اغتيال كنيدي: السينما والزمن ومغزى الضجة! أحمد رأفت بهجت

يثير فيلم (ج. ف. ك) الذي أخرجه أوليفرستون وقام بأدوار البطولة فيه كيفن كوستنر- نجم التسعينيات - وبن جازارا، والذي يتعرض لحادثة اغتيال الرئيس الأمريكي كنيدي في 22 نوفمبر 1963 يثير هذا الفيلم جدلا ونقاشا في الأوساط الفنية. وقد سبقته أفلام أخرى عديدة. يتعرض هذا المقال الضافي لها بالنقد والتحليل.

كثيرا ما كان اهتمام السينما الأمريكية بشخصية الرئيس الأمريكي الراحل " جون كنيدي " يشكل ظاهرة تستحق التأمل في طبيعة دور السينما وتأثيرها.. ولكن الصدى الإعلامي غير المسبوق الذي قوبل به في الشهور الأخيرة فيلم " ج. ف. ك " ( اختصار اسم جون فيتزجيرالد كنيدي ) إخراج أوليفر ستون وتمثيل كيفين كوستنر- في دور جيم جاريسون النائب العام ليو أورليانز وقت اغتيال كنيدي - يثير الدهشة بصورة تدفعنا إلى حالة من الحيرة. فبناء الفيلم شبه التسجيلي والذي يستغرق عرضه ما يقرب من 190 دقيقة لم يوفر - كما أجمعت التحقيقات والمقالات التي حفلت بها المجلات والصحف الأمريكية والأوربية بل والعربية - إطارا مستحدثا أو مبتكرا.. ولم يطرح معلومات جديدة أغلقها السينما من قبل.. سواء في الأفلام الأمريكية أو الأوربية. ( الفيلم الفرنسي " إيكاروس " 1981 إخراج هنري فرنوى.. وتمثيل إيف مونتان في دور يكاد يتشابه إلى حد التطابق مع دور كيفن كوستنر )

إذن ما هي الدوافع الحقيقة وراء هذه الضجة ؟ هل هو الإخراج المتميز ؟. أم الإنتاج الضخم ( 40 مليون دولار ) ؟ أم الأداء الباهر لكيفن كوستنر نجم التسعينيات في السينما الأمريكية ؟ أو ربما كانت هذه العناصر كلها ؟.. في اعتقادي ليس هذا فحسب بل هناك ما هو أهم، فحادثة اغتيال كنيدي الحث على الأفلام منذ بداية السبعينيات.. ولو حاولنا الربط بين الأفكار الرئيسية المطروحة في هذه الأفلام.. فسنجد أنفسنا أمام عدة عناصر مشتركة ربما تقودنا إلى المغزى الحقيقي وراء هذه الضجة !

التجاهل المقصود

لا نستطيع الحديث عن الأفلام التي تعاملت مع قضية اغتيال كنيدي في السينما الأمريكية.. دون أن نمهد لها بشرح بوضح الظروف والملابسات التي جعلتها لا تظهر في السينما الأمريكية إلا بعد حادث الاغتيال بأكثر من عشر سنوات. بينما كان في مقدور هذه السينما أن تتعامل مع الأحداث فور وقوعها. خاصة بعد أن تبعتها موجة رهيبة من الاغتيالات في الولايات المتحدة، مالكولم اكس، مارتن لوثركنج، روبرت كنيدي. وهو أمر كان يحتم على السينمائيين أن يبدأوا صياغة رؤية تحليلية للسلوك السياسي داخل المجتمع الأمريكي.

لقد بلغ تجاهل السينما الأمريكية لاغتيال كنيدي حدا لا يمكن معه اعتباره مصادفة موضوعية تتعلق بتشعب التحقيقات وغموضها حول الاغتيال المتهم فيه الشاب اليهودي لي هارفي أوزوالد.. ربما كان الأمر كذلك.. ومع ذلك فهذا لم يكن يمنع حساب المؤثرات القومية الناتجة عن اغتيال زعيم سياسي شاب له شعبية طاغية تفوقت على شعبية كل الرؤساء في تاريخ الأمة الأمريكية. كان من الممكن تجاهل حادث الاغتيال والتعامل مع شخصية كنيدي كزعيم سياسي له إنجازاته وحياته الحافلة بالأحداث رغم قصرها. والصالحة للعديد من الأفلام الروائية.. بدليل أن السينما الأمريكية قدمت في حياته فيلما حربيا عن بطولاته في أثناء خدمته العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي جعله أول رئيس أمريكي تظهر شخصيته في فيلم روائي خلال حكمه..

أفلام لمحو الأسطورة

وجاءت سنوات السبعينيات.. وفجأة بدأ " اغتيال كنيدي " يزحف على الأفلام.. وكان زحفا مباغتا تكمن وراءه المهارات والحيل التي بلورها السينمائيون في هارمونية إعلامية مدروسة. شاركت فيها الكتب والبحوث السياسية ووسائل الإعلام المختلفة. وجميعها وضع نظريات جديدة حول الاغتيال تناقض تقرير "وارين " الذي أدان أوزوالد ورفض الاقتناع بمبدأ التآمر الجماعي في عملية الاغتيال.. أما الأفلام فقد تعاملت مع موضوع الاغتيال بشكل مباشر اعتمادا على المزج بين الأحداث الحقيقية والاجتهادات المختلفة حول دوافع الاغتيال ومنها: " عملية السلطة " 1973، "محاكمة لي هارفي أوزوالد " 1977، " روبي وأزوالد " 1978 إخراج ميل ستيوارت، " نقطة الوميض " 1984 إخراج وليا تانين.. إلخ، وجميعها حاول أن يبهر المشاهد الأمريكي والعالمي بالاعتماد على تحليل تفاصيل متفرقة تعكس دور المافيا والمخابرات المركزية وأصحاب مصانع الأسلحة في عملية الاغتيال.

وليس من المبالغة أن نقول إن أغلب هذه الأفلام قد تجاهل تماما دور كنيدي كزعيم سياسي له إسهاماته الدولية والمحلية.. وباستثناء الفيلم التليفزيوني "صواريخ أكتوبر" وبعض الأفلام التسجيلية، فسنجد التركيز عند الحديث عن الاغتيال على حياة المتهم " أوزوالد " وتقديمه كبش فداء، للعلاقات المشبوهة بينC.I.A وF.B.I والمافيا. بحيث أصبح في النهاية يبدو كضحية يهودية بريئة تستكمل ملامح المنظور الدعائي الذي تعامل من قبل مع قضية الضابط الفرنسي اليهودي " الفريد دريفوس " فيما عرف بمسألة دريفوس. وهو أمر لم تغفله أيضا العديد من الأفلام التسجيلية مثل " مقتل الرئيس كنيدي " 1983، " الإخوان كنيدي " 1985.

الاغتيال في فيلم التسعينيات

ومثل فيلم "ج. ف. ك. " 1992 سنجد فيلم "محاكمة لي هارفي أوزوالد" (1977) يحاول التركيز على دور النائب العام ويدعى روبرتس (بن جازارا ) الذي يتشكك في الاتهامات الموجهة إلى أوزوالد. ويدرك منذ البداية وجود مؤامرة قد يكون أوزوالد أحد أطرافها، ولكنه ليس الطرف الوحيد فيها: " عندنا ثلة من الأدلة كلها أسيئ التصرف فيها: البوليس أساء التصرف، والمباحث الفيدرالية أساءت التصرف، ووزارة العدل أيضا أساءت التصرف لدرجة أنهم جعلوا منها قضية مختلفة " " القضية برمتها ملتصقة ب " أوزوالد " رجل واحد فقط وحتى الآن يصعب تصديق ذلك " " هل هي مؤامرة؟ " علينا أن نبحث في هذا الاتجاه، لا أعلم من يديرها. الشيوعيون. الكوكلوكس كلان أم المافيا وإلا فما معنى ذلك؟ إن شخصا لم يتمكن من الاحتفاظ بأي وظيفة استطاع التخطيط بدقة لاغتيال الرئيس.. ومن يكون هذا الشخص؟ منشقا معروفا لكل أجهزة المراقبة من عدة جهات فهل يستطيع شخص بهذه الصفات العمل بمفرده دون غطاء أو مساعدة؟ ".

وبرغم هذه المواقف المتشككة فإن النائب العام يتجاهلها فجأة ويتنازل عن قناعاته فور أن يتصل به الرئيس الأمريكي ليندون جونسون خليفة كنيدي ليجري معه محادثة تليفونية يقول على إثرها: " لم يخبرني بماذا يعتقد ولكنه قال إنه واثق من عدم وجود مؤامرة: لا توجد مؤامرة شيوعية ولا مؤامرة من اليمين ولا من اليسار وليس في مصلحة البلاد إحداث الشك والبلبلة " وعندما يسأله مساعده: " هل تعتقد أن أوزوالد فعلها بمفرده؟ تأتي إجابة النائب العام لتعكس مدى تراجعه نحو إثبات الحقيقة: " أظن أنه صدرت لي الأوامر بماذا أعتقد "!.

ومع ظهور محامي الدفاع ويلدون ( لورني جرين ) يحاول الفيلم أن يضيف عنصرا لا نعلم مدى ارتباطه بالحقائق " إننا نرى الجماهير ورجال الصحافة يواجهونه في أثناء دخوله إلى السجن لمقابلة أوزوالد بتساؤلات استفزازية: " هل صحيح أن أجرك مائتا ألف دولار للدفاع عن أوزوالد ؟ من أين أتيت ؟ هل أنت يهودي ؟ ومع السؤال الأخير نجد ويلدون يخرج عن هدوئه ويلتفت نحو الحشد موجها كلمات غاضبة: " أيها السادة نحن نرعى حقوق كل شيوعي ويهودي يلتزم بالقانون والدستور، وهناك حكمة تقول: واجه الرجل دائما قبل أن ترثي لحاله. والآن هل يريد أحدكم أن يكرر ذلك السؤال الأخير؟ ".

وهكذا يصبح أوزوالد مكبلا بتآمر الأجهزة وتعليمات رئيس الجمهورية وعنصرية الجماهير ومعاداتها للسامية. ومرة أخرى يكرر هذا الفيلم والأفلام التالية حتى فيلم أوليفر ستون " ج. ف. ك " دور المجتمع في مأساة الشخصية اليهودية.. ولكن ما لم يعه صانعو هذه الأفلام أنه مهما يكن المجتمع مسئولا عن كثير من الآلام الفردية وعلاقتها بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يخلقها حول أفراده، فهناك جانب فردي له أسبابه الخاصة التي لا يملك الفرد إلا أن يعبر عنها تعبرا، خاصا. قد يكون تعبيرا، منحرفا أو بغيضا ولكن في كل الأحوال يجب على الفرد أن يتحمل مسئوليته أمام المجتمع.

صراع التايكونات

وحاول السينمائيون الأمريكيون مع نهاية السبعينيات الضرب على وتر جديد في مجال طرح نظريات جديدة حول اغتيال كنيدي تتحول فيه الاتهامات من خارج حياة (آل كنيدي) إلى داخلها. ففي فيلم " التايكون اليوناني " 1978 تنشر الشبهات حول شخصية المليونير اليوناني أرسطو أوناسيس الزوج الثاني لأرملة كنيدي في محاولة لإقناع المتفرج بأن الزكيبة السيكولوجية لهذا الرجل وتاريخه المشبوه في مجال التجارة يجعلانه قادرا، على التحريض على ارتكاب جريمة مثل اغتيال كنيدي. بينما نجد فيلما ثانيا وهو" قتلة الشتاء " 1979 يطرح نظرية أكثر غرابة مؤداها أن شقيق رئيس الجمهورية عندما حاول الإيقاع بقتلة شقيقه اكتشف أن والدهما "التايكون الكبير" قد شارك في مؤامرة اغتيال ابنه!!

ورغم أن الفيلمين يقدمان لنا أناسا يساقون إلى العيش في وجود منحط برغم الهالات المحيطة بهم - بحكم النشأة والطموحات والصراعات - إلا أن الفيلم الثاني يفتقد المنطق الذي يجعله جديرا بالمناقشة بعكس الفيلم الأول المأخوذ عن حياة أوناسيس. فقد وضع هذا الفيلم الحبل على رقبة هذا المليونير بأسلوب فذ في فكره ويدعو إلى التأمل حتى ولو كان أسلوبا زائفا!

وقد تعامل فيلم " التايكون اليوناني " مع أحداث حقيقية عن حياة أوناسيس منذ تعرفه لأول مرة على الرئيس كنيدي وزوجته جاكلين ثم زواجه من جاكلين بعد اغتيال زوجها ثم مرضه بعد وفاة ابنه.. ولكن الفيلم تعامل مع هذه الأحداث بعد أن لعب على لعبة تغيير الأسماء.

الاغتيال والأجهزة

وما أثير حول قضية اغتيال كنيدي جعل السينمائيين يدركون أهمية القضية لاستخلاص رؤية تعاملوا معها بشكل مازال مسيطرا على العديد من أفلام العنف السياسي. وقد اعتمدت هذه الرؤية على زحزحة المنطق الأخلاقي في دور أجلاه عن موضعه، وأنهى عهد هندسة العلاقات الدرامية من منطق أن رجل الأمن هو دائما من يمثل عنصر الخير في الصراع مع الأشرار.. وجعل المسلمات تتعرض على الدوام لإعادة تحديدها لما استحدث من أسرار في علاقات أجهزة المخابرات الدولية.. ولا ننكر أن هذه الرؤية لعبت دورا، إيجابيا في الكشف عن فضائح خطيرة في ممارسات هذه الأجهزة، وفي طبيعة العلاقات السياسية القومية والدولية.. ولكن هذه الرؤية أيضا عندما دخلت في لعبة الصراعات السياسية تحولت إلى لعبة انتهازية هدفها الإلحاح على صور الفساد وكأنها الأمر السائد والمناظر للحقيقة دوما.. وفي نطاق هذا الفهم سنجد أن النظريات التي توصلت إلى أن " لي هارفي أوزوالد " المتهم باغتيال كنيدي كان كبش فداء لمؤامرات الأجهزة الرسمية، أصبحت قاعدة شائعة يمكن تطبيقها في العديد من الأفلام التي جعلت من اغتيال كنيدي منطلقا لها مثل: " يوم الدارفيل " 1973 إخراج مايك نيكولز، " من منظور مختلف " 1974 إخراج الآن باكولا " أيام الكوندور الثلاثة " 1976 إخراج سيدني بولاك، " قواعد الدومينو " 1977 إخراج ستانلي كريمر، " آخر ضوء للشفق " 1977 إخراج روبرت أولدرتش.

المخرج.. وعام الانتخابات

وأخيرا ليس من شك في أن " أوليفر ستون " كان ينظر إلى ما تتطلبه اتجاهات السياسة الأمريكية في عام انتخابات الرئاسة وهو يعد لفيلمه " ج. ف. ك ".. ولعل الحديث الذي أجراه الملحق الفني لجريدة " الصنداي تايمز " ( 2 يناير 1992 ) مع بطل الفيلم كيفن كوستنر يثير العديد من التساؤلات حول المغزى الحقيقي وراء إنتاج الفيلم.. فالفيلم وهو يثير الشكوك حول دور المخابرات المركزية في اغتيال كنيدي، يطرح تساؤلا لدى المواطن الأمريكي حول مدى معرفة الرئيس الأمريكي جورج بوش بحقائق هذا الدور بوصفه كان رئيسا سابقا للمخابرات المركزية.. ورغم أن كوستنر عضو في الحزب الجمهوري بولاية كاليفورنيا ومن الأصدقاء المقربين للرئيس بوش.. ويعلن صراحة في هذا الحديث عدم تدخل بوش في طبيعة أدواره السينمائية.. ويرى أن الرئيس بوش ليس من نوع الأشخاص الذين يشعرون بالتهديد من فيلم مثل "ج. ف. ك "، إلا أنه في الوقت نفسه يعتقد أن هناك عددا كبيرا من الأمريكيين سيثيرون التساؤل حول موقفه من هذه القضية!!

وهنا نضع أيدينا على أول الخيوط التي تجعلنا نرى في فيلم " ج. ف. ك " عملية " ووتر جيت " سينمائية لم تجد في حاضر بوش ما يستدعي الفضيحة فوجدت في أسرار اغتيال كنيدي مدخلا ربما يؤدي إلى اتهامه بالتستر على من اغتالوا رئيسا ديمقراطيا يحتل بوش الآن منصبه.

إن هذا الهدف قد أملاه بلاشك موقف سياسي اتخذه المخرج أوليفر ستون. الذي يدعي البعض أنه مع اليسار الأمريكي.. برغم أن تاريخه السينمائي يؤكد أن يهوديته كان لها التأثير الأعظم على العديد من الأفكار المطروحة في أفلامه.. ومنها على سبيل المثال "سلفادور" الذي جعل فيه صراحة الصهيونية تعادل الصحافة الحرة والأفكار الديمقراطية في مواجهة البطش الأمريكي في أمريكا اللاتينية.

إن ظهور ( ج. ف. ك ) في ذروة الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية التي يتعرض فيها بوش لهجمة شرسة من اللوبي اليهودي.. لا يمكن إلا أن يعني توجيه ضربة ربما تصيب أو تخيب.. وحتى الآن تؤتي الضربة تأثيرها، ولكن دون أن تحقق المطلوب منها تماما.