ضحك كالبكاء عبدالسلام بن القايد

ضحك كالبكاء

سكن الليل، وردة في يديك، لا شك أنها وردة حمراء كما تتصورون، تقف على الرصيف كشارة مرور لا تشير إلى شيء تضع يديك في معطف رمادي، تنتعل حذاء ثقيلا، تتملى في الأشياء من حولك، أضواء السيارات تتراقص، أحدهم يحمي رأسه بجريدة . صفعك هواء بارد، هذيان الريح يجعلك تدخل في حلم لذيذ. لفظتك الخمارة بعدما استنزفت قسطا من راتبك الشهري. تتحرك من مكانك، تتبين مواقع خطاك بصعوبة، كأنك تسبح ضد التيار في هذا الأفق القاتم. تلعن رئيسك، تقتله في خيالك. تمشي فاقدا توازنك تقف أمام واجهة زجاجية تعرض لعبا للأطفال، لأطفال الآخرين. تشتري دمية غالية الثمن لابنتك المريضة، يلفها البائع في ورق خاص.

في الشارع زخات المطر الذي بلل وجهك ومعطفك، رجل أعمى يتحسس الطريق بعكازه ، يدلف إلى مقهى التكشيرة يبيع أوراق اليانصيب يصيح: تريسيينطوس فينتيدوس. دوسييطوس كوار ينطا إي دوس tres cientos vente y " ." Dos. Dos cientos quarenta Y Dos

إحدى داري السينما تعرض فيلما هنديا "المشاغب". في الدار الأخرى فيلم أمريكي عن الحرب. كنت تسخر من كل شيء، ترفض هذا الواقع اللعين، تحلم بغد نظيف، كان البحر صديقك الوحيد، والأزرق لونك المفضل في العيون وفي كل شيء، في وجهك صرخة مكتومة، في وجهك ارتسمت الكآبة أكثر مما ارتسمت الابتسامة.ذ قلبك داخل صدرك يبكي باستمرار على الزمن العربي الجريح. نظراتك نظرة نورس يحلق في الأفق بحرية، حرية الاعتقاد هي المتنفس الوحيد في هذا الزمن الوحيد، زمن السيارة والديمقراطية والشعر، آه يا دنيا يا كلبة يا ابنة الكلب...

توقف المطر عن الغناء، أشعلت لفافة، اعتمدت على عمود النور، توقف المطر عن الغناء، وتوقفت قرب حديقة أقعى فيها أسدان من مرمر. واصلت سيرك نحو "السوق الصغير" ثم نحو بيتك، رأسك مشتعل من أثر السكر.

تنثال على ذاكرتك صورة ابنتك ذات الوجه الطفولي الجميل تبتسم بحبور، ترقص جذلى، تنتظر قدومك بشرق عظيم ثم تأتيك صورتها وهلى ترقد في الفراش وقد استولى عليها المرض، ونحل جسمها، تفيض عيناك دمعا محرقا. تأخذ الدمية الكبيرة بين يديك تحضنها وتنخرط في رقصة حالمة.

سيدي على بناصر

عوال على سفر

عندو بنية صغيرة

تبكي وتبكيني

وتقولو يا بويا

لمن تخليني

ويقولها يابنتي

ربي احسن مني

طرقت الباب، استقبلك وجه أنثى حالم، دخلت دون أن تتكلم، نزعت معطفك، وضعته في مكان ما. ثم قادتك عاطفة الأب نحو ابنتك، قبلتها في جبينها نظرت إليك من خلال عينين أخذ منهما الألم ذاك البريق، مسحت على شعرها، ناولتها الدمية، كبرت فرحتها برغم ملامح الألم في تقاسيم وجهها الدقيقة. عانقت الدمية، وخطفها سلطان النوم. سرت في أوصالك أحاسيس هي مزيج من الخيبة والانتصار.

جلست وسط الدار على كنبة يعلوها غبار الأيام. كانت زوجتك قد وضعت صينية على مائدة صغيرة، وإبريق قهوة وآخر فيه حليب. في التلفزة فيلم مصري، البطل فقير والبطلة غنية، البطلة ذات جمال كلاسيكي، تقول للبطل: منذ مدة وأنا انتظرك بشوق عظيم، إن طبيعتك تريحني وأنا أحبك، يكفينا بيت صغير وحياة بسيطة وإذا جعنا نأكل فولا وطعمية. البطل يمسك براحتيها يقول لها: بحبك.. بحبك يقطف لها وردة ويذهبان بعيدا.

تغيره موجة التلفزة. فيلم بورنوغرافي في القناة الأسبانية. تغير الموجة ، رياضة سادية، يكون ضحيتها في الأخير ثورا مسكينا تعلو التصفيقات. تغلق التلفزة صببت القهوة في الكأس، ثم صببت الحليب في القهوة وضعت قطع السكر في القهوة بالحليب ، وبمعلقة أخذت تذيب السكر. زوجتك تنظر إليك وأنت لا تقول لها شيئا. لا تنظر إليها. شربت القهوة بالحليب ثم بحثت بيد مرتعشة في جيب سترتك عن سيجارة سوداء ثم أخذت الولاعة وتأملت في الصورة الصغيرة الملونة. رشقت السيجارة بين شفتيك، أشعلتها، ثم صنعت حلقات من دخان. وضعت الرماد في المنفضة وأغرقت في حالة شرود. انطفأت السيجارة، أشعلتها مرة أخرى، قمت من مكانك. لم تكلم زوجتك. لم تنظر إليها، ليست معطفك الثقيل وقبعتك لأن السماء كانت تمطر وزخات المطر تسمع بوضوح في الخارج. لم تنظر إليها، فتحت الباب وصففته وراءك، وزوجتك أخذت وجهها بين يديها وطفقت تبكي.

الفحيح
بقلم: محمد الحسن ولد محمد المصطفى

رن جرس الهاتف مرات متتالية وأنا لا أزال في الحمام غارقا في الصابون وعجبت من هذا المتصل في ساعة مبكرة من الصباح.. تواصل الرنين فخرجت والماء يتقاطر مني وأمسكت السماعة.. فاندفع صوت مسترسل كفحيح الأفاعي وانتظرت ما سيأتي بعده ولكنه استمر وبنفس الوتيرة ولم أتمالك فصرخت مشمئزا ولم أعد أذكر كثيرا من سيل الشتائم التي انطلقت مني فجأة ثم أغلقت السماعة، الاحتمالات تتزاحم عليّ.. لا يرجح أي منها، شعرت بالصداع.

فتحت الصنبور فداعب جسمي الماء البارد.. ارتفع الرنين من جديد وتتالى، ولكني لم أقطع استحمامي وحين انتهيت خرجت إلى الصالون، اتصلت بعدد من أصدقائي.. حاولت أن انتزع منهم إجراء ما ولكنهم جميعا اتفقوا على ضرورة أن أنسى كل شيء فبذلك سيشعر "الفاعل" بأن لا أمل في أن يصل إلى هدفه.. صممت على اكتشافه. قررت ألا اخرج من المنزل اليوم كله وأما الذين ضاعت مواعيدهم فليس إلا الاعتذار.. يقينا أن صاحب هذه المكالمة يعرفني وأعرفه، فهل يمكنني تجميع عناصر صوته من خلال "الفحيح" أحضرت جهاز تسجيل وكاسيت، وأصبح كل شيء جاهزا لتسجيله. رن جرس التلفون فأدرت مفتاح التسجيل وحين أخذت السماعة كان المتحدث رئيسي في العمل يطمئن على صحتي.. وحمدت الله على أنني لم أهجم عليه بسيل الشتائم قلت له وقد أخبرته بما حدث: لا بد من معرفة المتصل. قال كأنه يسخر مني: أنت تطارد المستحيل. قلت له: ليكن لا بد مما ليس منه بد.. فقال في إشفاق: على كل حال اليوم لك وما بعده لنا، وقطع المكالمة فرددت السماعة إلى مكانها. رن الجرس بعد أقل من دقيقة وكأن المتصل كان ينتظر بفارغ الصبر انتهاء مكالمتي مع رئيس العمل وحين رفعت السماعة اندفع سيل الفحيح من جديد، فأدرت مفاتيح التسجيل " لم أنبس ببنت شفة" اقتربت من الجهاز وتأكدت من وصول الصوت إليه ولما لاحظت أنغاما موسيقية تصاحبه قربت السماعة مني وقلت: مداعبة قذرة أن كانت مداعبة أصلا. ومرت برهة. والفحيح. لا ينقطع ولكن الموسيقى انقطعت، بدأ القلق الحقيقي يحاصرني، وهاجمتني هواجس مختلفة.. وأخذ الضيق ينتابني بشكل متسارع فأغلقت السماعة والجهاز.. وأرجعت الشريط إلى بدايته وحاولت مرات عديدة أن أكون فكرة ولو واهية عن صاحبه، وتضاربت الاحتمالات وتعددت بحيث صارت كعدمها.

هز ضابط الشرطة رأسه وهو يسمع الخير وقال: مجرد معاكسات سخيفة ولكني سأحتفظ بالتسجيل لعلنا نجد أثرا ما يدل على الفاعل وهو احتمال ضعيف ولكن لا تيأس.. ازداد مع الوقت عدد المستمعين والمستفسرين عن جلية الأمر وحرصت على متابعة تعابير كل الوجوه بل خرجت إلى الشوارع القريبة من منزلي أتفنن في صياغة ومحاكاة "الفحيح" ، لعلي أكتشف بالمصادفة صاحبه.. لذلك كنت أصر على أن أنني كي كل منهم نفس الصوت الذي أصدره لهم بحجة أنني أود أن أعرف ما إذا كان " الفحيح" بهذه الطريقة يمكن أن يصدر عن إنسان وكانوا يستجيبون مشفقين من الهلع الذي قد يصيبني حين أتصور أنه فحيح عليّ من الهلع الذي قد يصيبني حين أتصور أنه فحيح أفعى حقيقة .

أخيراً قرر عدد من الجيران النوم معي في المنزل ليتأكدوا بأنفسهم من الصوت.. وفي تلك الليلة لم يرن الجرس إلا مرة واحدة وقطع الخط بمجرد رفع السماعة.. قلت لهم: لعله غير استراتيجيته الليلة، فبدت عليهم جميعا أمارات عدم التصديق ولما لاحظت ذلك قلت لهم: قطع المكالمة دليل على ما ذهبت إليه. في الصباح طلبت منهم العودة إلى منازلهم ما دام هذا مجرد وهم، وبرغم يقيني الكامل مما سمعت مرات عديدة فقد فكرت بجدية في اللجوء إلى من يكشف عليّ فلعلي أصبت بالوسوسة من طول سكني وحدي.. ولكنني أصررت على أنني لن أفعل قبل أن تنقطع المكالمات نهائيا وأهزم صاحبها... نصحني الكثيرون بتغيير المنزل.. لكنني تمسكت بالبقاء فيه.. ولاحظت أن الناس يبتعدون عني تدريجيا ولم يعد أي منهم لا في العمل أو الشارع يستمع إلى قصة الفحيح، ولذلك زهدت في نقل أخبارها إليهم وقد قلت ذات مرة جاءت دورة جديدة عنه: " سنعلم أينا أشد صبراً.." ومع مرور الوقت تعودت عليه وأصبحت أحرص على الوجود في المنزل في الأوقات التي تبدأ فيها دوراته.. ولما تغيب مرة واحدة شعرت بفراغ فعلي وفور أن عاد تلقيته بالتصفيق، وقلت ذات مرة: كيف ستكون حياتي لو انقطع الفحيح.

 

عبدالسلام بن القايد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات