قراءة نقدية .. في رواية غرناطة أمين العيوطي

قراءة نقدية .. في رواية غرناطة

رواية من تأليف: الدكتورة رضوى عاشور
لماذا غرناطة الآن؟ أهي ذكرى لما مضى أم رمز لما هو كائن؟ هل هي الزمن التاريخي المتباعد الدلالات، أو أنها وقائع الحاضر وقد ارتدت قناعا شفافا لا يخفي ما في ملامح الواقع من قسوة؟.

من اللافت للنظر أن تصدر في السنوات القليلة الأخيرة روايتان تجرى أحداثهما حول خروج العرب من الأندلس أو عن حياتهم في ظل قهر الحكم الإسباني ومحاكم التفتيش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين.

الرواية الأولى كتبها أمين معلوف بعنوان " ليون الأفريقي " باللغة الفرنسية وترجمها إلى العربية د. عفيف دمشقية ترجمة رائعة. والرواية الثانية كتبتها رضوى عاشور بعنوان " غرناطة". ولعل هذا يثير بعض التساؤلات: لماذا غرناطة؟ ولماذا غرناطة الآن؟ هل الدلالات التاريخية التي تحملها غرناطة بصفتها محطة أخيرة بدأ بعدها خروج العرب إلى الشمال الأفريقي هي ما يشدهما؟ هل هو ارتباط أمين معلوف ورضوى عاشور العاطفي بالمكان؟ أو أنهما يريان في الوضع العربي الراهن نظيرا لموضعهم في الأندلس آنذاك؟ أغلب الظن أن هذه الأسباب الثلاثة جميعها وراء كتابة هاتين الروايتين.

ولعل هذا هو ما حدا برضوى عاشور أن تختار "غرناطة" عنوانا لروايتها. ولما كان من المستحيل أن يتخيل القارئ حدثا يجري في مكان ما دون زمن محدد، فقد اختارت أيضا زمنا له دلالات تاريخية محددة. وإذا كان الزمان والمكان هما بعض أدوات الذات العليا لبلورة الشحنة النفسية في العمل الفني، كما يذهب فرويد إلى ذلك، فإن ميكوفسكي يلاحظ هو الآخر أن الاعتبارات الزمنية لها من الحيوية ما للاعتبارات المكانية لتثبيت أي حدث فني. إلى هاتين الملاحظتين نضيف ما يقوله لينارد ليتفاك حين يفرق بين كلمتي " مشهد " و" مكان "، فالمشهد، في رأيه، مكان يجري فيه حدث درامي محدد، لكن هناك أيضا أمكنة لا ترتبط بالحدث تستدعيها كلمات الشخصيات أو وعيها. المشهد منظر درامي ثابت لحدث ما، في حين أن الصور الفنية والإشارات الخاصة بالمكان لها وجود كلي، وعلى الرغم من أنها قد تكون عابرة إلا أنه قد يكون لها تأثيرات تراكمية.

ورواية " غرناطة " تجمع بين هذا وذاك، بين المشاهد التي تجري فيها مشاهد درامية والأماكن التي تشير إليها الشخصيات أو تستدعيها. غير أننا وسط ما تحفل به الرواية من مشاهد أو أماكن لا نجد شخصية واحدة تمثل شخصية بطل أو شخصية رئيسية، إذ تتوزع الأدوار بين عدد كبير من شخصيات الناس العاديين البسطاء، حتى يمكننا القول بقدر كبير من الاطمئنان إن الشخصية الرئيسية في " غرناطة " هي المكان

ورضوى عاشور لا تصور هذه المشاهد أو الأماكن من خلال عين طائر محلق، بل من خلال حدفتين تبصران الواقع بكل تفاصيله ووضوحه، ولا تختار بيئة منظرية لأحداث روايتها القصور المنيفة ولا القلاع المحصنة وإنما بيئة الحرفين وبسطاء الناس. هناك نهر حدره وقنطرته التي تربط بين غرناطة والبيازين، وأشجار السرو والتين والزيتون والرمان والجوز والكستناء والكروم التي تكسو ضفتيه وتوحي بالنماء والخصب والوفرة. هناك التلة الحمراء بأسوارها المدببة وأبراجها ونخيلها. هناك حانوت أبي جعفر الوراق وبيته، حمام أبي منصور، الخانات، الباحات، الدروب والأزقة التي تضم حوانيت الفخارين والزجاجين والنحاسين والصياغ، أسواق الأقطان والأصواف والحرير ومحلات بائعي العطور والحصر والصناديق الخشبية المطعمة بالصدف وأطقم الخيول أيضا مشهد الموكب وسلال الفاكهة. هناك الاحتفالي بعودة كريستوفر كولومبوس من الأرض الجديدة محملا بكل ما فيها من خيرات وأسرى وسبايا، والأرض الجديدة ذاتها التي يرحل إليها نعيم تابعا للقس ميجيل. ولكن هناك أيضا مالقة التي يستدعيها سعد بأرضها "الصخرية الجرداء بقممها وخوانقها ووديانها " وهناك إشارات إلى أماكن عديدة بعيدة مثل كهوف الجبال التي يلجأ إليها المجاهدون ضد القشتاليين أو السواحل التي تهاجم منها مراكب المسلمين شواطئ أسبانيا والتي يفر إليها المسلمون لتحملهم إلى المغرب. لكن أقسى المشاهد هي الباحة التي يحرق فيها القشتاليون الكتب العربية، ومشهد محاكمة سليمة، حفيدة أبي جعفر بتهمة السحر الأسود. إنها كلها تضفى على الرواية اتساعا في الرقعة التي تجري عليها الأحداث.

تاريخ حي

وفي تجوالنا في الأزقة والدروب والحوانيت والأسواق والباحات نعيش كل المشاهد والأماكن وجودا واقعيا حيا حتى ليبدو لنا أن الكاتبة قد جاست في كل هذه لأماكن حتى انطبعت كله جزئياتها في مخيلتها.

وهي جزئيات تلملم أطراف الوجود الكلي للمكان مسرح الأحداث..ولا تكشف رضوى عاشور الستار عن الصورة الكلية دفعة واحدة، بل تزيح الستار رويدا رويدا عن كل جزئية من المكان مع تحركات الشخصيات وحركة الأحداث حتى إذا ما انتهت الرواية تكون كل الأمكنة قد حفرت في ذهن القارئ دربا دربا وزقاقا زقاقا وجيلا بعد جيل، تماما مثلما يعيش الزمن الذي جرت فيه الأحداث. وهو امتداد زمني يضم أربعة أجيال بدءا بجيل الأجداد ثم الأولاد والأحفاد وأولاد الأحفاد، وهو ما يتفق مع طبيعة الرواية التاريخية.

وإذا كانت الصور الفنية المستمدة من الطبيعة توحي بالخصب والحياة، وكانت الحياة في الحوانيت والبيوت والأسواق تشير إلى أوجه النشاط الإنساني اليومي، فإن هذا كله يمتزج أيضا بالمكائد والدسائس والخيانات ومقاومة القهر والآلام والمشاعر النبيلة أو الخسيسة، وكلها تضيف إلى العمل أساسا واقعيا صلبا. فالحقيقة أن رضوى عاشور لا تسمح لنفسها بأن يشتط بها الخيال. فتحملنا إلى أرض خيالية لا وجود لها على الأرض أو في السماء، بل تقف بنا على أرض واقع صلبة. وحتى حين تبتعد عن النطاق التاريخي لكي تبدع شخصيات ومواقف إنسانية أو عاطفية فإنها لا تتجاوز الواقع. فالتيمة الأساسية التي تتناولها لا تعرض الإنسان في علاقته مع قوى خارقة، لكنها تقدمه في إطار واقع اجتماعي إنساني. في مكان محدد وزمن محدد وسط ظروف تاريخية وسياسية متغيرة.

البسطاء يصعدون

وقد يبدو مطلع الرواية " رؤيا من رؤى الخيال" رؤيا مجازية، حين يرى أبوجعفر الوراق امرأة عارية، تنحدر باتجاهه من أعلى الشارع، وهي تسير كما يسير النيام، امرأة مذهولة من لحم ودم يحيط أبو جعفر جسدها بملفه الصوفي. لكن حين يبلغه نبأ غرقها في النهر، فإنها تصبح نبوءة من قلب الواقع تشير إلى ما سوف يحيق بالمسلمين على أيدي القشتاليين في غرناطة. والحقيقة أن رضوى عاشور ينصب كل اهتمامها على بسطاء الناس ومصائرهم بعد أن يدخل القشتاليون غرناطة. فهي لا تعير الملك فرديناند أو الملكة ايزابيللا أو أمراء الجيش أو الكنيسة اهتماما كبيرا. وهي تشير إشارات عابرة إلى السلطان الأيسر الذي ألغى معاهدة سابقة مع القشتاليين وحاربهم، أو السلطان أبو الحسن الذي توقف عن دفع الجزية ونادى بالحرب، ولا تتوقف طويلا أمام موسى بن أبي الغسان الذي رفض تسليم غرناطة وأصر على القتال ثم اختفى، ولا أمام الخائن أبي عبدالله محمد الصغير الذي سلم مفاتيح الحمراء وقبض ثلاثين ألف جنيه قشتالي ورحل، ولا أمام علية القوم والأغنياء وكبار الفقهاء الذين رحلوا في هجرة جماعية. لكن يعيش في عينيها وفي وجدانها البسطاء الذين يضم العديد منهم معرضا من الصور الواقعية الحية.

واقعية تصوير الشخصيات تبدأ منذ تقديم أبي جعفر الوراق وهو يدبغ جلد الماعز ويصبغه ويعده ويرتب أوراق المخطوط ويلصق الغلاف ويحكم خياطته. تفاصيل الصنعة ذاتها تكسب الرجل مسحة واقعية. كما تتبدى طاقته الإنسانية الرائعة حين يقبض على يد الصغير نعيم الذي لا يعرف أن كان أهله قد رحلوا أو ماتوا بكفه الكبيرة. إيماءة إنسانية صغيرة تكشف عن قلب عامر بالإنسانية في ظل واقع مضطرب. وحين يحاصره حسه الإنساني العميق بإحراق الكتب ويفقد ثقته في تغيير الواقع، فإنه يموت.

وفي تصويرها للشخصيات لا تغفل رضوى عاشور أدق التفاصيل فأبعاد شخصية أبي جعفر صاحب الحمام مرسومة بدقة تجعل القارئ يراه رأى العين ببدانته وبشرته الوردية وملامحه الدقيقة وذقنه الملساء وكرشه الكبير. حتى أبعاده النفسية ترتبط بالواقع التاريخي الذي يعيشه وغرناطة على وشك السقوط، وتتجلى في انقضاضه على واحد من المستحمين يؤكد أن " غرناطة ساقطة لا محالة وابن أبي غسان كان أحمق يريد لنا"خوض قتال لا قبل لنا به " لحظة تصور وجع الرجل. وحين ينتهي الأمر بسقوط غرناطة وإغلاق القشتاليين للحمامات يغرق الرجل في الشرب ونقار زوجته والشجار مع نزلاء الخان. أبعاد شخصيته النفسية وليدة واقع تاريخي محدد يركبه الهم ويثقل عليه ويثير في نفسه " إعصارا لا ينام".

وإذا كان أبوجعفر وأبومنصور يمثلان الجيل الأكبر فإن الأجيال التالية تضم شخصيات متمايزة متباينة في أبعادها الجسمانية والنفسية فهناك مريمة بقدها النحيف الصغير ووجهها الخمري وشعرها المموج الأسود وملامحها المليحة، بحيلها التي لا تنتهي كي تنقذ صبية المسلمين من أذى القشتاليين أو حين تحتال لشراء أضحية العيد الكبير. وهناك سليمة بذهنها المتوقد وانكبابها على كتبها وأعشابها لتطبب المرضى. وهذا نعيم بنحافته ولون بشرته الذي يضرب إلى الصفر، وملامحه الدقيقة وشعره الكستنائي وعينيه العسليتين الملتمعتين، وهذا سعد بوجهه الأسمر المنحوت الجهم وعينيه الكحلاوين ونظرة الحزن التي تطل من عمق سواد عينيه. لا شيء يغيب عن عين الراوية ولا عن إدراكها للتباين بين الشخصيات: حسن الذي يحرص على أسرته ويتخاذل عن الانضمام للمجاهدين ، وسعد الذي يهجر زوجته وينضم إلى المجاهدين في الجبال، عشرات من الشخصيات، كلها تفيض بالحيوية وواقعية الوجود.

وهم جميعا شخصيات يمكن تحليلها في ضوء ظروفها التاريخية، أو كما يقول كلينث بروكس:" أن جذور القصيدة تضرب في التاريخ، ماضيا كان أو حاضرا ووضعها في السياق التاريخي لا يمكن تجاهله بسهولة.فالعمل الأدبي وثيقة ويمكن تحليله في ضوء القوى التي أنتجته".

ما بعد السقوط

وفي هذا الإطار نرى رضوى عاشور تتحرى الصحة التاريخية بدقة فإذا كانت المعاهدة بين الطرفين تنص على تسليم غرناطة مقابل تعهد الملك فرديناند والملكة ايزابيللا بتنفيذ بنودها والتزام أحفادهما بها، فإنه ما إن يستتب الأمر للقشتاليين حتى يروحوا يداهمون المساجد والمدارس ويجمعون ما فيها من كتب لحرقها، يمنعون تختين الذكور وأداء الصلاة والدفن على الطريقة الإسلامية، يرغمون الناس على الدخول في المسيحية ، يعلقون الأجساد على أعواد المشانق، يغلقون الحمامات، يحظرون بيع الممتلكات وامتلاك السلاح والإرث على الطريقة الإسلامية. ومن المفارقات أن يكون الأميران سعد ونصر ولدا السلطان أبي الحسن أول من يدخلان المسيحية، بل إن سعدا يلتحق بجيش قشتالة مقاتلا في صفوفه. والوزير يوسف بن كماشة ينخرط في سلك الرهبنة. والثغري الذي تحدى الملك وتوعد بالحرب يخرج إلى ساحة المسجد الذي تحول إلى كنيسة مقيد اليدين والقدمين، متهالكا، يعلن أن هاتفاً جاءه في المنام يعلنه أن الله يريده أن يتنصر.

غير أننا في المقابل نجد أنه حتى من تنصر، وخاصة أحفاد أبي جعفر، يحرصون سرا على ختان الذكور، وذبح الأضحيات، وممارسة الصلاة، ومراعاة مراسم الدفن. وقد تكون هناك بعض أشكال المقاومة من إقامة المتاريس، وصقل السيوف، ومحاصرة بيت الكاردينال، وانتظار مدد يجئ من الغرب أو مصر أو الشام أو من بني عثمان، ولا مدد يجيء سوى بعض الاشتباكات عند الساحل والتمرد الذي يأتي بنتائج محدودة أن لم تكن سلبية.

وعلى الرغم من هذا كله لا تنسى رضوى عاشور أن تفرش جوانب روايتها بقصص الحب والزواج والإنجاب. هناك نعيم " ذو القلب الأخضر الذي يرى صبية بعد صبية يفتن بها ويهيم بها حبا ، حتى السبية ذات الشعر الأسود الأملس الذي ينسدل على كتفيها في موكب كريستوفر كولومبس. وليس من الغريب أن يجد سالته وقد تجاوز الأربعين في الأرض الجديدة في شبيهة لها. وسعد الذي ما إن يرى سليمة حفيدة أبي جعفر، حتى يضيع النوم من عينيه ويبيت " مؤرقا يتقلب في فراشه كالمحموم"، حتى يتزوجها، وحسن، الذي ما إن يرى مريمة في الخان حتى تثير في خياله " وهجا كاللهب الأزرق " ولا تخلو الرواية أيضا من الرقص، مثلما في رقصة نعيم الرشيقة في فرح سعد، أو من الأناشيد الدينية التي ينشدها أبو مريمة في فرح حسن. ولا تخلو أيضا من إنجاب البنين والبنات. فوسط الجو التاريخي القاتم لا بد أن تؤكد الحياة استمرارها وزهوها وانتصارها.

أن رضوى عاشور تضيف إلى رصيدها الفني، كما تضيف إلى رصيد الرواية العربية، عملا فريدا متميزا.

 

أمين العيوطي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الرواية