نقاط صينية لا إبر صينية محمد المخزنجي

عدم الدقة في المفاهيم ، كثيرا ما يقودنا إلى رفض لا أساس له ، أو قبول لا إمعان فيه . ومن ثم نجد أنفسنا واقعين إما في دائرة التعسف ، أو في حبائل الدجل . وحتى ننجو من هذا وذاك ، ونقف في الموضع الأفضل ، لا بأس علينا من بعض المراجعة .

حينما شرعت في دراسة العلاج بالوخز، كاختصاص إضافي في أحد المعاهد الأوربية، وبعدما عدت لأمارسه - بشكل محدود، ولفترة زمنية قصيرة - في بلدي، لم يكف الناس الذين عرفوا بأمر دراستي وتخصصي - أوربيين وعربا - عن السؤال الذي سمعته يتكرر كثيرا بدهشة وتطلع: " هل يمكن أن تريني إبرة من هذه الإبر الصينية؟ ".وكنت أريهم ما يطلبون، وأتأملهم وهم يتفحصون تلك الإبر، بإمعان وتقليب، وتحسس حذر، كأنهم يتوقعون فيها شرا أو سحرا. وكان التعليق بعد المعاينة، إما الصمت، أو السؤال: " أهذه هي الإبر الصينية؟! ".

كنت أستعيد " إبري الصينية " من بين أصابعهم المتحيرة بينما وجوههم تتطلع نحوي سابحة في غيمة خفيفة من الشك، وكنت أدرك أن السؤال يطوي في داخله أسئلة، وأن المعاينة لم تسفر عن المنشود، وأن إجابتي لم تشف. غليلا. وكان لا بد في كل مرة من معاودة التأكيد على أن " الإبرة " ليست هي كل شيء في هذا النوع من العلاج، فالمسألة ليست إبرة، يشكها من يشكها حيثما يشكها فيكون العلاج، ويكون الدفع! ثم عندما يكتشف الآملون أن لا أثر، يكبر الارتياب.. ليس في الممارس الذي لم يتسلح إلا بإبرة، ولكن في هذا النوع من العلاج، الذي هو علم كامل لا بد لممارسه من دراسة نظرية وعملية، وعبور امتحان جاد ومعتمد من جهة علمية موثوق بها. لهذا وجب الحديث، ومحاولة رد الأمر إلى أصوله.

التصحيح يبدأ من الاسم

الوخز بالإبر Acupuncture وهو الاسم الشائع لهذا العلاج الصيني، ليس إلا تعبيرا، أوربيا من مقطعين لاتينيين، أذاعه طبيب ألماني هو " ويلم تينريتي " زار نجازاكي اليابانية في أوائل القرن السابع عشر وشاهد هناك طريقة العلاج بالوخز. بينما أصحاب الشأن، الصينيون أنفسهم، ومنذ 4000 سنة، كانوا يطلقون على ذلك " بيان " أخذا عن نوع من الحجر الصغير المدبب، كان يستخدم لعلاج الآلام بالدلك وعلاج القروح بالكشط. وثمة من يقول بأن. هذا الحجر كان البداية.

لكن هذا القول ينافسه زعم آخر، مفاده أن الصينيين القدامى، لاحظو أن أمراض المحارب المزمنة كانت تشفى بشكل غامض في أثر طعنات الرماح ورشقات السهام التي تلقاها في أثناء المعركة. وبملاحظة مواضع الطعن والرشق، وربطها بالأمراض التي شفتها، راحت تنمو خريطة النقاط الصينية. وهي الأصل والأساس في العلاج بالوخز.

ويذكر أنه في القرن السابع، أمرت حكومة " تانج " طبيبا شهيرا آنذاك هو " شنكوان "، مع ثلاثة من زملائه، بأن يراجعوا نقاط الوخز وأن يرسموا بيانا لها. وبعد أربعة قرون أمرت حكومة " سونج " بإعادة تحديد ورسم النقاط، وتبيين استخدماتها، فكان أن كتب "دليل نقاط الوخز والكي بناء على نموذج الرجل البرونزي".

ونموذج الرجل البرونزي هذا يرجع تاريخه المرصود، بعيون عصرنا، إلى أكثر من عشرة قرون مضت، ومازال موجودا ويستنسخ، بل وتثبت الأبحاث العلمية الحديثة - خلاله - مدى الدقة التي وصل إليها الصينيون القدامى في تحديد هذه النقاط التي صارت تتسمى بأسماء عديدة، أخذا عن صفاتها الوظيفية أو التشريحية، فهي: " نقاط التأثير "، أو " النقاط النشطة "، أو " النقاط الصينية"، أو " نقاط الوخز"، أو " نقاط الكي "، أو " النقاط الحية " ، أو " النقاط النشطة حيويا "، أو " نقاط الجلد الفعالة بيولوجيا ". وعددها الموروث عن تمثال الرجل البرونزي 365 نقطة موزعة على 14 مسارا للطاقة وكأنها محطات على هذه المسارات. ومازال البحث العلمي الحديث يكتشف مزيدا منها حتى غدت قرابة الألف نقطة بعد إضافة نقاط الأذن ونقاط فروة الرأس.

ولعلنا لا ننسى في خضم تلك الأسماء العديدة، لنقاط الوخز الصينية، اسما أطلقه عليها اليابانيون عندما نقلوها إلى بلدهم، فقد أسموها " تسوبو " وتعني " النقاط الهدف ". فأصابوا بذلك كبد حقيقة هذه النقاط.

فكيف رأى البحث العلمي المعاصر تلك النقاط الهدف؟

التشريح.. من السطح إلى العمق

إذا كانت هناك سمة دالة على إنسان العصر الحديث، فهي الشك، لأنه لم يعد - شأن الإنسان القديم - يأخذ الأشياء بسحرها، ولا يسلم إلا بحقيقة ما يلمسه ويسبر غوره، ثم هو بعد ذلك لا يقتنع إلا بتكرار النتائج التي تحصل عليها من قبل. وهذا الشك يعد فضيلة عندما يتعلق بصحة الإنسان، ثم إن الإجابة عن أسئلة الشكوك تقود إلى عمق اليقين. وهذا ما كان:

عام 1930 قال " نجوين فان كوان " وهو يصف طبوغرافية هذه النقاط، الحسية، بأنها تتجلى عندما يضطرب عمل عضو داخلي، عندئذ تصير النقطة المرتبطة بهذا العضو على سطح الجلد - أو الممثلة له - مؤلمة عند تلمسها أو جسها. ومن هذه الملاحظة يتبين أن هذه النقاط يمكن اعتبارها وسيلة للتشخيص، وليس للعلاج فقط، فعند العثور على " نقطة مؤلمة " على سطح الجلد يمكننا معرفة العضو الداخلي المصاب عبر معرفتنا بما تمثله هذه النقطة.

وفي إطار الطبوغرافيا أيضا، أسهم اليابانيون بطريقة مرشدة للعثور على هذه النقاط، فهي في رأيهم موجودة في الأماكن التي يسهل ظهور أي تغيرات عليها - كرد فعل لتغير وظائف داخلية - فهي تقوم عند ثنايا الجلد وفي المناطق الواصلة بين العضلات وأوتارها، أو في الوهاد بين تقاطع العضلات، أو تحت الجلد حيث يطفو عصب ما خارجا من عضلة. وهذه الرؤية اليابانية أكدها الباحث الأوربي " فوجراليك " (1961) عندما أشار إلى أن أبحاثه التشريحية قد انتهت إلى أن هذه النقاط توجد عند المفارق، كمفرق جلد - عصبي، أو عصب - عضل - وتري، أو عصب - وعاء دموي. وهكذا.

وأعمق من الطبوغرافيا، وفي عام 1962 حدثت ضجة هائلة حول هذه النقاط الصينية، عندما أعلن الطبيب الباحث، الكوري " كيم يون خان " أنه في معمله توصل إلى الكشف عن " جهاز تشريحي مورفولوجي رابع "، أي غير الجهاز العصبي، والجهاز الدوري، والجهاز الليمفاوي. وأسمى هذا الجهاز "منظومة كينراك "، وقال إنه يتطابق مع خارطة المسارات القديمة التي تتوزع عليها النقاط الصينية. وأشار " كيم يون خان " إلى أن هذه المنظومة عبارة عن شبكة معقدة من أنابيب دقيقة، ذات جدران بالغة الرقة واللين، يدور بها سائل حيوي يحتوى على تركيز مرتفع من مادة ال DNA حاملة الشفرة الوراثية - في حالة غير نووية. ووضع الباحث الكوري تفسيرا لعمل هذه المنظومة، مؤداه أن هذه المادة تدور في جميع أرجاء الجسم مانحة إياه طاقة الحياة، ومولدة لخلايا جديدة بدلا من هذه التي تموت. ورغم أن " كيم يون خان " قدم لمؤتمر علمي عالمي صور، إلكترونية دقيقة لمنظومة "كنراك " هذه بعد حقن مادة مشعة داخلها، إلا أن التأكيد على وجود هذه المنظومة لم يتكرر من علماء آخرين. بل ذهب بعضهم إلى التشكيك فيما انتهى إليه الباحث الكوري، على اعتبار أنه صور ودرس الجهاز الليمفاوي دون أن ينتبه لذلك، ومن ثم لم يأت بجديد.

أما على مستوى فحص الأنسجة والخلايا (هستولوجيا) فقد أشار بورتونوف (1977) إلى أن 80% من النقاط الحيوية تقع على وسادة من الأعصاب التحت جلدية والأوعية الدموية الدقيقة. وبمعاونة الميكروسكوبين الضوئي والإلكتروني، عثر بورتونوت في مواضع النقاط الحيوية على مجموعات من الدمنيات ( mast cells ) شوهدت حول الأوعية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار دور هذه الخلايا في تخليق وتكديس وإفراز المواد النشطة بيولوجيا، كالهيستامين والهيبارين، لأمكننا فهم آلية العمل الموضعي- على الأقل- لهذه النقاط.

بالفسيولوجيا، والكهروفسيولوجيا

عندما كان علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجي) يحبو، إذا ما قورن بما وصل إليه الآن، اكتشف الفسيولوجي " بلكس " عام 1882 أن الجلد الإنساني ليس سطحا متجانسا من حيث درجة الحرارة، فثمة نقاط ساخنة وأخرى باردة، وهو ما يؤكده تصوير الجسم بأجهزة الأشعة تحت الحمراء. وقد قدر لي أن أرى رأي العين في أحد مراكز أبحاث الطب المنعكس Reflexology، وبجهاز متقدم لقراءة فروق درجات الحرارة التي تصل إلى جزء من مائة ألف من كل درجة مئوية، مدى اختلاف درجة حرارة النقاط الحيوية عما حولها، ومدى اختلاف درجة حرارة النقاط فيما بينها. وكان مؤشر الجهاز يتحرك، بشكل واضح، عند النقاط كما حددها الصينيون القدامى منذ آلاف السنين.

ليس فقط تمايز درجة الحرارة هو ما يشير إلى خصيصة النقاط الحيوية، بل أيضا قدرتها العالية على امتصاص مزيد من الأكسجين، وهو ما أثبته الباحث بادشيباكين (1952)، إضافة إلى التباين الواضح في درجة تغذيتها بالدم والتي تتراوح بين درجة الوفرة الدموية أو فقر الدم مقارنة مع ما يحيط بها، وتبعا لحالة الصحة أو المرض. ثم إن هذه النقاط، وعبر أبحاث الدفع الدقيق للجزيئات المعلقة في مجال كهربائي microelectrophoresi ثبت تفوقها في تشرب الأدوية التي يتم دفعها إلى النقاط بالتيار الكهربي..

وعلى ذكر الكهرباء، نأتي إلى علم وظائف الأعضاء الكهربي electrophysioligy، فتتدفق معلومات، حديثة، تثبت أن القديم مازال قادر،- حقا - على إثارة الدهشة. وحتى نوغل برفق في هذا المجال، نذكر أن البيئة من حولنا هي حقل كهربي لا يكف عن التغير، وأن الكائنات الحية - بما فيها من كهربية - تتفاعل مع هذه التغيرات بما يناسبها. وهنا يبدو الجلد الإنساني نوعا من البذلات الواقية، كهربيا، نظرا لما يتميز به من المقاومة، إلا عند النقاط الصينية!

ففي عام 1950 اكتشف كل من " نيبوي " الفرنسي و " ناكاتوني " الياباني، ودون اتصال بينهما، أن النقاط الصينية هي مواضع جيدة التوصيل للكهرباء، أي تقل مقاومتها الكهربية، مقارنة مع ما يحيط بها كما بينت أبحاث النمساوي " ماريتش "، أن هناك نقاطا تتفاعل بوضوح مع التغيرات الكهربية للوسط المحيط بها، لدى الناس الحساسين لتغيرات الطقس، وأن هذه النقاط لا تخرج عن دائرة النقاط الصينية. كما بينت أبحاث " بورتونوف " (1977) أن النقاط الصينية ليست حساسة للكهرباء المباشرة وحسب، بل تؤثر فيها أيضا الأيونات ( الذرات المشحونة كهربيا ).

وفي سبيل إثبات الخصائص الكهربية للنقاط الصينية، أجريت تجارب عديدة، نذكر منها التجربة التي تمت في معمل أبحاث وظائف المخ في جامعة شرق الصين (عام 1986). فلدراسة حقيقة الرابطة بين صحة أو مرض الأعضاء الداخلية، والحالة الكهربية للنقاط الصينية التي تمثل هذه الأعضاء على الجلد، أجريت التجربة على الأرانب، وكانت النقاط موضع البحث هي النقاط الممثلة للمعدة على صيوان الأذن. بعملية جراحية تم إدخال أنبوب دقيق، وتثبيت إحدى فوهتيه في جدار معدة الأرنب تحت الطبقة المبطنة للمعدة، ثم أغلق الجرح مع امتداد الأنبوب خارج جسم الأرنب. وعبر الفتحة الخارجية تم إدخال حامض الخل الجليدي ( glacial acetic acid ) بتركيز 40% إلى ما تحت بطانة المعدة. جراء ذلك كانت تحدث للأرنب قرحة معدية، وعندها كانت نقاط المعدة على صيوان الأذن تظهر انخفاضا ملحوظا في المقاومة الكهربية. ثم عند وقف صب الحامض، كانت القرحة تقل ثم تشفى، وكانت النقاط تعود بمقاومتها الكهربية إلى مستواها الطبيعي.

الغاية واحدة، والوسائل شتى

من كل ما سبق يتبين لنا أن النقاط الصينية التي ورثت سرها البشرية عن أسلاف جربوا واستنتجوا وسجلوا، منذ آلاف السنين، هي بمنطق العلوم الطبية المعاصرة حقيقة واقعة. عملها يمكن أن يفسر بمنطق الطب الصيني القديم، حيث النقاط نوافذ أو محطات في شبكة مسارات الطاقةMeridians التي تدور بها طاقة الحياة (تشي) والتي تنقسم إلى نصفين متكاملين، نصف مذكر (يانج) ونصف مؤنث (ين). وما المرض إلا اختلال في توازن الين واليانج. وما العلاج إلا إعادة التوازن بين الشقين، والطريق إلى ذلك في " النقاط الصينية ". أما بمنطق الطب الغربي فهذه النقاط في عرف نظرية المنعكس العصبي Neuro reflex theory، موضع لاستقبال وإرسال معلومات الانعكاس، تنعكس عليها آثار مرض العضو الداخلي، وتعكس آثار معالجتها على العضو المصاب، ويتم ذلك عبر الجهاز العصبي والمخ وبآليات بيولوجية معقدة تتضمن إعادة تشغيل الاحتياطي الخلوي، وزيادة إفراز أفيونات المخ الطبيعية، وضبط التناسق بين مجموعة الغدد الصماء، وما لم نعلم بعد.

إذن هى النقاط، أما الإبر، فهي مجرد وسيلة واحدة للتعامل مع هذه النقاط، ويمكن أن تحل محلها عشر وسائل أخرى - على الأقل - مثل: (1) التدليك (2) الضغط (3) التدفئة (4) التبريد (5) تيار الهواء المتأين (6) الكريات اليابانية (7) الرقائق المعدنية (8) المغناطيسات (9) أشعة الليزر (10) الأشعة فوق البنفسجية.