عقدة إلكترا عدنان محمود محمد

عقدة إلكترا

قصة: ألبرتو مورافيا

يقول طبيبنا النفسي الذي نتعالج عنده منذ أكثر من عامين إن أحد التوأمين أقوى دائما من الآخر وإن القوى مرشد للضعيف. من المحتمل أن يكـون كلامه صحيحـا، في حـالتنا على الأقل. فإن سقوبة سيرجيـو وبرودة دماغه العلمية تغريني وتخضعني. نحن، الاثنين، هشان وقلقان ومتقلبان هذا مؤكد ولكن سيرجيو استطاع التحكم بعمق في لغة التحاليل وخلق لنفسه قناعا من الكلمات المطمئنة، أما أنا فلم أستطع فعل ذلك. بالمقابل فإني أمتلك وبتأكيد غريب التفوق على سيرجيو: التفوق هـو أني كنت معه قبل الولادة وأني عشت معه تجربة العدم المطلق الذي يسبق الولـوج إلى الحياة مما سمح لي بأن أحسَّ معـه بحميمية كيف أسميها؟ بيولوجية، حميمية لا يعرفها أبدا الإخوة والأخوات العاديون، حميمية متأتية من أننا كنا مكملين أحدُنا للآخر في بطن أمنا، وأننا كنا شخصا واحدا ولو أنه في جسمين.

كنت أفكـر بهذا كله وأنا ذاهبة إلى سيرجيو بعد أن تلقيت، عبر الهاتف، الخبر الذي سيصبح عاديا ومن ثم متوقعا ومحسوما من قبلنا، نحن الاثنين، ألا وهو أن والدنا خُطف وأنه بصحـة جيـدة وأن علينا، نحن ولديه، أن ننتظر اتصـالا هاتفيا ثانيا يحدد لنا مقـدار المبلغ الذي يطلبه الخاطفون لكي يعيدوه إلينا سالما معافى.

لماذا قلت إن هذا الخبر كـان متوقعا ومحسـوما من قبلنا؟ فلتعلموا أننا ننتظر هذا الأمر منذ بعض الوقت، ليس فقط لأن والدنا هو ما يسمى بـرجل أعمال وأقول بدقة أكثر إنه رجل أعمال مهمة. بل وعلى الأخص، لأننا ننتظره وسترون فيما بعد لم حسمنا هذا الأمر تقريبا. حتى أننا تراهنّا على هذا الحدث: كان سيرجيو يقول إنه سيخطف صباحا وفي ساعة مبكرة، لحظة ذهابه إلى مكتبه؛ وأنا كنت أقول إن الخطف سيتم، بعكس ذلك، في وقت متأخر من الليل، ساعة ذهابه، ككل يوم ، إلى عشيقته التي أنجبت له طفلا. جزم سيرجيو أني راهنت على الخطف ليلا لأني أكره تلك المرأة التي حاولت بشتى الطرق أن تتزوج من أبي وتصبح بذلك (خالتنا) بعد وفاة أمنا. هذا ممكن. وسيرجيو هو الذي ربح الرهان؛ فقد خُطِف أبي هذا الصباح وفي ساعة مبكرة، لحظة خروجه بسيارته من مرآب الفيلا.

صعدت، أربعا، أربعا، الأدراج القديمة للقصر القديم حتى الطابق الأخير حيث أقام سيرجيو شقته. وصلت منهكة. ضغطت على الجرس بعصبية. انتظرت طويـلا قبل أن أسمع أصوات حركات مضطـربة. فتح الباب، ولحظة اجتيازي لـه لمحت امرأة بيضاء الجسم، عارية، تجتاز الممر راكضـة ثم تختفي في ظلمة ممر آخر. توجهت مبـاشرة إلى مكتب سيرجيو ودخلته. هآنذا أغوص من جديد في جو أخي سيرجيـو المطمئن، جو البرودة الزائفة والصبيانية والعلمية النموذجية.

كانت شمس أكتوبر السـاطعة تدخل عبر النافذة لتضيء طاولة كبيرة مصنوعة من الزجاج والمعدن وأوراقا مرتبة حسب مقاساتها وعدة أقلام من الرصاص والحبر مغروسة في جامين من الجلد وآلة كاتبة كهربائية.

مكتبته جميلة ومفرحة من المعدن الملبس بالكـروم الجيد الصنع. كانت الكتب في حالة جيدة، مصفوفة حسب لون الغلاف أكثر منها حسب الموضوعات التي تعالجها. الأجهزة المفيدة في هذه الأيام موجودة كلها: التلفزيون والراديو والبيك آب وكاميرا صغيرة.

بانتظار أخي ، ذهبت إلى النافذة، أطللت منها للحظـات، فرأيت في الأسفـل، في الـرواق، سائقين يثرثرون بجانب سيارات المصفوفة خلف بعضها البعض تحت أقواس صف من الأعمدة.

جفلت عندما سمعت صوت سيرجيو. التفت إليه بسرعة عندما قال: "ماذا؟ أنت في حينا؟ إذن، لقد وقع الأمر؟".

نظرت إليه وأنا أومئ "نعم". كان ملتفا بمنشفة خضراء من كتفيه وحتى عقبيه، وقد ظهر من الفتحة المثلثية للثوب الفضفاض رأسـه الأشقر مستقيما،- عدوانيا. بدا أنه استيقظ للتو واغتسل.

تركت قدماه الطويلتان العاريتان بللا على الموكيت البيج وبدا في غاية النحول من عقبيه الأنيقين وحتى وجهه البارز العظام. كانت عيناه تنظران من محجرين محاطين دوما بدوائر تنم عن التعب.

ذهب ليجلس خلف الطاولة منحرفا قليلا، مقاطعا ساقيه المتكـاسلتين الخارجتين من المنشفة. سألني بهدوء: "متى حصل الأمر؟" "هذا الصباح، في الساعة السابعة، لحظة خروجه بسيارته من المرآب. تلقيت الاتصال الهاتفي منذ حوالي نصف ساعة. لم أخير أحدا بأي شيء قبل أن آتي لرؤيتك ".

"إذن، لقد ربحت رهاني"

"نعم، ربحته.والآن ماذا سنفعل؟ "

"سوف نطبق بالحرف الخطة التي وضعناها سابقا باتفاق كامل".

ها قد وصلنـا. صحيح أني قررت وسيرجيو اعتماد خطة عمل في الحالة الأكثر من محتملة حين يُخطف والدنا. إنها خطة في غاية البساطة: سنرد على ابتزاز الخاطفين برفض قاطع. ولكن الآن وفجأة، تملكني قلق فظيع بعد أن سمعت جواب سيرجيو العرفي نوعا ما. لقد تكلم كضابط يعطي أحد جنـوده أمرا متوقعا مسبقا وهو يعرف أنه مستحيل التنفيذ.

" الخطـة المعَدَّة مسبقا! هل تدرك عمليا أن هذه "الخطة تعني الحكم على والدنا بالإعدام؟".

"أبدا، في الواقع إننا نفعل كلاعبي البوكر عندما يُنزلون أوراقهم وهم يقولون "لنر"، هـؤلاء اللاعبون يزعمون أن في أيديهم "الجوكر الجميل". ونحن إذ نرفض دفع الفدية نقوم بعملين: نطلب "الرؤية" لنعرف إذا كانوا يخدعوننا أم لا وهكذا سنضعهم أمام خيار يعنيهم وحدهم ويحررنا من كل مسئولية. فإذا كانوا يخدعوننا فسيعـود والدنا إلى بيته دون أن ندفع سنتيما واحـدا وهـذا أفضل بالنسبة إليه. وإذا لم يكونوا خداعين، حسنا فسوف نتخلص وإلى الأبد من رجل نكرهه".

" أحقا نكرهه؟".

" سأقول لك طوعا: نعم.أليس كذلك؟".

" ولكن لماذا نكرهه؟".

" لقد تكلمنا في هذا الموضوع مائة مرة. باختصار: نكرهه لأنه خيب أملنا".

"خيبة أمل! أتكفي لنرغب في موت رجل؟".

" الأمر مرهون ؛ فإذا كانت خيبة الأمل مريرة ولا سيما إذا كان الرجل والدك فسأقول: نعم".

" قل لي: هل كانت خيبة أملنا مريرة؟" .

"يا إلهي! أن يكتشف الإنسان أنَّ والده رجل نصاب لخيبة أمل مريرة، أليس كذلك؟".

اعترضت بيأس: "لنفترض أن هـؤلاء المجـرمين سيعيدونه لنا بلا فدية فكيف ستتمكن من تبرير موقفنا؟ ألن يقول إننا أردنا التسبب بموته؟".

" سيقول ذلك حتما، ولكن، أليست هذه رغبتنا دائما" .

"يا للمصيبة!" .

" تفاهم نهائي مع والدنا. في الواقع، لسنا سـوى جبانين. لماذا يرعبنا هذا التفاهم حتى الآن؟ والآن، نحن مضطران إليه وكل شيء سيصبح واضحا".

إنه بارد، برودة رهيبة. ولكن برودته تقلقني بدلا من أن تبعث في الاطمئنان. نعم، إنها برودة العلم. لكني أعرف، وأعرف أنه يعرف أن هذا العلم المزعوم ليس موقفا كغيره. أطلقت زفرة وقلت : "في السابق، أحببته بشغف. تصور أني عندما كنت صغيرة، كنت أفكر بأنه شخص كامل وكنت أردد وأنا شبه خائفة مما أقول: أبي إنسان كامل".

وافقني سيرجيو بهزة من رأسه : "إنها عقدة إلكترا بأجلى صورها. أما عندي فبالعكس، إنها عقدة أوديب هي المسيطرة. بما أن أمنا ماتت فقـد تبادلت العقـدتان الأدوار. بالنسبة إليك، أصبح والدنا أمنا، وأنت، مثل الكترا، تتمنين موته لكي تحصلي علي كليا لأنني أصبحت بالنسبـة إليك والدك. ومن ناحيتي، فقـد أصبحت أمي ، لذا فإني أرغب في أن أحصل عليك كليـا. في النتيجة، لا أستطيع إلا أن أرغب في موت والدنا".

كلام مهم ومغر بلا أدنى شك و ذلك تزايد قلقي بدلا من أن ينقص. قلت: "إلكترا أو غيرهـا، كنت أعتبره كاملا لدرجة أني كنت أعتبر عيوبه مزايا. مازلت أذكر تماما أني قلت لإحدى صديقاتي، ذات يوم: حسن، أنت لا تعرفين؛ والدي أعرج ووالدك ليس بأعرج!. لا بد أنها صدمت بهذا التبجح فلم تجد إلا أن تجيبني مباشرة بالمثل: هذا ممكن لكن والدي أعسر".

كان سيرجيو ينظر إلي بانتباه، صامتا ودودا لكنه لم يحر جوابا. جمعت أشتات جرأتي وأضفت: " ماذا تقول إذا اقترحت عليك التخلي عن خطتنـا وأن ندفع الفدية؟".

لم يغضب، بل أجـاب: "أقول إنك دائما الغبيـة والعـاطفيـة والمسكينة. ولكن لنتكلم على الصعب العملي. سأكـون سعيـدا إذا وجـدت توكيدا حقيقيـا لبعض الشذوذ فيما يخص عقـدة الكترا التي لاحظت وجودها عندك منذ بعض الوقت".

" على العموم، سوف نتخلى عن خطتنا؟".

" إذا كنت ترغبين حقا في ذلك فسوف أتخلى".

"نعم، أرغب".

أتساءل إن كان يحس بارتياح في اتخاذ قرار يحرره من انسجامه المأساوي. لقد أصبح تفـوقه عليّ موضع تساؤل من الآن فصاعدا. على أية حال، يجب عليه أن يبدو متعاليا وغير مبال. يجب ألاّ يبدو شيء على وجهه. قال: " حسن، لندفع، ومع ذلك سأتصل بمحامينا".

نهضت فرحة لأنه عاد ليصبح مرشدي وعدت لأكون من يرشدها. قلت بسرعة: " أنا ذاهبة. الأمر بين يديك، فافعل ما تشاء. لا أطلب منك سوى شيء واحد: لا أرى داعيا لأي إعلان في الجرائد في موضوع حينا الكبير والمحزن لوالدنا. لا شيء عن الحب البنوي".

" اطمئني ودعيني أعمل"

خرجت. نزلت الدرج ولم أستطع الامتناع عن تخيل ما كان سيحدث لو أننا احترمنا خطتنا. تخيلت الاتصال الثاني: "إيه؟ ماذا قررتما؟" "قررنا ألا ندفع" "لكنكما تعرفان ما سيحصل إذا لم تدفعا؟" "بالطبع نعرف. ومع ذلك لن ندفع" "ومعنى العائلة، هل تعرفانه؟ " "ظاهريا، لا" "كيف! لقد عمل والدكما من أجلكما طيلة حياته! أتكافئانه بهذه الطريقة؟ " "نعم نكافئه بهذه الطريقة" "ولكن أي نوع من البشر أنتما؟ ومخافة الله، أين هي؟" "مخافة الله نتركها لكم، ما رأيكم؟" "ماذا لديكما في مكان القلب؟ حجر؟" "صخرة. ماذا نفعل، فنحق لسنا أناسا تقليديين مثلكم. نحن، لسوء الحظ، أسرة عصرية. هل سمعتم سابقا بفرويد؟" " فرويد من هذا؟ أهو أجنبي؟ انتبها! فنحن لا نريد لغريب أن يتدخل في شؤوننا" "هل سمعتم بعقدة أوديب؟" "عقدة؟ لا. ولكن ما علاقة العقدة في قصتنا؟ نحن لا نمرح. الأمر يتعلق بحياة والدكما، أليس كذلك؟! "هل سمعتم سابقا بعقدة إلكترا" "إلكترا؟ من تكون الكترا؟ أعتقد أن اسمك سيلفيا" " مع الأسف، نعم أيها التافه. إن اسمي سيلفيا".

 

عدنان محمود محمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات