوقي في كلية الطب.

همس زميلي فجأة وهو يرنو إلى جزء يظهر من نهدي: الآن..

نذهب إلى القصر المهجور في الظلام حيث الجناح الأيسر المحطم.

وحينما جذبني في نهم أصدر صوتا حيوانيا غامضا يشبه صيحة قرد بين الأدغال..تركته في ذهول وجريت في تعثر حتى أوقفني طريق السيارات الفارهة المسرعة فبصقت فوقها واصطدمت بشحاذ ضرير مهرول مقطوع الذراع، ومضيت أتطلع إلى أضواء الإشارات الضوئية، وأدب بثقل فوق الأرض، استمع إلى وقع حذائي البليد المهترئ وهو يقودني نحو ضفة النيل عند شجرة الجميز، وقد لاحقني ضجيج أغنية حديثة راقصة مزعجة وصرير عربة مولود جميل تدفعه سيدة أنيقة مبتسمة في غموض ونعيق طفل يتعلق كالعنقود المهلهل في ذراع أم نحيفة مكتئبة الوجه تنتظر على محطة الحافلات.

دخلت وأنا التفت خلفي ومن حولي إلى دهليز شارعي الصغير المظلم، صعدت السلم الذي يتساقط يوم..تسابقت مع قشور سقوطه وهي تتناثر نحو الأسفل..التصقت بحائط الشقة ثم هرعت إلى صورة جدي داخل اللوحة المحطمة.

كان يبدو وكأنه لا يزال يتكلم متحشرجا محملقا..انفلتت يداه الحاملتان للأوسمة الصغيرة المجهولة وانبثقت يده اليمنى ترمي إلي بضفيرة شعر قديمة لمست خدي فخلتها ناعمة وخلت خدي أملس..باغتني جدي بصفعة على وجهي ثم عاد إلى وجومه.

كان شاربه لم يزل على الأرض يحاول أن يعلو فلا يستطيع..يتحداني بحدقتين باردتين مدهشتين بأنه ليس ثمة حلم مفزع..فالجد قديما كان يصفع الحفيد دليلا على محبته ويمضغ شعر رأسه ويغرقه في الماء وينتشله كي يطهره.

نزعت جوربي في عنف وانتشرت رائحة قدمي في الغرفة. ازداد شارب جدي انحدارا والتصاقا بالأرض..اخضر لون الحائط بشدة..أسقطت إلى الأرض كتلة جسدي المجوف وانحنيت على ركبتي أحاول التقاط الشارب لكنه كان يفر من بين أصابعي.

حملقت في السقف المثقوب فوقي وفجأة شعرت ببرودة تيار الفكرة وهي تجيش في أمواج متتابعة:

أهو جدي حقا؟

 

منار حسن فتح الباب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات