مسجد الحسن الثاني

تصوير: ستيفاني ماجيهي

الأيدي تبدع.. والقلوب تبتهل

ماذا تكون أيامك ولياليك، إن لم تكن سيد الزمن من دون نهار ومن دون ليل.. لك ألوان الدائم والأبدي.

        الأثر الذي أتمه رجل الله. أي جامع قرطبة إن وجودك لمن الحب. أبدا ليس في وسع المسلم أن يختفي، إذ إن نداءاته: تكشف عن سر موسى وإبراهيم.

        أرضك ليست لها حدود، وأفقك ليس له نهاية فإن موجة بحره هي: دجلة والدانوب والنيل

الشاعر محمد إقبال "من مناجاة لجامع قرطبة"

        يعترف العبدلله (كاتب هذه السطور) بداية وصراحة بأنه منذ زيارته الأولى للمملكة المغربية  الشقيقة منذ 27 سنة، لم يكن على وفاق مع مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية، وأكبر الحواضر المغربية، وأكثرها سكانا وتلوثا وضجيجا! (كازابلانكا) كما نعتها البرتغاليون: أي الدار البيضاء، أو "البيضا" و"كازا" كما يسميها عامة الأخوة المغاربة. وهي: بيضاء بحق، وإن شئت: بيضاء من غير سوء!

        ألا يحدث لك. أحيانا. أن تجد نفسك تكره إنسانا من اللقاء الأول؟! هكذا شعرت حين تعرفت بـ (كازا) أول مرة في مطلع السبعينيات! شعرت بأنها: مدينة تفتقد الطلة المغربية ، وتفتقر إلى سمات وملامح المدن والحواضر المغربية العريقة!.

        فقد بدت لي: كأنها قدت من باريس ومدريد وروما! كمغربية متأوربة متفرنجة، ملطخة بالماكياج وعدة الزينة والتزويق الفرنسية، وترتدي البنطلون، أو الفستان القصير، وتغتمر قبعة "برنيطة" وتلوك "لبانا" أو "علكة" أمريكية صناعية، وترطن بالفرنسية، وتطعم الكسكس بالسكين والشوكة، وتغنج بالراء: الغين وتضيق بالحناء والطرب الأندلسي المغربي والقفطان والدراعة والجلابة، وتفكر من الشمال إلى اليمين وكذلك أحلامها في المنام، أما أحلام اليقظة فلا علم لي بها!

        لذا، لم أتعاطف معها البتة ولا أحسبني مغيرا عواطفي تجاهها!. لم يحدث آني بت فيها ليلة، اللهم إلا عنوة وقسرا، وبحكم الضرورة ليس إلا!!

        ولأن العبدلله يؤمن بالقول المأثور: (صديقك من صدقك لا من صدقك) فإن أصدقائي البيضاويين: يتقبلون هجائي في هذه الكازا ماذا بسعة صدر يكبرون يغبطون عليها سيما أنهم يقولون: لا بأس على كازا إذا ما بغيتهاش، ما دام الزوار القادمون من الشرق لا يشاركونك موقفك السوفاج غير الحضاري: أسمعتهم؟! سوفاج هذه لا أفقه معناها، هكذا هي مع الذين يخاصمونها. أحلف بأغلظ الأيمان أنها غيورة جدا من مراكش ساحرة خلق الله، السياح والزوار وأهل البلاد. سعادتك رايح مراكش.

        نعم: جنوبي الهوى ..أنا ومراكش بالتحديد، ولا غرابة: والطيور على أشكالها تقع. وقد علقت بالحمراء الصحراوية من أول نظرة وزيارة ولقاء. وعشاق مدينة مراكش كثيرون جدا، ويمثلون كل عباد الله المنتشرين في أرضه سبحانه وتعالى.

        والإنسان العربي زائر المغرب الأقصى، يشعر إذا طاف بمراكش لأول مرة أنه يعرف هذه المدينة العريقة الساحرة! فتجد نفسك علقت بها وفتنت! ولست الأول ولا الأخير! والدليل يكمن في هجرتي إلى مراكش، وجر القارئ معي دون استشارته، والاعتذار من الدار البيضاء التي أصبحت تستأهل المصالحة، والوصل والصداقة الحميمة..لكونها تمركشت ولله الحمد!.

خواطر وصور تسر الناظر!

        في اليوم الحادي عشر من ربيع 1414 هـ الموافق 30 أغسطس 1993: تاريخ تدشين وافتتاح هذه المعلمة الحضارية، عاد إلى "كازا" وجهها الإسلامي وسمتها المغربي المزوق بالحنة المراكشية "لكحله"، العابقة بأريج الصحراء الجنوبية الممتزجة بنسمات "الأطلس" الجذلى بعمامته "الأماذيغية".

        نعم.. عادت إليها هويتها الغائبة في غابة العمارات المدنية الحديثة، وناطحات السحاب والضباب المدججة بـ"الكونكريت" .. مثل عمارات الكويت - ولا فخر -، ومبانيها "الفسيفسائية" العشوائية الارتجالية، المخاصمة لطراز وأساليب العمارة، والزخرفة الإسلامية!

        وأحسبني. صراحة. ظالما للبيضا حين ضاهيتها "بالكويت" المبتلاة "بعمارة" لا شرقية ولا غربية! ولولا المساجد لصارت دون وجه ولا ملامح! بينما تجد أن "كازابلانكا" تحضن "المدينة القديمة" بقضها وقضيضها، والمرافق المشيدة وفق العمارة الإسلامية الأندلسية المغربية: مثل: قصر العدل، و"القصر الملكي"، ومطار محمد الخامس الدولي، وعمالة "محافظة" الدار البيضاء، إلا أنها "تمركشت" الدار البيضاء، و"تمغربت" إثر عمارة "مسجد الحسن الثاني" ومرافقه الدينية والثقافية، في موقع المسبح البلدي القديم، تجاه المعرض الدولي، داخل المحيط الأطلسي! وأجزم: أن جموع السياح الذين كانوا يمرون بالدار البيضاء. إذا مروا. مرور الكرام، لن يكون في مقدورهم مواصلة طريقهم إلى الجنوب: حيث مراكش الحمراء.. ذلك الاسم الذي اختزل المغرب وصار رمزا له بشهادة التاريخ والجغرافيا.!

        والحق أن التراث في المغرب: حاضر في نسيج الحياة اليومية، فضلا عن احتفاء المغرب والمغاربة، بالمعالم الحضارية، إرث الأجداد الأصيل ذلك أن العديد من الأسر الملكية التي تعاقبت على حكم المغرب، خلفت بصمات حضارية متجلية في: عمارة المساجد، والمدارس، والمصحات والقصور والأسبلة، ولحبوس "الأوقاف" والحمامات العامة وغيرها، الأمر الذي أدى إلى وسم الفنون الإسلامية بميزتي الوحدة والتنوع فحين تزور متحفا إسلاميا (قد يكون من الصعب، في أغلب الأحيان، أن تحدد بدقة: الإقليم الذي يصح أن يرجع إليه من بين الأقطار الإسلامية (الفضل في ابتكار نوع من أنواع الخزف، أو شكل معين من أشكال زخرفته. إذ إننا نلقى كثيرا من هذه الأنواع والأشكال المختلفة بعينها، في أقطار عديدة من العالم الإسلامي).. الفنون الإسلامية، الدكتور ر.م.س. ديماند أمين مجموعة الشرق الأدنى بمتحف المتروبوليتان، نيويورك. وهذا رأي لا أجادل فيه. ذلك أن الفن الإسلامي: يزيد عمره على ألف وأربعمائة سنة، وقد رضع في طفولته ألبانا شتى، وذاق وطعم ما يوافق وجدانه الموحد، ويلفظ ما سوى ذلك! أي نعم هناك خصوصية تطبع الفن الإسلامي من إقليم إلى آخر، لكنها لا تعزلها عن سياق الجذور والسمات العامة لهوية الفن الإسلامي.

        والصومعة المهيبة الشامخة ترتفع إلى مائتي متر. والمئذنة تقف على قاعدة مساحتها ستمائة وخمسة وعشرين مترا مربعا، وقد شيدت القاعدة على هيئة مدخل يفضي إلى قاعة الصلاة أو إلى الميضئة، عبر درج جانبي، وتنتهي هامة المئذنة بقبة بيضاء تحمل مصباحا يومض بأشعة الليزر ليلا. يمكن مشاهدتها على بعد 30 كلم.

        والصومعة "المئذنة" مكسوة برخام أبيض، مزينة بزخرفة جصية يتعاقب فيها اللونان الأخضر والأبيض، وتتواتر الكوات والزخارف المنحوتة والشماسات في كل جهات المئذنة. فبتناغم بليغ يثير الدهشة والفرحة، وبخاصة إذا علمت وعاينت تمايز واجهات الصومعة واختلافها عن الأخرى! وهي مزودة بمصاعد، وهذا أمر طيب. إذ إن صعود درج بعلو مائتي متر: مسألة تحتاج إلى لياقة وشباب، ولا يقدر عليها الشايب إلا بطلوع الروح! وهذا الارتفاع يعد قياسيا يتجاوز علو أي مئذنة في حدود معلومات العبدلله.

80 ألف مصل

        صحن المسجد يمتد بمساحته الرخامية الشاسعة القادرة على استيعاب 80 ألف مصل وهو موصول برواق يمكن المصلين من الخروج إلى الفناء عبره، والرواق يلامس فسقيتين كأنه يتكئ عليهما استجلابا لشربة ماء!

        والفسقية النافورة دخلت في نسيج عمارة المسجد مع تشييد المسجد الأموي بدمشق حيث كانت (القبة التي على بركة الماء، وقد كانت من الرخام وأقيمت سنة 369 وكان لها أنابيب من نحاس قيل في وصفها:

فوارة كلما فـارت فرت لبدى

 

وماؤها فاض بالأنفاس فاندفعا

كأنها الكعبة العظمى فكل فتى

 

من حيث قابل أنبوبا لها ركعا!

          والفوارة في مسجد الحسن الثاني ليست حاضرة في الصحن فحسب.. بل في جل مرافقه.. وجنباته.. ذلك أن الفوارة المبتكرة الشكل والزخرفة والحجم واللون والموقع، لها دور ووظيفة: كأن تجدها مورقة في الميضئة يتدفق منها الماء بإيقاع متناغم مع نور الشمس المتسلل ممتطي الأعمدة المتعالية من أرضية الميضئة: مخترقة الكوة المحتشدة بالنور. الحق أن المرء لا يملك سوى العاطفة تجاه هذا الفيض من ربيع الألوان والأشكال المطرزة بالزخارف الخشبية والرخامية والطينية والزليجية والخزفية والنحاسية وغيرها من المواد والمعادن.

        على سيف بحر المحيط الأطلسي، في الموقع الذي وقف فيه عقبة بن نافع يستخير الله سبحانه وتعالى بشأن الفتح المبين، ويصلي لله توسلا لحضور فتوى القلب: ذلك الرادار الرباني، الذي هداه إلى أقصى غرب العالم حيث تقطن القبائل الأمازيغية المترعة بالفروسية والتمرد وقوة الشكيمة والشجاعة وغيرها من المناقب والصفات التي خلدها التاريخ بعد أن غمر وجدانها الجمعي بتعاليم الإسلام وقيمه، فباتوا. مثل إخوتهم الفاتحين. رهبان الليل وفرسان النهار. فتبربر العرب، ونطق اللسان الأمازيغي بالقرآن الكريم!

        مع دخول الفجر: تتشح "كازا" البيضاء بعباءة أو سلهام أكحل.. أو كليهما! اتقاء لـ "صقعة" الشتاء وبرودته القارسة. فتغيب المدينة في عتمة ما قبل الفجر. فلا ملجأ لك سوى المنارة بوصلة دالة إلى وعلى طريق الخلاص. لمؤذن الشاب الفتي. ببرنسه الأبيض وطربوشه الأحمر، وفقهه ومعرفته، وصوته المموسق الشجي: يحلق. بالمصعد السريع. نحو المئذنة، حيث يشرع في إنشاد التهليلة بإيقاع يتناغم مع اللحن المسبح الحامد، تهتف به جميع مخلوقات الله.

        مشهد المسجد بصومعته الشامخة بنبل كما نخلة مراكشية، ساحر كقصيدة شعر..! كما ترون وفق شهادة الفوتوغرافيا، ببلاغة المشهد ساعة الفجر، تغني عن أي بيان، وتستأهل القنص بعين الكاميرا، إذا عزت المشاهدة العيانية، ولكن أي كاميرا هذه تقدر على ضخامة المئذنة السامقة الارتفاع إلى مائتي متر؟!

        المسجد مشرع للرجال والنساء على حد سواء! ففي القاعة الرئيسية للصلاة المكرسة للذكور تطل على الرائي مشربيتان يعبق من خشبهما أريج الابتكار والإتقان، لتؤطرا الشرفتين المكونتين لمصلى الإناث: اللواتي يمكن لهن الدخول، من الصحن الخارجي إلى المصلى مباشرة ، أو إلى السرداب: حيث الميضئة والحمام الخاص بهن، والذي يمكنه استيعاب 700 مصلية والحمام هنا حمام الاغتسال والراحة بغرف خاصة وخلافه.

        وبمنأى عن مرافق الوضوء والاغتسال، ثمة مرآب يتسع لوقوف 1200 سيارة وحافلة. والمرآب لا ينتسب البتة إلى الكراج القبيح إياه.

        والميضأة: مبهجة يهبط إليها النور وتصل إليها الشمس على حجر تدلكت وهو الحجر الرخامي المجلوب من الجنوب، بقرب مراكش الحمراء، حيث توجد مقالعه. وهذا التدلكت يشيع استخدامه في مثل هذه المرافق في المنازل المغربية، لقدرته على تحمل رطوبة الماء والبخار وأنفاس الطاهرين والمتطهرين! والمغرب الأقصى: غني بالرخام والأحجار والزليج والطين الأحمر والجص الأبيض والخزف وأشجار الأرز وغيرها.

        والمسألة ليست في شجرة الأرز ولا في خشب الساج والأرز، بل حين يكون بين يدي معلم فنان، ورث صنعة الزخرفة الخشبية عن أبيه، والذي بدوره حذقها عن أبيه، وهكذا تتعاقب الأجيال الوارثة لمهنة الأجداد والآباء، شأن جميع المعلمين والصناع العاملين في الصناعات والحرف التقليدية! وهذا الحرص الشديد على توريث فن الصنعة لأفراد الأسرة، قد يكون تقليدا مناسبا منذ ألف سنة! ذلك أن الأجيال الجديدة المعاصرة، لم تعد تحفل بهذا الإرث لأسباب شتى، لا مجال لها في هذا السياق! حسبنا الإشارة إلى ميكنة الصناعات اليدوية، وإنها لم تعد بحاجة إلى معلمة وأساتذة، ومعلمين وخيال وابتكار وتعب وصبر جميل! ذلك أن حمى روح الاستهلاك: ولدت أبناء يهتمون بالشكل والنموذج الذي تبدعه الآلة بالمئات والآلاف على شاكلة ذاك المتشكل بأنامل المعلم.

        ومن هنا فإن العديد من الحرف والصناعات التقليدية في المشرق العربي انقرضت وسكنت في المتاحف والمنازل والبيوتات المريدة للأرابسك وجميع صيغ وتقنيات النقش والزواق والزخرفة الخطية والهندسية الخ. وقد أحسن المغرب صنعا حين أنقذ الحرف والصناعات التقليدية من المصير السيئ الذي لحق بها في جل أقطار المشرق العربي. وذلك حين دعمت وشجعت إنشاء تعاونية تضم المعلمين والصناع والحرفيين المشتغلين في الصناعة التقليدية الواحدة.

موسوعة حية لفن العمارة والزخرفة

        إن قاعة الصلاة: تحضن تقنيات العمارة والزخرفة الإسلامية المغربية الأندلسية، وتضم إبداع المعلمين والصناع البليغ، متجليا. بمشهد مهيب. بزخارفه الخطية والنباتية والهندسية: ملونة، ومذهبة، ومرصعة، ومطعمة، ومفصصة بمواد ومعادن ومزججة. فمثلا: تجد الخط العربي الحاضر أبدا: نقشا في الجص، ومنحوتا في قوام الخشب والرخام، ومرسوما على أي معدن ومسطح وماعون، أو مخطوطا يشكل متن كتاب تراثي عريق، فضلا عن حضوره الدائم في خط آيات وسور القرآن الكريم، محفوفا بالرموز المحددة لأول الآية القرآنية وآخرها، ولعل الخط المديني الكوفي المغربي وخط النسخ هما أكثر أشكال الخطوط العربية حضورا في الكسوة الزخرفية، التي توشي الأسقف والقبب، والجدران والمداخل، والأعمدة والتيجان والمحاريب.. إلخ. لشاهد أن الخط بات من أهم عناصر التشكيل والزخرفة الإسلامية.

شغل المعلم بيلامين

        حالما تدخل قاعة الصلاة: ستلاحظ. غالبا. بعض الزوار: يشخصون بأبصارهم عاليا صوب القبة المستطيلة المبتكرة العامرة بجماليات وتقنيات الزخرفة الخشبية: نقشا وزواقا، ونحتا، وحشوا، وتجميعا: مضرجا بسمت الأصالة وخصوبة المعرفة والخيال، متدفقا بروح العصر وحيوية الابتكار والإتقان الشديد القيمة الإسلامية التي يتوق إليها الفنان المسلم. بل كل مسلم. تأسيا بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن ضرورة الإتقان التام، تجاه أي فعل يقوم به الإنسان المسلم سعيا لمرضاة الله تعالى، مفتاح النجاح والفلاح والشهرة والمجد والصيت العطر في طول البلاد وعرضها، وخارج الحدود في الدول الشقيقة والصديقة والرفيقة، وغيرها فالأجداد لا يورثون الأحفاد دقائق الصنعة وأسرارها فحسب، بل إن الإرث ينطوي على صيت وطني وإسلامي ودولي عطر، وشهرة عامرة للحدود والقارات معمدة ببصمة الجودة والإتقان، موشحة بالأوسمة والميداليات والجوائز وشهادات الإعجاب والامتياز والتقدير.

        هذه الخواطر هبطت علي وأنا أتملى مشهد السقف المزدهر بربيع زواق، يتوسطه حين ينفتح. آليا. خط النسخ يتهدج: بالبسملة ويذكر المولى سبحانه ويدعوه تعالى بأسمائه الحسنى (بسم الله الرحمن الرحيم * و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها) صدق الله العظيم (هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن) وتتجلى أسماء الله الحسنى على الإطار الخشبي المستطيل بجلال تسبح له أنامل المعلم المبدع.

        سألت مرافقنا عن اسم الفنان المعلم الذي أبدع هذا السقف المتحرك المترع بالزخرف الجميل، المشرق بومضة الابتكار؟ قال: إنه "بيلامين"..المعلم "بيلامين" "محمد كمال بيلامين" إن شئت اسمه كاملا! آه نعم نعم عرفته الحاج بيلامين أخبره جيدا. فكل جمعة اعتدت زيارة ضريح محمد الخامس رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. الذي أصبح أثرا معماريا كساه المعلمون والصناع ودثروه بمشاعر حبهم وتقديرهم للمليك الراحل، وجسدوا هذه المشاعر فنا بليغا يغمر جنبات الضريح ومرافقه. هناك تعرفت على الحاج بيلامين إبان عملي بالسفارة بالرباط. أعني معرفتي بفنه وإبداعه. هل يمكن لي مقابلته خلال الأيام القليلة الباقية؟ أجاب "سي عبدالحق" بالجواب المغربي الجاهز على طرف لسان إخوتنا المغاربة (واخة ماكنش مشكل) أي: نعم. ليس ثمة صعوبة ومشكل!

        وما دام الأمر كذلك ، فلنتابع ونتبع خواطرنا حول هذه المعلمة وعن مساحة قاعة الصلاة المستطيلة (200×100 ) متر والمقسمة إلى ثلاثة امتدادات متباينة الارتفاع، القسم. الأشكال، وتتدلى منها ثريات باسمة بهية! والأعمدة غابات رخام وجرانيت ترتفع لعلو 13 مترا، وتحمل تيجانا تعلوها مقرنصات، وأقواسا منحوتة من الجبس متكئة على ساريتين رشيقتين تعتمران تاجا. وفي هذا القسم الصحن يقع السقف المتحرك القابل لأن يشرع آليا لاستقبال نور الشمس! ومساحة السقف المتحرك آليا تبلغ (2600 متر مربع). وإضافة إلى النور المتسلل عبر السقف المفتوح، فإن الأبواب الزجاجية، والشماسات النوافذ المرمرية، والكوات الثلاث المؤطرة بإطار خشبي مقوس تشكل مصدرا جيدا لإنارة المسجد نهارا والجدران مكسوة بالزليج والجبس المنحوت متشكلا على هيئة زخرفية مستلهمة من الزهور وربيع الألوان الذي يذوق الأرض بالزهور البرية الربيعية، إضافة إلى تشكيلات الخط والرسوم الهندسية المتجلية على المرمر، والخشب المصبوغ، والمنقوش، وعلى الجانبين شرفتان تعلوان القاعة لما يزيد على مترين، ويعزلهما عن مصلى الرجال مشربيات تتكئ على ساتر خشبي مترع بالزخرفة الخشبية. والشرفتان المخصصتان للنساء تدلف المصليات إليهما، عبر مداخل خاصة مطلة على الصحن الخارجي ويمكن للنساء استخدام الدرج إذا كن غير راغبات في السلم المتحرك آليا، صوب مصلى النساء، أو الهابط بهن إلى السرداب حيث الميضئة والحمام الخاصين بالنساء.

        وعمارتها مشرقة توحي بـ "النشاط" الوجداني الذي يشعر به المسلم إثر الوضوء. والحق إن مضيئة فاتنة كهذه تحرض المرء على التوضؤ بعد كل نداء يلعلع به المؤذن!. وقاعة الصلاة تتسع لخمسة وعشرين ألف مصل، بينما صحنه الخارجي السعي يمكن له استيعاب 80 ألف مصل، وثمة مقصورة ملكية مجاورة للمحراب، ومقصورة لكبار الزوار.

        إن مسجد الحسن الثاني ، بموقعه على سطح المحيط الأطلسي، مقابل المعرض الدولي للدار البيضاء، ليس جامعا للمصلين الراكعين الساجدين الذاكرين فحسب، بل إنه يتناغم. بدقة وإتقان وابتكار. مع المعنى الذي ينطوي عليه الجامع كمنبر علم ومعرفة تتبدى في المدرسة القرآنية والمكتبة العامة والمتحف. فضلا عن المرافق السالف ذكرها، وتلك التي ستشيد. إن شاء الله. مستقبلا، مجسدة على الأرض المجمع الديني الثقافي الحضاري، الوجه الحقيقي للجامع، أي جامع!.

جامع العمارة

        ويمكن القول: إن هذا المسجد جامع لفن العمارة والزخرفة الأندلسية المغربية الإسلامية، والصناعة التقليدية المتصلة بعمارة المسجد وتأثيثه وكسوته بالزليج والجبس والخشب والمرمر والرخام والجرانيت وتدلكت وغيرها من المواد والمعادن الوطنية والمستوردة، المتجلية ببديع صنع المعلمين المغاربة، وفريد إبداعهم في الزخرفة والزواق، ولعربسة ARABISC. أو الرقش، سمها ما تشاء، بعبارة أخرى أقول إن المسجد الحسني توثيق حي ينبض بروح الابتكار الخارج من رحم إرث الأجداد! وبهذا المعنى فهو جامعة معمارية تعرف . ببلاغة العمارة المغربية المعاصرة، ومستوى الصناعات والحرف اليدوية التقليدية، كما هي متجلية في الأبواب والمداخل والصومعة، والنواقير والجدران، والمنبر والمحراب والقبب، والأسقف والأروقة، وأقواس الصحون والمقرنصات، والأعمدة والشماسات. والكوات، والفصوص الثنائىة المطرزة بالنقش الحلزوني، والخشب المصبوغ الجذل المطرز بالنجوم التي تضيء سطحه، والزجاج الشفاف المذهب و.. واجهات المسجد وعمارة المدرسة والسراديب والسور البحري، والتزاوج بين العصر والمعاصرة، وبين فنون الصناعة والحرف التقليدية الأصيلة وابتكار الأشكال والألوان وإحياء المهجور وبعثه وإعادة صياغته، وذاك الانسجام التام بين الرؤية الهندسية ومعرفة وإبداع وخبرة وخيال معلمي الصناعة التقليدية، وتلك الاستجابة المدهشة لتحديات الموقع ولضخامة واتساع وعلو المعلمة الحضارية ومهامها الدينية والثقافية.

        وكأن هذه المنشأة موسوعة تضم سمات وملامح ومكونات العمارة الإسلامية المغربية: أمس، واليوم مستشرفة الغد شاخصة فيه، مدللة على ما ينطوي عليه الإيمان والإخلاص والإتقان من قوة وإبداع، تجلت ببلاغة عبقريتها في عمارة وزخرفة المسجد الحسني بالدار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية.





سقف المسجد. مزدهر بنقوش ذات ربيع دائم




مسجد الحسين الثاني الأيدي تبدع.. والقلوب تبتهل




شرفة عالية.. مستورة بزخرفة بديعة




صحن المسجد وفي وسطه النافورة الرخامية




قاعة الصلاة الداخلية للمسجد تتجلى فيه تقنيات الزواق والزخرفة




قاعة الاستقبال الخاصة بالحمام العام




الصحن الخارجي للمسجد.. ثراء في الزخرفة




السقف المتحرك آليا تتجلى فيه الزخارف الخشبية المبتكرة والمتقنة التي أبدعها المعلم بيلامين وهي توضح الأثر الذي تحدثه أشعة الشمس لحظة عناقها مع العمارة والزخرفة الداخلية