السؤال الصعب لحسن ولد إبراهيم

السؤال الصعب

تتقلب في فراشك ذات اليمين وذات الشمال تقلب المحتضر على سرير الموت. أنفاسك تتصاعد متقطعة كأنها تنتزع من بين جوانح صدرك اللاهثة، خفقات قلبك الوجيع في استنفار حاد لا تدري منتهاه. تشعر بشيء ما ينحت على تمثال ذهنك يحرف خلقته ويزعج سكونه المألوف.. من أبوك؟!. تغمض عينيك البريئتين لتستدرج سلطان النوم. لكن هيهات فالحظ كعادته مدبر عنك وجهه والنوم صد عنك، كما تصد الحسناء تغنجا وتدللا، وأنت في أمس حاجتك إليه.. وكيف يأتيك النوم وقد تجرعت في غرة ليلتك هاته شرابا علقميا في كؤوس صدئة لو وصل طعمه أحشاء الإبل لبددها؟! وهل يغشيك النعاس أمنته وقد شدتك شياطين الحيرة والوساوس بحبالها وأصبحت ألعوبة تتلهى بها كيفما تشاء؟!. من أبوك؟ . تحاول قطف زهور الذكريات من رياض الصبا لتطرد بعبيرها الرائحة الذميمة التي تبعثها أشباح ذاكرتك المفجوعة. فيفزعك حالها اليباب، لقد مر عليها سيل الأحزان والمحن فغدت بعدها قاعا صفصفا وحتى الخيالات التي كنت تظلل بها غربان أحزانك فعبثا تحاول استحضارها لقد انقرضت وتبددت آثارها. من أبوك؟!. سؤال لا تريد سماعه تضغط براحتي كفيك على قفص رأسك بقوة لتقطع دابر الأفواه المتجرئة على نطقه. لكن يبقى الضجيج والعجيج صاعدا فعملك هذا أبله لا طائل من ورائه. وما دخل رأسك ونعيق الأصوات؟! ألا ترى أنه هو الآخر يئن لحالك ويبحث عن متنفس يرمي عبره كوامن بركانك المعتلج. أليس هو جزءاً منك؟!. فالكلمات القاسية التي طعنك بها رفيقك في المدرسة لم تكن وحدك ضحيتها فحتى هو كان أول من تصدع لها. ومن أنت ومن هو؟! أشجان جنون تشغل بالك للحظات. من أبوك؟!. غمة سحاب تظل جاثمة بهيكلها المملوك في أفق ذاكرتك ما لم تزحها دبيب نسائمك وتجليها إشراقة شموسك.. "الكل يشهد أنني أنجب التلاميذ على الإطلاق والجائزة التي سأتسلمها بالمقابل ستكون وردة دون رحيق فكل رفاقي يحضرون مع آبائهم إلا أنا. نعم إلا أنا وكالمعتاد". كلمات غريبة عن ديار خاطرك تفتح لها المجال لتدب في قرارة نفسك لأول مرة لا تعرف بالضبط ماذا حدث هل هي بوادر استسلام. استسلامك لأخطبوط السؤال أم أنة تلميح من ألوية عجرفتك بالانسحاب من ساحة العناد بعدما أعياها الكر والفر والإقبال والإدبار. من أبوك؟! تنهض من سرير الاحتضار. تمسح حبات العرق المتناثرة على جبينك. تمد يدك إلى كوب كبير من الماء موضوع على طاولتك العتيقة. تقبل فمه مرات عديدة لتخمد ألسنة النيران الهائجة في أعماقك. لم تفلح في إسكاتها برغم انتفاخ بطنك وكأنها ممتدة من سعير جهنم! أتشعر برغبة في التقيؤ. تضع أصبعك في حلقك لتفرغ ما بداخلك من أصداع. ترفض هي الأخرى الانصياع لأمرك. إلا مرارة خبيثة تبلى حلقومك.. تجتاحك رعشة توقظ أوصالك، تنتفض بصمت.. لماذا هذا الخوف وأنت في عمر يقدر على مصارعة غوائل الحياة؟! وإلى متى يظل الهروب أكبر همك؟! من أبوك؟! نعم من أبوك؟!.. لماذا لا تضع حدا لهذه المطاردة اللعينة؟!.. تذرف من وجدك دموعا لا حسرة لها.. تعاود التمدد في الفراش.. لقد أصبح باردا مملا ربما حتى هو تفطن لجبنك وخورك وها هو يعبر لك عن اشمئزازه ونفوره..! ترتمي في حضنه رمية اليتيم المنبوذ في حضن غير حضن أمه فليس لك أنيس غيره.. تشعر بهزة خفيفة تسري في جسمك المثلج.. يليها سكون حاد يعم رحاب كيانك. تهجع قليلا.. ربما قطار ريب المنون أراد أن يخلصك من عناء سفر أعمى ويرحل بك عن هذه الحياة المترعة بالهموم والأحزان.. يتبسم له وجهك تبسم الزهور للسحب الماطرة.. وتنبسط له مقلتاك انبساط العروس الحسناء لعريسها يوم الزفاف. تتحول الهزة لسوء حظك إلى ضباب غريب يبلغ مشارف ذاكرتك.. يطالك بإغفاءته.. تندفع نحو أمك المدودة بجانبك .. " أمي.. أمي من أبي؟!" أمك في غنى عنك.. فهي تصارع مرضها المزمن وربما أنها في الجولة الأخيرة لذلك الصراع المرير فلا داعي لتعجيل هزيمتها! تتراجع قليلا وتهم بالعدول.. تبقى في مكانك هامدا ساكنا كالتمثال.. يجرعك كأس الموت جرعا مريرة عدا الجرعة الأخيرة التي يبخل بها عليك.. لم تطق صبرا أكثر من ذلك.. تعاود مضايقتها.. "أمي أرجوك من أبي؟ لقد كدت أحترق غيظا!".. تدنو من وجهها بعينين جاحظتين لمتا كل أنواع الهموم.. لم يبق لأمك المسكينة أن تكتم السر أكثر من هذا ولا بد أن تستغل الفرصة لتريح ضميرها الكليم. لقد نطقت بالسؤال المحظور!!.. تجهش ببكاء حاد مصحوب بتوجعات ألمها.. تجذبك إلى صدرها وتضمك بحرارة لا عهد لك بها.. "وأنا لست أمك؟!" كلمات تنزل ويلا من نار يجرف قنوات مسامعك ويقطع أنياط قلبك واحدة واحدة.. تضع يدك على فمها لتوقف سيل نيرانه.

تنفلت كلمات أخرى من فمها: المستشفى- صغيرا- يتشقق صدر الأرض من تحت قدميك.. تهوي في فج مظلم سحيق لا متنفس فيه.. تسحب معك جسدك المشلول.. تتقاذفك أمواج الظلام من مكان إلى مكان.. تنتصب في واجهة باب المستشفى الكبير للمدينة.. نور وجهك الصبياني لم ينطفئ بعد. مازال ينير متقطعا كبدر وراء غيوم سيارة.. تأمل في الحصول على خيط أمل ينجيك من ورطة الأوحال وينتزعك من مخالب مستقبل ملثم ضرير بصره.. تضرب بملء يديك عرضه السميك.. لا أحد يجيب.. ينتعش تعب مضن في ثنايا ركبتيك.. ينخر قوامهما.. ربما صرخة يأس عميقة.. تردد بعينين ممطرتين تذيبان لفائف القلوب.."يا إلهي لماذا كتب لي استخراج شهادة ميلادي من هذا المكان؟ لماذا أجني ما لم أزرع؟.. " تمشي متثاقل الخطوات.. تنشأ تتكلم كأنك تحدث نفسك.. تتساءل "هل أذنبت في هذا الوجود حتى أعاقب بهذا الشكل؟! وأي ذنب وآنا مازلت صغيرا ؟! " تطرق أذنيك أصوات متداخلة تترد في جوف الليل تنبعث من إحدى الزوايا المتطرفة عادة ما ترمى فيها القاذورات والنفايات. تلتمس الطريق إليها.. تبلغها. رجل وامرأة في حالة ضعف يصنعان لوحة متعفنة في ذلك الهزيع الأخير.. تتقزز نفسك لذلك المنظر.. يتراءى لك شقاء آخر.. عذاب آخر بأظفارها.. يمثل، لك التحامهما منبت وحوش ضاربه وأسود شرسة تتوعد أجساد قلوب الأبرياء بأظافرها الحادة وأنيابها المسمومة.. تتلمس قضيبا من حديد ملقى بجانبك وأنت لا تشعر.. ترفعه إلى الأعلى..

تهوي به عليهما.. تتوأم الدماء مع الأوساخ بتمازج حميم.. تصرخ بصوت تمازجه العبارات وتقطعه الزفرات "كفى، كفى أنا".. لقد ارتكبت جريمة.. تشعر بدوران يخال لك بسببه أنك في عالم غير عالمك وأن الأرض غير أرضك والسماء غير سمائك.. ترجع أدراجك إلى الوراء مذعورا.. لا ليست بالجريمة إنما هي التفاتة تنشل الأجيال من أفواه تماسيح الضياع.. ترددات في كوامن نفسك.. تلتفت إلى طريق سريع.. ترتمي في حضنه بعدما تقدر أن تعانق أول سيارة تمر من هناك.. لعله زحلك المفقود.. ضوء اصفر خافت يولد فجأة.. يكبر بسرعة.. يزحف نحوك.. تحاول الفرار من أمامه.. لا تقدر.. يبتلعك، يقذف بك في أحشائه.. تجد نفسك في جحر فراشك مسمر العينين.. تضع يمناك على صدرك تجد قلبك يتمشى جزعا وهلعا.. تتحسس بيسراك المكان من تحتك تجده قد تبلل.. من أبوك؟ تعود أوجاعك ثانية.. من أبوك؟ سؤال صعب يبقى شاهرا سيفه في سماء عينيك البريئتين ما لم تأذن ساعة حقيقتك بالبوح..

 

لحسن ولد إبراهيم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات