بلغاريا.. هل ارتدت الشيوعية قناعا جديدا ؟! محمد المنسي قنديل

بلغاريا.. هل ارتدت الشيوعية قناعا جديدا ؟!

برغم أنها قطعة من الجنة - كما تقول الأساطير - إلا أن أهلها قد أدمنوا المراهنات الخاسرة. تحولت أحلام الدولة العظمى إلى معبر للغزاة. وخرجت من ظلمة الحكم الشمولي إلى زمن الحيرة. إن بلغاريا هي بلد الأسئلة الصعبة والتحولات الأكثر صعوبة خاصة وهي عاجزة عن العثور على طريقها الخاص وسط ركام الماضي.

في البدء كان الفلاح.. ولكن ماذا عن النهاية؟.

تقول أسطورة بلغارية قديمة إنه في زمن الخليفة أخذ الله يقسم الأرض بين أجناس البشر التي حضرت جميعا وأخذ كل واحد منها نصيبه، ما عدا الفلاح البلغاري الذي ظل مشغولا بالبذر والري حتى أقبل المساء ولم يبق له شيء من الأرض. ولكن الله كافأه عن ذلك الجد وتلك المثابرة بأن منحه قطعة صغيرة من أرض الجنة.

إن بلغاريا التي تكسوها الخضرة المتدرجة الألوان من الأخضر الباهت حتى العميق كالزمرد تعطيك الإحساس بروح هذه الأسطورة. حقول وغابات وأحراش وجبال مكسوة ونباتات تنبثق من بين الأحجار.

ولكن "ياكوف" الفلاح العجوز من بلدة "زلت كابوك" يقول لنا ساخرا.. " إنها أسطورة قديمة. البلغار الآن يهجرون الأرض لأنها كانت دائما مهنة شاقة. ولم تعد الآن مربحة. وحتى عندما حلت "الكلوخوزات" لم يعد الكثير من أصحاب الأرض ليأخذوا أرضهم.. كل الذين يمارسون الزراعة الآن هم فوق سن الخامسة والأربعين.. لم يعد أحد يريد أرض بلغاريا.. " ورغم ذلك فإن بلغاريا تحاول أن تعيد نفسها إلى أصحابها الأصليين. الكثيرون منهم لم يعودوا. ولكن اليهود عادوا. الذين كانوا قد تركوها أيام قحط الحكم الشيوعي وهاجروا إلى أمريكا وإسرائيل. عادوا يحملون الدولارات التي تساوي الكثير عندما تتحول إلى " ليفات " بلغارية. وفي بلد رخيص نسبيا مثل بلغاريا فإنهم بهذه الدولارات التي لا تقاوم يمتلكون الأشياء بسرعة كبيرة ويرفعون ثمن العقارات إلى عشرات أضعافها.

يقول نيقولاي كاركيريف من مدينة فارنا السياحية الشهيرة "لقد امتلكوا تقريبا شارع ستالين في المدينة ورفعوا الإيجارات إلى عشرين ضعفا وأحيانا إلى مائة ضعف. نحن نأخذ "الليفات" الضعيفة من الحكومة ولكنهم يغرفون الدولارات من خزائن العالم ".

كل شيء يتغير الآن. الأساطير القديمة تموت. الشيوعيون تخلوا عن الحكم حقا ولكنهم عادوا بصورة أخرى. بعضهم قفز إلى مقاعد " الدوما" البرلمان البلغاري، وبعضهم تحول إلى " مافيا " حقيقية تمتلك سطوة المال. لقد استغلوا الثروات التي جمعوها أثناء فترات حكمهم التي استمرت 45 عاما، وكذلك استغلوا الأجهزة البيروقراطية التي مازالت متحكمة في الحصول  على كثير من التوكيلات التجارية واستولوا كذلك على كثير من الأسهم التي طرحت المشروعات للخصخصة وأصبحوا شركاء لا مفر منهم في أي شركة قادمة من الخارج تريد أن تقيم مشروعا في بلغاريا. بل إن حرب البوسنة والهرسك قد أعطتهم فرصة إضافية للثراء فقد احترفوا تهريب الأسلحة إلى الصرب منتهزين الحصار الدولي" وهكذا حولوا الدم الثخين إلى دولارات خضراء.

ولكن دعونا أولا نبدأ أولى خطوات رحلتنا إلى بلغاريا

حذار من الطمع

بعض من الطمع وكثير من المهارة. جعلتنا نقع ضحايا لصوص بلغاريا - وما أكثرهم - في اليوم الأول لوصولنا. لقد أخذنا الصدمة الأولى في بلد انفلت فيها عقال الأمن إلى حد ما. كنا نتجه أنا وزميلي المصور إلى مكان تغيير العملات عندما اعترض سبيلنا بعض الأشخاص وهم يهتفون بالانجليزية: "تشانج" كل واحد منهم كان يمسك رزمة من النقود البلغارية. أخذ أحدهم يلح يعرض علينا النقود بإلحاح، جديدة صحيحة، والأهم من ذلك أن السعر كان مغريا. أعلى بكثير من السعر الرسمي المعروض. وبالرغم من ذلك أننا لم نرض بهذا السعر المغري وطالبنا بسعر أعلى بكثير فما كان من البلغاري الطيب ( على وزن السامري الطيب ) إلا أن وافق على الفور، وكان علينا أن نرتاب في هذه السرعة على الموافقة ولكننا لم نفعل خاصة وقد بدأ يحصي النقود أمامنا. أعطانا النقود فأحصيناها بدورنا، كانت ناقصة. وهو أمر مقصود، أخذها منا مرة أخرى حتى يحصيها ويضيف إليها المبلغ الناقص. وأعطاه لنا وأخذ الدولارات ثم اختفى على الفور. أجل، جرى، هرع، اختبأ. وعندما نظرنا إلى النقود التي في أيدينا اكتشفنا أنه قد استبدلها ببراعة بحيث أخذ كل العملات الكبرى ووضع بدلا منها عملات صغيرة متدنية القيمة لا توازي أكثر من خمس المبلغ.

عبثا أن تحاول البحث عنه. أو أن تستعين برجال الشرطة. فهذا النصاب لم يفعل أكثر من أنه استغل لحظة الطمع التي أصابتنا ومن خلال تلهفنا على إتمام الصفقة قام بهذه الحركة البارعة. فخطف وجرى. إنني أروي القصة لا لأحكي عن خيبتنا فقط، ولكن لأحذر أصدقاءنا العرب من لحظة الضعف هذه. فهم كثيرون. يحومون حولك كالذباب، ومهما اعتذرت أو تهربت أو أوضحت لهم قسوة الدرس الذي تلقيته منهم لا ييأسون ولا يتوقف إلحاحهم.

في فندق "فارنا" كانت هناك تحذيرات أخرى باللغة العربية كتبتها إحدى شركات السياحة المتخصصة في التعامل مع السياح العرب والتي تعرف طباعهم جيدا ومواطن ضعفهم، أول هذه التحذيرات بالطبع هو عدم تغيير النقود في الطريق بأي حال من الأحوال، وعدم مصادقة أحد لا تعرفه ( يقصد الفتيات طبعا ) وعدم ترك الغرفة مفتوحة النوافذ أو ترك أي أشياء ثمينة وعدم حمل مبالغ كبيرة من المال.. إنها كلها مؤشرات مهمة لحالة افتقاد الأمن التي تعيشها بلغاريا..

ولا يتوقف الأمر عند حالات النصب في الشوارع، فعندما ذهبنا إلى الفندق الذي حجزنا فيه في شاطئ الرمال الذهبية القريب من "فارنا" فوجئنا أنه لا يوجد حجز لنا، كنا قد رتبنا هذه الأمور مسبقا ودفعنا ثمن الإقامة مقدما في مكتب الشركة بالكويت، وقضينا فترات من هذا الحجز في مدن أخرى. ولكن فندق فارنا أصر على أنه لا يوجد حجز وأنه كامل العدد رغم أننا كنا في أواخر الموسم. وكانت النتيجة أنهم أنزلونا في فندق آخر أقل من المستوى وأقل في الثمن بطبيعة الحال. وهكذا قامت الشركة هي أيضا بالنصب علينا.

الأمر الذي أثار رعبنا أكثر من ذلك وجعلنا نعجل بالرحيل عن هذا المنتجع الساحر، هو ما حدث في صباح اليوم التالي عندما وجدنا رجال الشرطة في كل مكان حول الفندق المجاور. كانوا يبحثون وسط الأشجار وبين العشب وداخل صناديق القمامة. سألت عاملة الفندق: ماذا حدث قالت: لا شيء طبعا. لم ترضني هذه الإجابة الرسمية. قلت كل هذه الشرطة ولا شيء. هل هناك جريمة. هل هذه المنطقة آمنة؟.. قالت : آمنة طبعا.. قلت: كيف أشعر بالأمان وأنت تخفين عني الحقيقة.. لا بد أن هناك شيئا مروعا قد حدث. قالت وقد ضجرت من إلحاحي: مروعا كلا بالطبع كل ما في الأمر أن شخصا وجد مقتولا داخل الفندق. قلت بالعربية: أفادك الله.. وكان يجب أن نعجل بالرحيل.

المافيا تنهض

لكيلا نكون ظالمين فانتشار الجريمة ظاهرة لا تختص بها بلغاريا وحدها. إنها إحدى سمات العصر الذي نعيش فيه. وإحدى سمات فترة التحول الصعب الذي تعيشه دول أوربا الشرقية السابقة، ومهما قيل عن سطوة المافيا في هذه البلاد فهي أقل بكثير من الموجودة في الدول الغربية. وعلى حد تعبير أحد الخبراء أن المافيا تقتل من بعضها البعض أكثر مما تقتل من المواطنين.

ربما كان ارتفاع نسبة الجريمة يعود بالدرجة الأولى من سطو مسلح. وسرقة سيارات (يقال إنه لا يوجد أي سيارة آمنة في بلغاريا) يعود بالدرجة الأولى إلى فرض الإتاوات وإلى ظهور طبقة جديدة تريد الثراء بأي طريقة في مواجهة دولة لم تقبض بعد على زمام الأمور، ورجال الشرطة يعانون من الأجور المتدنية وعدم امتلاكهم للأدوات العصرية التي تمكنهم من مقاومة الجريمة. في الماضي لم يكن يعلن عن أي جرائم لذلك فلم تكن معروفة النسبة الصحيحة لها.

ولكن المؤكد أنه مع ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع التضخم وانهيار العملة فإن الجرائم ليست في ازدياد فقط بل إن هناك حنينا يتولد داخل النفوس للعودة إلى أيام الشيوعية الطيبة القديمة!.

عندما تسأل أي واحد بلغاري يهتف في حماس "بالطبع لا نريد للشيوعية أن تعود.. برغم كل شيء نحن سعداء بالحرية التي نحن فيها"، ولكن صناديق الانتخابات التي أجريت في شهر ديسمبر من عام 1994 تقول شيئا مختلفا. لقد عاد الحزب الشيوعي الذي أصبح اسمه الآن الحزب الاشتراكي إلى "الدوما" (البرلمان) بنسبة 43.5% وأخذ 125 مقعدا من مقاعد المجلس البالغة 240 مقعدا. بينما لم يفز تجمع القوى الديمقراطية الذي حكم البلاد منذ "الثورة المخملية" في ديسمبر1990 بأكثر من 24% من مجموع الأصوات.. ماذا تعني هذه النتيجة ؟

تروي الأوساط الدبلوماسية في صوفيا حادثة وصول مستشار الأمن الأمريكي السابق بريجنسكي إلى بلغاريا ليلقي محاضرة في مؤسسة الحرية والديمقراطية وهي إحدى المؤسسات التي يرعاها الغرب في صوفيا. وقبل المحاضرة بساعة اتصل السفير الروسي ليقول إنه لن يستطيع الحضور. وبعده بنصف ساعة اتصل رئيس الوزراء البلغاري ليقول إنه لن يأتي أيضا، ثم تلاه تليفون من وزير الخارجية يقول نفس الشيء. وفي المحاضرة كانت هناك ثلاثة مقاعد خالية في مقدمة الصفوف. لقد بدا واضحا من تتابع المكالمات بهذه الوتيرة أن هناك إعلانا خفيا عن عدم الرضا عن أعمال هذه المؤسسة، وإعلانا واضحا عن استعادة روسيا لدورها المؤثر في بلغاريا.

لقد استطاعت الأحزاب الشيوعية التي أعادت تكوين نفسها تحت أسماء أخرى أن تستعيد بعضا من قوتها في المجر وبولندا وليتوانيا وهو نفس الشيء الذي حدث للحزب البلغاري الذي تميز دوما باتجاه الستاليني القوي وظل يقوده إلى أواخر أيام تودور جيكوف حتى أصبح خارج السلطة عام 1990 نفس الحزب عاد إلى السلطة بعد أربعة أعوام فقط دون أن يعتذر عن أخطاء النظام السابق، فهو مازال مصرا على نظام التأمين الجماعي وعلى النظر بحذر إلى آليات السوق الحرة وعلى تتبع أثر خطا روسيا في السياسة الخارجية ومازال هذا الحزب يتمتع بجاذبية شديدة بين أوساط الفلاحين والمناطق الفقيرة.

والتعاطف بين روسيا وبلغاريا ليس غريبا، فالاثنان معا ينتميان إلى الأصول السلافية والديانة الأرثوذكسية ويستعملان نفس الأبجدية السيرلية، واللغتان متشابهتان إلى حد التطابق. كما أن العلاقات التجارية بين بلغاريا والاتحاد السوفييتي سابقا كانت تصل إلى 70% من مجمل الصادرات والواردات البلغارية. وأكثر من ذلك أن الكثير من البلغار يحملون في أعماقهم مشاعر الامتنان للإمبراطورية الروسية التي حررتهم من سيطرة الأتراك عام 1887 وما زال تمثال قيصر الحرية ألكسندر الثاني يحتل أهم ساحات صوفيا أمام مبنى البرلمان وكاتدرائية ألكسندر نيفسكي. وطوال فترات الحكم الشيوعي وسعار الحرب الباردة لم تعترض بلغاريا أو تحتج ولم تحتج لأي تدخل مسلح ولم تظهر فيها حركات الانشقاق، كانت دائما تابعا مطيعا ومعجبا. وحتي عندما ثارت الجماهير في "الثورة المخملية" في ديسمبر 90 كان ذلك بتخطيط من رجال مخابرات جورباتشوف الذين كانوا يوجهون الجماهير من خلال أقنية السفارة السوفييتية.

ولكن كيف استعاد هذا الحزب العتيق قوته الجديدة ؟

بلغاريا تتحدث عن زان فيدنوف السياسي السهل الممتنع البالغ من العمر 38 عاما فقط، والذي قاد الحزب الاشتراكي إلى الفوز في الانتخابات الماضية. إنه سياسي محكوم بالحنين إلى الماضي والأيام الطيبة القديمة، ولكنه يعلم جيدا عدم قابلية رجل الشارع لصورة الحزب القديمة وحكمه الشمولي. لذلك فهو يلعب بذكاء مستفيدا من فشل الاتحاد الديمقراطي في حكم البلاد فقد قاد البلاد من حالة سيئة إلى حالة بائسة. انخفضت فيها حالة الإنتاج الصناعي وتخلفت، وأصيب الإنتاج الصناعي الذي كان مزدهرا دوما بهزة عنيفة. وأصبح معدل البطالة 30 % وارتفع التضخم إلى 121 % وأصبح المتقاعدون وأرباب المعاشات الثابتة يعانون من وضع بائس بعد أن تدهور وضع "الليفا" البلغارية.

معدلات الجريمة التي ارتفعت شملت كل شيء. الاتجار في السوق السوداء، تهريب المخدرات إلى باقي أوربا، بيع الأطفال في ألمانيا، ارتفاع نسبة الدعارة إلى حد ملحوظ. وقد استغل الشيوعيون القدامى كل هذه الظواهر، واستطاع فيدنوف خلال فترة قصيرة أن يدعم جهاز الخدمة المدنية الذي كان منهارا، وأن يعيد تقوية أواصر التجارة الخارجية مع روسيا ويصدر كتابا أبيض يصف فيه كل من يهاجم الشيوعيين بأنهم "طفيليون" وضد القومية البلغارية.

الدبلوماسيون الغربيون في صوفيا يرسلون تقارير تحذيرية من أن بلغاريا تعود مجددا إلى دائرة النفوذ الروسي، ولكن هناك حدودا لنفوذ الشيوعيين الجدد، فإن الرئاسة مازالت في يد الرئيس الليبرالي زليوزيليف الذي يتمتع بشعبية كبيرة.

إن وعود الرخاء مسألة صعبة التحقق في أوربا الشرقية، وهي أكثر صعوبة في بلغاريا، فلم تتم خصخصة سوى 34 مؤسسة من مؤسسات الدولة الضخمة والمتوسطة الحجم.

وحتى هذه المؤسسات التي جرى خصخصتها لم تدر بواسطة أجيال جديدة ذات فكر جديد. ولكن بواسطة نفس الطبقة الشيوعية التي كانت تحكم كل شيء.

أوضح نموذج لهذه الطبقة هو "اليابافلوف" رئيس مجموعة من أكبر المؤسسات البلغارية الخاصة، إنه مصارع سابق، متزوج من ابنة رئيس الاستخبارات العسكرية سابقا، وقبل ذلك كان يعمل على تزويد الغواصات السوفييتية العاملة في البحر المتوسط باحتياجاتها من خلال إقامته في "مالطا". إن المؤسسات التي يديرها فيها حوالي 3500 موظف وعامل، وتمارس أنشطتها في كل شيء تقريبا، في الزراعة وقطع غيار السيارات والسياحة والإلكترونيات بل وتمتلك كازينو ضخما للقمار في دولة بارجواي. إن شركاته تلعب اللعبة المزدوجة التي تمارسها كل الشركات الجديدة التي تكونت في أوربا الشرقية، إنهم يشترون المواد الخام في شركات الدولة بأسعار بخسة بمساعدة أصدقائهم من البيروقراطيين الذين مازالوا يحكمون. ثم يبيعون المواد المنتجة بأسعار عالية وهم بذلك يكسبون مرتين.

ترامات وفتيات

ولكن مهلا أيها السادة.. إننا لم نبدأ جولتنا بعد، ورغم كل ما قلناه فلم نشاهد المعالم الحية لهذا البلد الذي هبطنا إليه. المدن كثيرة وأوجه الحياة متنوعة، وغم صغر مساحة بلغاريا فلكل منطقة طابعها الخاص.. لقد كنا نلهث وهذا دأب استطلاعات العربي.. تظل تلهث طوال زيارتك ولا تحس بلحظات المتعة القليلة إلا أثناء الكتابة.

حسب التواريخ البلغارية فإن عمر العاصمة بلغاريا يعود إلى خمسة ألآف عام، ولكن لا تبدو فيها شواهد قوية لهذا التاريخ الطويل. إنها حقا مدينة عتيقة بمقاييس العواصم ولكن من فرط الكآبة لا من فرط القدم، يعود اسمها لكنيسة سانت صوفيا القديمة حيث تقول الحكاية أن أميرة رومانية اسمها" صوفيا" كانت تعاني من مرض عضال حار فيه الأطباء وعجزت أمامه الأدوية، وأشاروا عليها بأن تذهب إلى هذه المنطقة التي تمتلئ بعيون المياه المعدنية الدافئة. وجاءت الأميرة وشربت المياه وحدثت المعجزة وشفيت من مرضها فبنت الكنيسة وأعطت المدينة اسمها. هذه الكنيسة مازالت قائمة وعندما كنا هناك في السادس عشر من سبتمبر الماضي كانت المدينة تحتفل بعيد ميلادها حول الكنيسة.. كذلك فإن المياه المعدنية مازالت تتدفق من صنابير كثيرة تتصل بالعين الموجودة تحت الأرض.

الترامات الصفراء القديمة تقطع المدينة طولا وعرضا، إنها أنسب وسيلة للمواصلات لأنها مازالت رخيصة وتصل إلى كل مكان، رحلتنا وسط المعالم التاريخية قصيرة لأن صوفيا فقيرة من هذه الناحية. في وسط العمارات يوجد مبنى متداع غير واضح المعالم يقال إنه بقايا التحصينات الرومانية القديمة. وعلى مقربة منها يرتفع نصب الاستقلال لقيصر الحرية ألكسندر الثاني وأمامه مبنى البرلمان الصغير. وواضح أن سبب صغره يعود إلى أنه لم يكن يستخدم كثيرا في السابق، وخلفه توجد كاتدرائية ألكسندر نوفسكي بقبابها الخضراء التي تشاهد من كل مكان فالمدينة يلتف حولها العجائز وهم لا يكفون عن غزل المفارش والدانتيلا تكون حركات أصابعهن منمنمات رائعة.. وبجوارهن بائعو المصنوعات والتحف الشعبية. أشهر هذه التحف هي الدمية الروسية الشهيرة "ناتاشا"، دمية كبيرة داخلها دمية أصغر، داخلها دمية أصغر وأصغر وهكذا. لقد اتخذت هذه اللعبة طابعا سياسيا .. فالدمية الكبيرة أصبحت تحمل وجه جورباتشوف في داخلها برجنيف، وداخله خرشوف وداخله ستالين ثم لينين حتى نصل إلى أشد الدمى ضآلة والتي تمثل كارل ماركس.

غير بعيد عن هذا السوق توجد رموز العهد الشيوعي الواقعية. نفس الشوارع التي شهدت زحف القوات السوفييتية المنتصرة بعد الحرب العالمية الثانية عادت لتشهد بعد 45 عاما زحف الجماهير لإسقاط هذا الحكم، مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يبدو مهيبا وتعيسا، هبطت النجمة الحمراء من فوق قمته، ورحل حرس الشرف وبقي المبنى خاليا تعلوه الأتربة وتبدو من النوافذ آثار الحرائق التي اشتعلت في أروقته. إنها آخر الحرائق التي أشعلها أعضاء المكتب السياسي وهم يحاولون إحراق الملفات الخاصة بأسرار الحزب حتى لا تقع في أيدي الجماهير الغاضبة.

الشارع يمتد إلى ساحة الاحتفالات الرسمية. المنصة الشبيهة بمنصة "موسكو" الشهيرة. حيث كان يقف قادة الحزب في الاستعراضات الرسمية، المنصة خالية الآن من المؤكد أن كل المنصات كانت شؤما على أصحابها، تحت المنصة يوجد قبر"جورجي ديمتروف" الأب الروحي للحزب الشيوعي البلغاري، وأول رئيس وزراء لبلغاريا بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ وفاته في عام1949 تم تحنيط جسده على غرار جسد الزعيم لينين ، ووقفت أمامه طوابير الآلاف من الزوار يحملون الزهور ليلقوا عليه نظرة الوداع. القبر الآن مغلق، لم يعد هناك زوار ولا حراس للشرف. إنها فرصة أخيرة كي ينام الجسد في سلام وينعم بسكينة التحلل.

صوفيا هي أكثر العواصم الاوربية اخضرارا. حدائقها واسعة وكثيفة كالغابات. وجبل فيتوشا الذي يطل عليها يتحول الى ساحة رائعة للتزلج شتاء. وشعبها عاشق لشيئين لا تستطيع إلا أن تبدي إعجابك بهما هما الازهار والكتب. في كل مكان تجد أكشاك الأزهار وطاولات الكتب كلاهما يزاحم الآخر. شد ما يأسرني مشهد السيدة العجوز وهي عائدة الى بيتها تحمل  رغيفا ضخما من الخبز في يد وفي اليد الأخرى باقة صغيرة من الزهور. أما طاولات الكتب فهي حافلة بكل الأنواع. رغم أنها مكتوبة باللغة السيرلية الغربية إلا أن الأغلفة تبين أي نوع من الروايات هي. بطبيعة الحال يغلب عليها طابع الإثارة.. الإثارة البوليسية والحسية.

وفي الماضي كانت بلغاريا هي الدولة الشيوعية الوحيدة التي ابتكرت عميلا شرقيا ينافس العميل الغربي "جيمس بوند"، كان يقوم بنفس ألاعيبه تقريبا من مطاردة الجواسيس إلى إحباط المؤامرات التي يدبرها شريرو المجتمع الرأسمالي. أساطير العميل السري "ديمتروف" قد أصبحت ترقد الآن في أحضان الكتب ومن الواضح أن خططه كلها قد باءت بالفشل.

إن كثرة الكتب وتنوعها تؤكد ذلك الشغف العالي بالقراءة. وهم يعانون من نهم شديد لمعرفة كل صنوف المعرفة التي حرموا منها طويلا، وأبلغ دليل على ذلك هو الشغف بكتب "الكمبيوتر" ورغم أن هذا الأمر قد أصبح نوعا من الهوس العالمي إلا أنه في بلغاريا يحتل جانبا أكبر، على حد تعبير ماجي بتروف التي تعمل في هذا المجال"، إنه بالنسبة لنا أشبه بحائط برلين. فقد كنا طوال السنوات الماضية نتعلم وفق النظام الشرقي.. إننا نحاول الآن اختراق النظام الغربي بكل ما فيه من برامج.."

وتبدو صوفيا مدينة غير باهرة، معتمة ليلا إلى حد كبير، اقتصادهم في استخدام الطاقة يجعلك تتعثر في الطرقات، لا توجد فيها تلك الإعلانات الضوئية الكبيرة، ولا تهتم المحلات بإنارة واجهات العرض. " إننا نبدأ ببطء " كما قال لي أحد العجائز، المحلات تحطم ديكورات الخمسينيات والستينيات وتضع لمسات من الديكورات الأمريكية بكل ما فيها من مرايا وأضواء.

كل واحد الآن يبحث عن مشروعه الخاص. البعض فتح شقته القديمة وحولها "بالعافية" إلى محل تجاري يطل على الشارع. والبعض استخدم بدروم البناية وجعل منها مكانا لبيع المشروبات والأغذية وعلى الزبون الذي يريد الشراء أن ينحني كثيرا حتى يستطيع التفاهم مع صاحب المحل.. والبعض الآخر وضع مشروعه على قارعة الطريق.. مأكولات سريعة. ماكينة للآيس كريم، زهور، بل إن البعض يقف حاملا جهاز ضغط الدم ليقيس به ضغط دمك لقاء عدة "ليفات".

الوجوه التي تقابلها تفصح عن جيلين متباعدين. جيل العجائز، الحرس الشيوعي القديم، ملابس الستينيات القديمة الداكنة، تلك النظرة الحائرة في الوجوه أناس اكتشفوا وجودهم فجأة في عالم غريب، إنهاك وتعب حول الملابس التي يرتدونها إلى جزء من جلودهم، من النادر أن يتحدث هذا الجيل بالإنجليزية. ورغم ذلك قالت لي امرأة عجوز بإنجليزية متكسرة " على الأقل نحن كنا نعمل.. أما هؤلاء الذين يتحدثون عن الحرية والديمقراطية فلا يقومون بأكثر من الثرثرة".

إنها تعني الجيل الجديد. الأصغر سنا والأكثر جمالا وفتوة وانطلاقا وحبا للحياة المفتوحة. إنهم يجلسون في الحدائق والمقاهي طوال اليوم. لا فرق بين أوقات الدراسة أو العمل أو الإجازة. يزحمون الأرصفة بالثرثرة والقبلات. يرتدون أحدث الموضات.ثياب الفتيات قصيرة إلى حد مرعب. سيقان طويلة وملساء دون ترهل، ووجوه نضره تشع بالأمل، وتشي باختلاط الأعراق المختلفة في هذه البقعة الضيقة من الأرض.. خلطة السلاف والأتراك والغجر والأرمن واليونان والمقدونيين. كل هذه الجذور الأثينية المتنوعة أعطتهن ذلك الجمال المتميز. لا وجود للشقرة الأوربية النادرة. صيف بلغاريا الذي هو أطول صيف في أوربا قد منح هذه الأجساد الفتية دفئا خاصا.

وسط كل هذا الضجيج الحي تقف النصب التذكارية. بقايا فنون الواقعية الاشتراكية. نصب هائلة ولكنها جامدة. مليئة بتعبيرات الصمود والتحدي والارادة التي تبدو جوفاء من فرط تجريدها. شموخ زائف. وقشرة زائفة للثقة المفتقدة بالنفس. اختصار مميت لكل التفاصيل الإنسانية. افتقاد لنزوات الفن وجنونه وجنوحه. أقف أمامها متأملا وحائرا. كيف افتتنا سنوات طويلة بهذا النوع من الفن.. هل أصابتنا الشيخوخة فأصبحنا نحن إلى الفن بكل مقاييسه الكلاسيكية.. أم أن سقوط الأقنعة السياسية قد رفع عنا غشاوة الإحساس بالفن والجمال. إنه عصر مضى حقا بكل ما فيه من أحلام ورموز.

قلب التاريخ وقلب السياحة

"بلوفديف" هي القلب التاريخي لبلغاريا وهي أيضا ثاني مدنها تبعد عن العاصمة حوالي 120 كيلو مترا. وتحتل مكانا متميزا وسط سهول ثيركيان في نقطة الالتقاء بين شرق أوربا وغربها. ولعل هذا هو سبب غناها التاريخي، بنيت على ستة تلال على ضفاف نهر "مارتيسا".

أهم أثر فيها هو ذلك المسرح الروماني المدرج.. مسرح متكامل وفي حالة جيدة وتقدم عليه العروض المسرحية أيضا. ثم ترتفع بنا تلال المدينة إلى قلبها القديم، أحياء كاملة من القرن السابع عشر والثامن عشر. شواهد على الازدهار الذي شهدته هذه المدينة التي تعتبر مركزا تجاريا مهما والتي تشتهر بصناعة التبغ والمعادن والمنسوجات. من الداخل تبدو البيوت تحفا فنية كلاسيكية، تجمع في الأثاث كل لمحات الموضات التي كانت سائدة في ذلك الوقت.. الثياب الشعبية.. الأسقف المنقوشة التي تتوسطها دائما شمس مشرقة محفورة على الخشب.. التجوال وسط الأزقة الضيقة ووسط البيوت الزاهية الألوان يعطيك الإحساس ببعض من دفء الشرق. بيوت التجار الأتراك واليونانيين وقد تحولت إلى متاحف مفتوحة. بعضها عاد إلى أصحابه الأصليين والبعض الآخر - التي لم يطالب بها أحد تتولاها الدولة.

وربما كانت فارنا هي المدينة التالية في بلغاريا. ولكنها بلا شك أشهر هذه المدن. حتى أن الكثيرين يعرفونها ككيان منفصل. والكثيرون زاروها واكتفوا بزيارتها كإحدى رحلات العمر دون أن يعرفوا أنها جزء من هذا البلد. إنها الرئة التي ظلت تصل بلغاريا بالعالم حتى في أشد سنوات الانغلاق. وهي التي تحملت دائما عبء إنعاش الاقتصاد وإمداده بالعملات  الأجنبية. المدينة جميلة. قلبها القديم يضج بالحياة والجمال. ومتحفها أجمل بكثير من متحف العاصمة صوفيا. كانت دائما هي موطن الاكتشافات الأثرية لأنها كانت نقطة العبور التجارية والحضارية. ولكن الأجمل منها هو شواطئها التي تمتد على ساحل البحر الأسود، ورغم أن هذا البحر هو بحر متجهم كما يحمل اسمه. لا تعيش في جوفه الأحياء المائية كثيرا، ولا يرحب بها، إلا أنه على ضفافه توجد أجمل شواطئ أوربا وربما العالم كله. والمنتجعات العالمية بها تقوم وسط غابات كثيفة تطل على هذه الشواطئ. هذه الغابات هي هدية الأمطار الموسمية التي تبدأ من منتصف شهر سبتمبر حتى آخر أبريل. وقد شقت الطرق وسط هذه الغابات وأقيمت مجموعة ساحرة من الفنادق والمطاعم والملاهي الساحرة المليئة بكل ألوان المتعة. إنها تمثل واحدة من أكبر الاستثمارات السياحية في أوربا. ففي منتجع الشواطئ المشمسة يوجد حوالي مائة فندق تحيط بها مساحات الخضرة والبحيرات وملاعب التنس والجولف. وفي منتجع الشواطئ الذهبية يوجد حوالي سبعين فندقا وكذلك الحال في البينا. إنها رحلة لا تنسى وهي لا تمثل بالنسبة لك انفصالا عن مشاكل بلغاريا فقط ولكن عن مشاكلك الشخصية أيضا.

فاطمة تغير اسمها

في عام1985 قمت بزيارتي الأولى لبلغاريا. كانت زيارة سياحية بسيطة لشواطئ فارنا. ورغم ذلك فقد فرض واقع المحنة التي يعيشها المسلمون في بلغاريا نفسه على رحلتي. كانت هذه هي ذروة سنوات طويلة من الاضطهاد العرقي والديني ضد المسلمين الذين كانوا يمثلون عشر المجتمع البلغاري البالغ عدده 8.7 مليون نسمة .

أحسست بهذه المحنة حين وقفت أمام المسجد الصغير المغلق بالأغلال الصدئة في مدينة "بلشيكا". كان منزويا بمنارته المستدقة. والنقوش الباروكية التي تحيط بواجهته ، والنباتات المتسلقة والبرية تحيط به ، تجعله أسير زمن قاس لا يرحم.

أجراس الكنائس كانت تدوي، تقام فيها الطقوس وتعقد فيها الزيجات ويعمد على مذابحها الأطفال وترتفع منها الترانيم مختلطة بأعواد البخور. والمسجد تحيط به ألواح من الرخام مثل شواهد المقابر. صامتة ومتربة وكئيبة. مكتوب عليها بالحروف العربية أدعية وآيات وأسماء. وقالت لنا المترجمة في تحد"من الطبيعي أن تفتح الكنائس لأنها هي التي حافظت على شخصيتنا وثقافتنا القومية. أما المساجد فهي لا تذكرنا إلا بأيام الذل تحت نير الاحتلال التركي".إن الأتراك قد رحلوا عن بلغاريا منذ قرن ونصف قرن من الزمان. ومع ذلك فالثارات ما زالت متأججة

في الطريق إلى مدينة "تولنجن" التجارية الشهيرة في الجنوب جلست بجانبي فتاة جميلة. سوداء الشعر ذات ملامح شرقية. قالت بالعربية "والله العظيم" إنها الشفرة السرية للمسلمين. أخذت تحدثني بكلمات هي خليط من العربية والإنجليزية. اسمها فاطمة ولكن عليها أن تخفي هذا الاسم وتتسمى باسم مسيحي وأن تعمد وتعلن ارتدادها حتى تستطيع أن تعيش آمنه وأن تجد وظيفة، كان حالها هو حال حوالي 80 ألف مسلم بعضهم من أصل تركي وبعضهم سلافي. في هذه الأيام وقبل حديثي مع فاطمة كان أهالي قرية. "بابلامونو" المسلمة والواقعة وسط جبال سانارا بالاتينا في وسط بلغاريا قد أعلنوا تمردهم في وجه الحكومة المركزية التي كانت تضطهدهم وتحاصرهم. وعندما فشلت قوات الشرطة المحلية استعانت بالجيش الذي حاصر القرية بالدبابات وقتل في ليلة واحدة أكثر من 400 شخص، مذبحة "بابلامونو" أثارت العالم كله وكشفت عن الحقيقة المأساوية التي يعيشها مسلمو بلغاريا، لقد قتل منهم منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات أكثر من 150 ألف شخص وتم دفعهم قسرا إلى الحدود التركية بغية التخلص منهم، فاطمة كانت يائسة. تحاول أن تجد حلا في الهروب أو الهجرة أو الاختفاء.

هل تغيرت الصورة في الزيارة الثانية بعد مرور عشر سنوات؟ هل انطوت صفحات تاريخ الأحقاد الطويلة على كل ما هو مسلم وربطه بكل ما هو تركي بعد انهيار نظام الحكم الشيوعي؟

التاريخ يعيش بشكل مرعب في وجدان البلغار. تاريخ يغذيه الإحساس الدائم فإنهم كانوا يستحقون من الأقدار مصيرا أفضل، ولكن كل شيء قد تحالف ضدهم حتى تجعلهم دولة أوربية من الدرجة الثانية، لقد حرموا من الاستقلال في كل عصورهم، ولم يستطيعوا أبدا استعادة حدودهم التاريخية التي تضم مقدونيا وكلما أقاموا منارة مضيئة هبت الريح العاتية وأطفأتها.

في المتحف الوطني للتاريخ بصوفيا يبدو هذا الإحساس واضحا. وتزيد الكلمات المترجمة من تأكيده. إن كل الشعوب معجبة بتاريخها، ولكن في بلغاريا يبدو التاريخ في آثار ضئيلة متناثرة في متحف واسع (نصفه متحف ونصفه الآخر محكمة للأحوال الشخصية) تغلب عليه الظلمة، آثار قليلة من الصعب استنطاقها بكل هذا التاريخ الطويل."ولكن الأتراك دمروا كل شيء". عليك أن تسمع هذا القول دائما وراء كل سؤال.

هذه هي آثار الحضارة الثوركية ، أقوام الرعاة الذين قدموا من آسيا الوسطى واستوطنوا هذه الأرض، لم يتركوا خلفهم الكثير. أوان من الخزف عليها رسوم تشبه الخطوط الإغريقية، وبعض العملات كأنها أصداف البحر المليئة بالرمال، يقال إنهم كانوا شديدي البأس، قاوموا الإسكندر المقدوني. وقاوموا قبائل "الكلت" القادمة من الشمال ولكنهم خضعوا مثلما خضعت أطراف العالم القديم لسطوة الدولة الرومانية.

طوال هذه السنين وهم كيان غير مميز. أقبل إليهم السلاف واختلطوا بهم. وحلت في السهول قبائل الغجر. وبقيت بينهم فلول من البرابرة الذين غزوا الدولة الرومانية. وعندما انقسمت هذه الدولة الى شرقية وغربية. فضل هذا الكيان الانضمام إلى الدولة الشرقية أي الدولة البيزنطية. وما لبث هذا الكيان أن اكتسب قوته الذاتية واستطاع أحد حكامهم "خان كروم" أن يرغم الدولة البيزنطية على عقد معاهدة صلح في عام 681. ونلاحظ أنهم قد أخذوا لقب "خان" من جذورهم الآسيوية البعيدة. وكان هذا إيذانا بمولد الدولة البلغارية الأولى التي ظلت وثنية لمدة عقدين من الزمن ثم بفضل "خان بوريس" دخلت إلى المسيحية الأرثوذكسية.

أيها الأتراك.. ماذا فعلتم؟

منذ هذا التاريخ البعيد وقد بدأت هواجس بلغاريا الكبرى. بدأ "الخانات" يبحثون عن المزيد من النفوذ والأرض، ورغم أنهم كانوا يدينون بنفس مذهب الدولة البيزنطية إلا أنهم لم يحلموا بأقل من الاستيلاء عليها. وهكذا حاول "الخان سيميون" أن يستولى على القسطنطينية لتكون عاصمة بلغاريا الكبرى ولكنه فشل ومني بهزيمة مروعة، واحتلال بيزنطي دام قرنين من الزمن. في عام 1185 ظهرت بلغاريا كدولة للمرة الثانية حين استطاع الأخوان"بيتر وآسين" المشكوك في أصلهما البلغاري الثورة على البقايا البيزنطية المنهارة وأن يقيما دولة تأخذ من مدينة (تارنافو). مدينة الأشواك. عاصمة لها. لقد نجحا أخيرا  وامتدت رقعة الدولة البلغارية من البحر الأسود شمالا إلى الأدرياتيكي جنوبا. ولكنهم كانوا هذه المرة قد أثاروا عداء جيرانهم الصرب الذين لا يهدءون ولاينسون. ولم تعمر هذه الإمبراطورية طويلا. تفككت إلى مدن صغيرة متناحرة وذاب اسم بلغاريا مرة ثالثة. وبزغ نجم الصرب. وبزغ نجم أخر هو نجم بني عثمان الذين تجمعوا من سهوب آسيا الوسطى ليكونوا أقوى قوة عسكرية شرقية شهدتها أوربا. ووجد البلغار أنفسهم بين فكي الرحى. الصرب والأتراك. وكان عليهم أن ينحازوا لجانب منهما فانحازوا للصرب. رهان خاسر آخر. لقد تلقى الصرب هزيمة قاسية على يد الأتراك في معركة كوسوفو عام 1389 ووجدت بلغاريا نفسها مهزومة مرة أخرى.

استسلمت المدن البلغارية الواحدة إثر الأخرى أمام قوات العثمانيين الزاحفة. لم تقاوم سوى مدينة "تارنافو" التي حاصرها الأتراك ودكوها بمدافعهم قبل أن يدخلوا إليها وخربوها. ومع طلقة المدفع الأخيرة تحولت بلغاريا إلى ولاية عثمانية لمدة 500 عام..

عاشت بلغاريا في فترات استقلالها القصيرة عهودا زاهرة أشبه بالأحلام. ازدهرت فيها الآداب والفنون وزينت جدران الكنائس بلوحات الفنانين. وكانوا أسبق من في أوربا للكتابة باللغة المحلية. وقد اخترع راهبان هما سيرسل وميثوديس أبجدية خاصة للكتابة هي "السريلية" التي يكتب بها الآن البلغار والروس والصرب والكروات.. وفي المتحف الوطني توجد قاعة خاصة لكتابة هذه الأبجدية ويوجد بها أيضا أقدم كتاب بلغاري كتب بهذه اللغة.. هذا ما بقي من كل هذه الفترات البعيدة..

لا شك أن الأتراك كانوا قساة. وقد عانينا نحن أيضا من هذه القسوة رغم أننا نتشارك معهم في الدين، ولكن الأمر لم يكن صراعا دينيا بقدر ما كان استعمارا استبداديا. ولكن الذي لا شك فيه أن الأتراك لم يطمسوا كل شيء. فقد بقيت الكنائس والأديرة. وبقيت المدارس واللغة البلغارية والشخصية القومية. بقي من بقي على دينهم. وظهر أيضا من يريدون دخول الدين  الجديد. ولا شك أن ازدياد عدد المسلمين كان يمثل خسارة مادية للحكام الأتراك. فالمسيحي عليه أن يدفع الضريبة بينما المسلم لا يدفعها. بل إن كثيرا من البلغار كانوا يدفعون ضريبة "اللحم الحي" عندما كان الجنود الأتراك يدهمون بيوتهم فيأخذون الأولاد الذكور الحديثي الولادة وينقلونهم إلى تركيا حيث تطمس أسماؤهم وشخصياتهم ويربون حتى يكونوا طبقة عسكرية محاربة هي "الإنكشارية" التي خرج منها القادة والوزراء الذين رفعوا الدولة العثمانية عاليا وقادوها للهلاك أيضا.

الحق أن الأتراك لم يقوضوا دولة متماسكة ذات شخصية. ولكنهم غزوا مدنا منتاحرة، الكثير من أرضها مقفر لا يسكنه أحد. واقتصادها صفر. وقد بعثت إدارتهم في أول الأمر في أرجاء هذه الدولة بعضا من الأزدهار. بل إن استبدادهم ساهم في بعث روح التحدي في نفوس الأهالي فبحثوا عن شخصيتهم الخاصة وثقافتهم.

كان الأتراك طغاة. ولكن الإسلام ليس دين طغيان، والإسلام ليس دينا حكرا على الأتراك، وليس كل مسلم تركيا يجب استئصاله. لقد كره البلغار الطربوش، والحمامات التركية، وشكل الهلال وقاموا بتمردهم الأول في عام 1416 إلا أن السلطان محمد الأول بطش بهم وسحق التمرد بقسوة. واستمرت أمورهم في شد وجذب حتى وهنت عظام الدولة العثمانية وأصبحت رجلا مريضا. وفي عام 1875 قام ستيفان ستامولوف بقيادة تمرد كبير ضد الأتراك وتدخلت روسيا لمساعدته وقد أدى هذا إلى اندلاع الحرب الروسية التركية وانتهز البلغار فرصة هذه الحرب للمطالبة باستقلالهم حتى حصلوا عليه وفق معاهدة الصلح الروسية التركية في مارس 1878.

وأيها البلغار.. ماذا فعلتم ؟

عندما حدث هذا الاستقلال كان عدد المسلمين في بلغاريا أكثر من عدد المسيحيين ولكن عمليات الثأر ومصادرة الأراضي والمطاردات لم تهدأ. بدأت هجرات المسلمين المتوالية هربا من المذابح، أغلقت المساجد والمدارس والتكايا، وساهم في الاضطهاد أيضا الاختيارات الخاطئة التي دأبت بلغاريا على اختيارها.

لقد اشتعلت حرب البلقان في المرة الأولى عام 1912 حين حاولت إعادة رسم حدودها وضم مقدونيا إليها وانضمت إلى الألمان في أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1915 حتى تساعدها في استعادة حدودها "التاريخية" ولكنها هزمت.. وعادت مرة أخرى لتنضم إلى ألمانيا في الحرب العالمية الثانية عام 1941 سمحت بنزول قوات النازي إلى أراضيها وهذه المرة أعلن الاتحاد السوفييتي الحرب على حكومتها الموالية للنازية وقدم المساعدة للحزب الشيوعي المعارض حتى هزمت ألمانيا واستولى الشيوعيون على الحكم عام 1946.

بدأت محنة المسلمين الحقيقية تحت هذا الحكم الذي رأى في الإسلام أيديولوجية منافسة لأيديولوجيته - على حد تعبير الكاتب البلغاري سيبستان آشر- فقد اعتبر المسلمين طابورا خامسا لتركيا ينبغي القضاء عليه، وتزايدت قوة هذا القمع من بداية الستينيات حتى أواخر الثمنينيات حين فتحت الحدود مع تركيا وتكدس المسلمون في مخيمات بائسة على الحدود.. وقد ظل الوضع مأسويا حتى حدثت التغيرات الأخيرة.

في العاصمة صوفيا لم يبق إلا مسجدان فقط. تحول أحدهما إلى متحف لفنون العمارة. وظل الثاني منتصبا غريبا وسط العاصمة. تحيط به أكشاك الوجبات السريعة ومواقف الانتظار، ونصابو تغيير العملة، والسكارى العاطلون عن العمل والزحام الكثيف. كل شيء يكاد يخفي ملامحه، ولكنه عاد إلى الحياة. فتحت أبوابه أمام الغرباء من المسلمين. في داخله قابلت شابا سوريا يعمل بالتجارة، إنه واحد من 15 ألف سوري يستوطنون بلغاريا ويقومون بالدراسة والتجارة "وأخيرا أصبح لنا مسجد نصلي فيه. أيام الشيوعيين كانت الصلاة جريمة يعاقب عليها.."

كذلك فتح المسجد الموجود في مدينة "بلوفديف" والذي يسمى مسجد الجمعة ولكن لأمور السياحة فقط ، فالمسجد ملئ بالرسوم - المهملة وغير المرممة - بالإضافة إلى مذولة شمسية تحدد أوقات الأذان الذي لا يؤذن. أما مسجد مدينة "بلشيكا" الذي عدت لرؤيته بعد عشرة أعوام فما زال مهملا مغلقا يوشك التراب أن يطمس كل ملامحه. وحده مسجد مدينة "شومين"، مسجد شريف باشا هلال هو الذي يضج ببعض من الحياة. شيوخ يجلسون وحولهم حلقة من الأطفال يتلقون دروس القرآن وهم يتحدثون بالبلغارية والعربية والتركية. وقال لنا إمام المسجد "إن من الصعب استعادة الماضي. فقد كان لدينا مكتبة نادرة حافلة بالمخطوطات ولكنها دمرت تماما، وكانت هناك مدرسة تخرج الدعاة لكل بلغاري. إننا نحاول أن نبقى هذه المؤسسة على قيد الحياة" ولكن هل تحسنت أوضاع المسلمين؟ لقد استعادوا جزءا من طقوسهم وبعضا من ثقافتهم وأسمائهم القديمة إلا أن الكثيرين منهم قد أصبحوا بلا مأوى ولا بيوت. لقد عاد 140 ألف مواطن من الخارج ليجدوا أن بيوتهم وأراضيهم قد ذهبت إلى غير رجعة، وحتى الذين بقوا نزعت منهم الأرض كي ترد إلى أصحابها لقدامى. في قرية  "زلت كابوك". وليس هذا كافيا فقط. أنهم يعرفون أن معظم الفلاحين المسلمين يعتمدون على زراعة التبغ وهم يلعبون بأسعار هذه الزراعة حتى تنخفض إلى حد كبير.." إن هناك قنبلة مازالت متفجرة أساسها سياسة التميز الديني. الوضع في البوسنة والهرسك يثير رعب الجميع ولكنهم يؤكدون أنهم لن يصلوا إلى درجة الانفجار.. "لدينا تقاليد للتعايش السلمي سويا.." هذا ما يؤكده أحد أعضاء البرلمان من الأصول التركية. فدرس البلقان القريب بالغ القسوة. ولكن بلغاريا مازالت على حافة الأسئلة الصعبة وهي تحاول أن تعيد ترتيب كل شيء وسوف يكون من الصعب أن نصدر حكما قاطعا وكل النهايات مفتوحة بهذه المشاكل.

ملف خاص في وداع القرن العشرين

أعوام قليلة ويمضي هذا القرن بكل ما حمله إلينا من أمل وما تركه فينا من خوف.

كأن القرون الماضية لم تكن إلا تمهيدا مبكرا. حتى يرفع الستار عن أحداث القرن العشرين.

ومثلما لا تتشابه بصمات اليد لا تتشابه القرون. ولكننا لا نظن أن تاريخ البشرية قد شهد من التناقضات مثلما شهد هذا القرن. فهو قرن تفكك الإمبراطوريات العظمى.

بدأ بتفكك الإمبراطورية النمساوية المجرية وانحلال العثمانية، ولم ينته إلا وقد غربت الشمس عن بحار الإمبراطورية البريطانية، وانطمرت في الثلوج أفكار الإمبراطورية السوفييتية. وهو عصر الشعوب التي نهضت من تحت عباءة الحق الإلهي للملوك حتى تجد موطئ قدم لها وسط سطور التاريخ.

فقد الملوك انتسابهم للشموس والنجوم وتحولوا إلى رموز تملك ولا تحكم. لقد ارتفع في هذا القرن صوت من لا صوت لهم وتميزت كتل الجماهير الهائلة التي كانت كالعشب إلى أسماء وأشكال محددة.

وهو قرن الثورات، بدأ بثورة الفكر عندما تحول إلى قوة سياسية مع الثورة الشيوعية، وانتهى عندما امتلك الفكر قوته الخاصة مع بزوغ ثورة المعلومات. وهو قرن الحيرة العظمى. تحول فيه اليقين الذي توارثناه من القرن التاسع عشر من أن البشرية قد انتهت من الاكتشافات الكبرى وأجابت عن كل الأسئلة الصعبة إلى إعادة طرح كل هذه الأسئلة دون أن نظفر بإجابات محددة. إننا الآن نودع هذا القرن الذي كان بلا شك الأهم في تجربة البشر على سطح هذا الكوكب آملين أن يكون هذا الحصاد مقدمة لتشخيص الوضع البشري الذي نعيشه الآن، لعل المزيد من التأمل يمدنا بطاقة خفية من الأمل.

 

محمد المنسي قنديل 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




بلوفديف القديمة. المدينة الثانية في بلغاريا





الخريطة تبين كيف أن موقع بلغاريا وسط أوربا جعلها معبرا لكل أنواع الهجرات





الرقص الشعبي والثياب التقليدية





نصب تذكارية من الأحجار





نصب تذكارية من الأحجار





تجلس هذه الأم الحائرة. ترى ماذا  يحمل المسستقبل لطفلها؟





بلغاريا هل ارتدت الشيوعية قناعا جديدا؟!





آثار العمارة التركية واليونانية والأوربية الأخرى كلها وضعت بصماتها على مباني بلغاريا





الأثر الروماني الوحيد الموجود وسط العاصمة صوفيا





مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلغاري.أصبح مهجورا





نوافذ مبنى اللجنة لا تزال تحمل آثار الحرائق التي اشعلها الشيوعيين





المسجد الوحيد في صوفيا





الى أين المستقبل؟.. الجيل الجديد ما زال يتساءل





وجه من بلغاريا





الصناعات المحلية في بلغاريا





طرق جذب السياحة





شوارع صوفيا مزدحمة دائما