الغصون العالية كريم الهزاع

الغصون العالية

وحيدا ومنكمشا فوق كرسيه. حاول أن يسترد أنفاسه لكنه لم يستطع. طوى بطنه وببطء حاول مدها من جديد ليستعيد أنفاسه. الوجع كان كالسكين في خاصرته اليسرى. العينان تنكمشان من شدة الألم. هل أشرب ماء؟ طرح هذا السؤال على نفسه. سيجن من شدة الألم. أصبحت كالقنفذ قال، وفي أول الليل وصوت المؤذن يطرق أسماعه من بعيد: يا رب. ثم استعاد أنفاسه مسرورا ضاحك العينين. نهض وفتح الباب على مصراعيه. توجه لرف الكتب. تناول القران وقرأ ما تيسر له من الآيات شاكرا ربه. في الغرفة سلك كهربائي غليظ لمكيف الهواء مطوي على شكل مشنقة حدق به ثم ضحك. زوجته تدخل إليه بالقهوة مع الليل الذي يدخل أوله. نهض وأشعل لمبة ضوء جديدة. نظر إلى وجهه في المرايا. لمبة ضوء تهتز. حدق في اللمبة ثم السقف البعيد.. توضأ.. تناول السجادة فرشها وصلى. نسي القهوة المرة. وضع خاتمه في أصبعه تناول كتابا تاريخيا من مكتبته. قرا السطر الأول. قطط سوداء تعاركت في حوش البيت. نسوة يدخلن على زوجته. نظرة للقطط، نظرة للنسوة، نظرة لزوايا الدار، تذكر أنه على موعد مع النجار الذي سيصبغ السرير. انتظرت يوما وسأنتظر يومين. ألغى الموعد. النسوة يغادرن المنزل وجاء دور القراءة. أشعل سيجارة من علبة السجائر التي بقريه. أشعلها واشتعل، أغمض عينيه وتمنى لو أنه في المقهى، لو... لهدأ تفكيري. قال لنفسه ثم نفث ما في فمه من دخان وبحسرة، وبتلقائية أزاح كومة الكتب من مكانها، اضطرب وقال: قراءة.. قراءة. آه يا عيوني التي ستنطفئ. قراءة، كتابة، عزلة ومن ثم؟ ضاع العمر والروح تحترق والدنيا تدور بي حتى كادت أن تنقطع أنفاسي. قتلتني العزلة. لم يرم علي أحد السلام، مساء الخير يا معزول، دخلت عليه زوجته. طلبت منه أن يشتري بعض الأشياء المتفق عليها مسبقا. بعد عشرين يوما سأشترى شيئا جديداً، ولنؤجل بقية الأشياء بعد شهر. لماذا؟ تجاهلها أو أخذته الجريدة لكنه لم يرد، رمت على وجهه نظرات العتب واستمرت إلى الباب. رمى الجريدة، أزعجته لغتها الميتة. نظر إلى النافذة. كبرنا وتغير لون الستائر. سحب الستارة جانبا. عادت زوجته وهي تصبغ أظافرها. نهض، أخذ مجموعة أوراق ومزقها، مزق ما كتب ليلة البارحة وخرج. سيارته عند الباب تقف في حذر، وقف عند الباب. عطر أنثوي في الشارع يلفح وجهه. (تنكر ماء) يمر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. مد يده على اللوزتين بلع ريقه. أخذ ينظر إلى أسطح البيوت. إنه عصر الأقمار الصناعية، برامج من جميع المحطات يحضرها السيد (ستلايت)، محفظتك فارغة لا ترفع رأسك، لا تمد جناحيك وتطير الآن صح، انظر في الشارع. مراهقة تضحك بصوت عال وصبي يمر بسرعة يمد يده على نهديها ويهرب. ضحك بقدر ما... ليلة أمس أشعل نفسه بليلة حب جلس على المصطبة. نادى: شاي. عيناه متعبتان أخرج من جيبه فواتير الدفع. مط شفته السفلى. لا تفكر، ستدمر كيانك إذا ما بقيت بهذه الطريفة حاول أن تفر للهدوء.

قبل يومين انكسر الرف وسقطت الكتب على رأسه بسبب ترتيبه الفوضوي ولأنه يرفض أن يرتب أحد مكتبته. ما أزعجه هو التقاطه لوريقات كتبها ولم يعد لتبييضها. فأغلق النافذة والباب وأخذ يقرأ بعض أوراقه. يحذف، يشطب، تناثرت الأوراق من حوله، في كل مرة يبحث عن تجربة جديدة، يسمع دمدمات الاحتجاج، يضحك من كل قلبه. وحدي أعرف ما أصنع... أما الآن فتذكر أن وقود سيارته على وشك النفاد. عاد أدراجه إلى البيت، مكتبتي أفضل ما في هذه المدينة ومازال أمامي طريق طويل وصعب. تنفس بعمق. علي أن آخذ درسا في المرور عند مكاتب تعليم قيادة السيارات حتى أعرف الطريق جيدا واختصر الطريق الذي أعنيه، درسا في المرور وهو الدرس الأخير، استدارة ثم إلى الأمام وأكون قد وصلت. أنهى كلامه وقرر أن يستبدل ثيابه. طرقات على الباب. الديون القديمة تطرق بابه. الآن فتح الباب. أهلا وسهلا.. قال مرحبا بالسيدة الديون القديمة تفضلي يا سيدتي إلى قاعة الضيوف. دارت دورة الشاي مرتين. ثم قالت السيدة الديون القديمة سأقسط المبلغ على شهور بنظام الجدولة، لكن لو تكرمت وقع لي على هذه الأوراق، يوقع دونما اقتناع، تبتسم السيدة وتقول أستاذن الآن وأرجو، أرجو أن تنبه أولادك ألا يقتربوا من حديقتي أو من أولادي. يعتذر مكررا أسفه ثم يردف: ولكن أولادك يا سيدتي هم الذين يعبثون ببيوتنا ويعلمون أولادنا اللعب الجديدة حتى أنهم يأخذون أولادنا إلى أماكن بعيدة لا يعرفونها ليعلموهم لعبة (التائه)، أقول لك أنتم مخطئون وترمي اللوم علينا؟ هات الأوراق سأختصر أعدادها وأرفع نسبة الفوائد. عفوا، عفوا سيدتي، كانت زلة لسان ولن أكررها ثانية، تخرج السيدة ويذهب هو للمغسلة ليغسل وجهه. أردت الخلاص لكنك تورطت ثانية. يلتزم الصمت وفي لحظات ينجز أكثر من فكرة لكنه لم يتمكن من نفض الغصون العالية. الساحة الآن تخلو للسيدة الديون الثقيلة. تساءل: هل سأظل أعاني الأمور الثلاثة: الظلام والديون والضياع؟. واقفا أظل كالشجر أم راكدا كالماء في البركة الآسنة، وأشيائي كلها ستظل متشابهة، البيت، السرير، العيش، الحلم ، القراءات. إلا أن بعض الكلمات التي في القاموس تقلصت في الصحف اليومية، أما أسئلتي المطروحة الآن فهي: هل سأظل مكاني؟ هل سأرفع لوحة الاسم من فوق الباب وأضع لوحة أخرى كشاهدة القبور مكتوبا عليها (بيتي هو مقبرتي) وليكن. لكن هل سأغير ثيابي كالشجر أم سابقي كما أنا أحصي انطفاءات الشموع دون أن أجيب عن الأسئلة؟. لم يجب عن الأسئلة لكنه ظل يحاول هز الغصون العالية.

 

كريم الهزاع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات