وعي التخلف لماذا نعرف ما لا نريد ولا نعرف ما نريد؟ محيي الدين صبحي

وعي التخلف لماذا نعرف ما لا نريد ولا نعرف ما نريد؟

لماذا نعمر خمسين جامعة فيزداد اعتمادنا على بيوت الخبرة الأجنبية ولا تقدر صناعاتنا الوطنية على متابعة التطور؟ ولماذا نشتري أسلحة تضاهي ميزانية حلف الأطلسي فتكون النتيجة انكشاف المنطقة العربية؟ الجواب يكمن في بنية العقل العـربي الذي يحكمه وعي التخلف.

منذ مطلع القرن العشرين إلى نهايته، وربما قبل ذلك، والمفكرون العرب يعلقون على مشجب الاستعمار كل نواحي التقصير العربي، فـالتجـزئة من صنع الاستعمار، والتخلـف من صنع الاستعمار، والاستبداد من صنع الاستعمار. وقد كان الـواقع يعطي مصداقية لهذه الاتهامات، فقد كانت المنطقـة خاضعة للاستعمار العثماني وبطشه، ثم جاءها الاستعمار الأوربي، وعلى أعقابه حدث الغزو الصهيوني، إلى أن استتب الأمر الآن للولايات المتحدة الأمريكية زعيمة النظام العالمي " الجديد".

فإن كـان هذا العـذر للتقصير صحيحا فثمـة ملاحظتان تلقيان عليه ظلاً من الشك كثيفا فقد شمل الاستعمار معظم أنحاء المعمورة وفيما عدا اليمن والمملكة العربية السعودية وأفغانستان، فإن آسيا من الصين إلى فلسطين ثم إفريقيا بأكملها، وأوربا الشرقية نهشتها مخالب الاستعمار وأنيابه بأسماء شتى، والمضمـون واحد. أما أمريكا الجنوبية فربما كان مصيرها أسوأ تحت حكم الطغاة الذين نصبتهم عليها الولايات المتحدة وأطلقت يدهم بالنهب وإزهاق الأرواح إلى مطلع الثمانينيات. ومع ذلك فان بعض هذه الشعوب قد أنجز تقدما خياليا بالنسبة إلى الوضع العربي القائم. فالصين قد أنجزت وحدتها القومية وكذلك الهند وفيتنام، وحقق كل من هذه الدول تقدما على مستوى التصنيع والتشغيل وارتفاع مستوى الدخل، بل إن بعضها دخل النادي الذري جهـارا أو سرارا. لن أتحدث عن نمور آسيا الدول الصغيرة التي اتحدت وصـارت تهدد بمنافسـة اليابان وأمريكا، بل لننظر إلى ما حققته دول أمريكا الجنوبية من تقدم وضعها على عتبة الاقتصاد الصناعي الحر، كما طـورت هي ودول أوربا الشرقية نظمهـا السياسية إلى نظم ديمقراطية، مما يدل على أن التنمية يمكن أن تتم تحت أي نظام، إذا صح العزم والبصيرة.

الملاحظة الثانية أن البلاد العربية عرفت مرحلة استقلال امتدت إلى نصف قرن أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945-1995) سنحت لها خلالها فرص من حرية الحركة كان بإمكانها لو استغلتها أن تحقق لنفسها كثيرا من المكاسب السياسية تجعلها قوة كبرى في الشرق الأوسط، ففي الخمسينيات بلغ النضال الوطني أوجه وزجت مصر بكل إمكاناتها لتتحرر وتحرر ما حولها، لكنها استثارت من العداء العربي ما. جعلها تنكفئ على نفسها، ولو استمر العرب على تضامنهم في حرب أكتوبر 1973 لحصلوا على أكثر مما يريدون لكن عقدهم انفرط خلال أقل من شهر ولم يطرأ على قضية فلسطين سوى التآكل. وهنـاك طفرة النفط التي قال عنها الخبراء إنها كفيلة بتقديـم الأساس المالي للتصنيع العـربي لكننا خرجنا منها مدينين وأكثر تخلفا.

إذن فمسئولية الاستعمار عن تدهـور الـوضع العـربي محدودة، وعلينـا البحث عـن مسئولين آخرين. فهناك نظرية "المؤامرة": مؤامرات الاستعمار أو الصهيونية أو الشعوبية. غير أن السياسة الدولية ليست أكثر من مجموعة مؤامرات تحيكها الدول ضد بعضها البعـض، فلا يمكننا الانسحاب من العالم. وهنـاك النظرية الحضارية التي جـاء بها ابن خلدون في تقسيم العـرب إلى بدو وحضر، وأن "من عوائد العرب الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة...فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه..."

ويضيف، ببصيرة ترى الـوضع العربي الحالي المتمزق: "إن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة". أما أهل المدن، فقد أصبحوا "عيالا على غيرهم..قد ألقـوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة".

ميزة النظرية الخلـدونية أنها تقارب الوضع العربي بتركيبه الاجتماعي التاريخي، لكنهـا لا تبحث في أحوال العقل العربي وتطوره. فالوعي العربي السائد هو وعي التخلف ، أي الوعي الذي يعرف بدقة ما لا يريد، ويستطيع أن يتخلص منه لكنه لا يعرف مـا يريد، وإذا عرفه لا يستطيع أن يحققه فقد نشأت الحركة الاستقلالية بصورة تنظيمية قوية في فترة ما بين الحربين العالميتين وأصبحت قوة بارزة في المنطقة إلى نهاية الستينيات من هذا القرن، في مصر وسوريا والعراق والأردن والشعب الفلسطيني في الشتات.. كانت الحركة القوميـة تعرف تماما مالا تريد فهي لا تريد الاستعمار ولا تريد التجزئة ولا تريد الاستغلال في الداخل ولا التهب الخارجي وقد قاوم هذه الشرور أجيال من المثقفين والمستنيرين والمتدينين وأصحاب الضمائر الحية حتى انهدت أركانها وأشرفت على الهلاك والتلاشي. ثم، ويسحر ساحر، نهضت هذه الشرور من تحت الركام أعظم وأقوى مما كانت فأنشبت مخالبها في قلوبنا وشدت قبضاتها على أعناقنا. كان التضامن العربي أولى ضحايا هذه الشرور العـائدة التي ألغت العمل العربي المشترك بكل صوره، وذلك بديل عن الوحدة العربية كما أضعنا ثروتنا التي كانت ذخرا لكل العرب ، أغنيائهم وفقرائهم سواء بسواء. فقد ارتفع مستوى الحياة وزادت التطلعات في معظم البلاد العربية. ومع ازدياد بؤسنا ونزاعاتنا خسرنا أهم ما حققناه على الإطلاق: استقلالنا. فخلال الثلاثين عاما الماضية تمكنت المنطقة العربية من تحقيق استقلال نسبي أعطاها خصوصية معينة في علاقاتها الداخليـة ومشاريعها التنموية وآفـاقها الثقافية وتطلعاتها المستقبلية.

قصور بنية العقل العربي

بنية العقل العربي في هذه المرحلة، هي التي تملي عليه طريقته في إدراك الأمور والتعامل معها. وهي بنية قادرة على تمثل الواقع وتحليل عناصره وتوجيه الإرادة العربية إلى التعامل مع هذه العناصر عزلا وتهديما أو تنمية وتحسينا..لكنها بنية قاصرة عن وضع بديل كلي عن هذا الواقع المفروض. إنها بنية قادرة على وعي الـواقع قاصرة عن إيجاد البديل.

فرضيتي أن العقل العربي الحديث، من رفاعة الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر إلى مفكري اليوم في آخر القرن العشرين ، هو عقل يفرز وعيا سلبيا يعرف ما لا يريد ويعجز عن تحقيق ما يريد. فالفرق كبير جدا، أو أكبر من أن يقاس، بين أن ترفض التجزئة وأن تستطيع تحقيق دولة الـوحدة بإنجاز الخطوات التدريجية الضرورية لبلوغ هذا الهدف الأسمى، ورؤية الفرص التاريخية واقتناصها للسير قدما ودون تراجع نحو الهدف. والفرق هائل بين أن تحصل على ثروة وأن تعرف كيف تستثمرها وأن تتمكن من تنميتها والمحافظة عليهـا. الفرق هائل لأن كل خطوة من هذه الخطوات الثلاث تحتاج إلى معـرفة وخبرة وممارسة وخلق ظروف قائمة لكل واحدة بذاتها. فقد حصلت أسبانيا في القرن السادس عشر من نهب معابد المكسيك على ذهب يفوق كل ما كان موجودا على سطح الكرة الأرضية في ذلك الحين، بينما كانت إنجلترا دولة فقيرة قوامها زراعة بسيطة وصيادو أسماك وقراصنة. اكتشفت أسبانيا القارة الأمريكية بعيد سقوط غرناطة (1492) بثلاث سنوات وظلت تنهبها بلا منازع قرابة تسعين عاما عمرت خلالها بوارج كبيرة سريعة أطمعت قراصنة الإنجليز بنهبها فلما تهدد طريق البحر بين إسبانيا والمكسيك حشد الأسبان أعظم أسطول عرفته الجيوش في ذلك الحين، وكان اسما على مسمى: فقد أسمته الارمادا- الأسطول الذي لا يقهر- ووجهته نحو شواطئ إنجلترا لإنزال هزيمة بها لا تقوم لها بعدها قائمة.

ومع ذلك تمكن الأسطول الإنجليزي الذي يعتمد على بوارج صغيرة أسرع وأخف، مسلحة بمدفعية أقوى وأسهل حركة، ومحفوفا بآلاف من زوارق الصيادين الإنجليز المسلحين بما تيسر، تمكن هـذا الأسطول الإنجليزي - بمعـونة عواصف بحر الشمال- من إنزال هزيمة ساحقة بالأرمادا الأسبانية، في عام 1588، بعد ذلك طور الإنجليز أسطـولهم ومدفعيتهم فسيطروا على الملاحـة في المحيطات وطـردوا الأسبان من شمالي القـارة الأمريكيـة واتبعوا سياسة استيطان مبرمجة. لكن الأهم هـو أن الإنجليز استخدموا الثروات التي حصلوا عليها من شمالي القارة الأمريكية في تمويل الثورة الزراعية- الصناعية الأولى في العـالم قبل ثورة البخار، في حين بدد الأسبان ثروتهم في حروب وسط القارة ولم ينجزوا شيئا يذكر اليوم، بينما نشأ النظام المركنتلي بين أسواق القرى البريطانية ومزارعهـا. كما كانت الصلة وثيقـة بين الصناعيين والعسكريين من جهة والعلماء الإنجليز من جهة ثانية فقـد كان هؤلاء العلماء الفلاسفة موهوبين في أمر واحد، هو تأليف جمعيات: الجمعية الملكية الجغرافية والجمعية العلمية.. والجمعية الفلسفية. والجمعيـة التاريخية.. فهذا هـو وعي التقدم وهو الوعي الذي حول الإمبراطورية البريطانية من دولة عسكرية إلى إمبراطورية تجاريـة تجعل من مستعمراتها أسواقا لصادراتها وتجد فيها موارد للمواد الخام الصالحة لصناعتها؛ حدث هذا في الوقت الذي كانت الإمبراطورية العثمانية تسيطر خلاله على بقاع من الأرض أكبر مساحة من بريطانيا ومستعمراتها، وأكثر سكانا، وأغـزر موارد، وأقوى جيوشا. لكن النخب الحاكمة العثمانية كانت تعيش في وعي التخلف بعقل يعجز عن استيعاب التقدم، ولقد دالت دولة العثمانيين منذ قرن تقريبا لكن العرب مازالوا يحافظون على العقل العثماني ويعيشون على معطياته ويسلكون وفق مقتضياته ولهذا ذهب العثمانيون ولم تحل محلهم بنيـة سياسية عربية بديلة لأن وعي التخلف يمنعنا عن السير في طريق التقدم.

عند هذه المرحلة من البحث ينبغي أن نفرق بوضوح بين وعي التخلف وتخلف الوعي. فوعي التخلف يصدر عن بنية فكرية اجتماعية اقتصادية متخلفة. إنه تخلف يعي العالم بطريقته ووفق معطياته. وهو وعي خاص بهذه البنية المتخلفة الذي تبرزه إلى الوجود مزودا بأدوات السيطرة على المجتمع وإدارة صراعاته، فهو بذلك يختلف اختلافا بينا عن الوعي المتخلف الذي يمكن أن يوجد في كل البيئات المتقدمة والمتخلفة على السواء. فقد نجد في السويد واليابان وعيا متخلفا يظهر على شكل الجمعيات العنصرية وعصابات السطو وتصريف المخدرات. أما وعي التخلف فهو وعي قائم بذاته يحمل علامات المجتمع الذي افرزه ثم يطبع هذا المجتمع بطـابعه لأنه وعي بنيوي يتخلل كل البنى في المجتمع، الثقافية والعلمية والسياسية، و..غيرها. وهذا أيضا ما يفرق بين وعي التخلف وتخلف الوعي فعلى حين أن وعي التخلف يشمل المجتمع في كل فعالياته وأوجه نشـاطه بحيث هو وعي نوعي يفرق مجتمعا عن غيره، نجد أن تخلف الوعي هو وعي جزئي يتخلف عن وعي التقدم بفارق كمي يمكن قياسه وتحديد أماكن وجوده ومحاصرته ومعالجته، كالقول بأن صناعة الإلكترونيات في اليابان متقدمة على مثيلتها في الولايات المتحدة فهذه ظاهرة جزئية يمكن تحديدها وقياس مدى تخلفهـا وآثار تقصيرها ووضع الخطط لتلافيها وإزالتها، بينما يشمل وعي التقدم المجتمعين الياباني والأمريكي بحيث يصح القول أن المجتمعين متداخلان متجانسان متنافسـان كأنهما فرسـا رهان متقاربان عند نهاية الشـوط الأول، ولا كـذلك وعي التخلف فهـو يشمل المجتمع ويطوقه كما أنـه يحارب وعي التقدم ويحاصره ويقضي على البقع التي تتشكل هنا وهناك وعلى الظواهر التي تشير إلى حدوث اختراق في بنية التخلف وهـكذا صار لدينا ثلاثـة أنواع من الوعي: وعي التخلف، وعي التقدم، تخلف الوعي. الأول والثاني وعيان بنيويان يشملان كـل نواحي المجتمع ويطبعانه بطابعهما. أما الوعي الثالث فهو نسبي عابر يمكن توسيعه ويمكن القضاء عليه بحسب الظروف واستعداد البيئة.

مقاومة التخلف

تتميز المقاومة التي يبديها وعي التخلف بالعنف وردود الأفعال المتفرقة لذلك تكثر الأحزاب والشيع والاستبداد في البلاد المتخلفة ، في حين أن البلاد المتقدمة التي تعرف كيف تحدد مسارها وتتمتع بحريتها لا تعرف كثرة الأحزاب على الرغم من أن مبدأ حياتها السياسية يقوم على التعددية. فليس في بريطانيا وأمريكا وبلاد الشمال أكثر من حزبين رئيسيين يضيق مدى الخلاف بينهما كلما نعم المجتمع بثمرات التقدم، في حين أن وعي التخلف يفرز أحزابا متضاربه- ففي خلال عامين تشكل في الجزائر 36 حزبا مرخصا، ما عدا الحركات السرية، زمن علامات انهيار الحضارة: تعدد الآراء وتفرق الإرادة الجماعية.

وسأختم بحثي بفـرضية أعتبرها برهانا على فـرضية وعي التخلف: لو..حدثت معجزة تاريخية ارتفعت معهـا أنواع الضغوط كلها عن العرب، أو لو أن المنطقة العربية انفصلت عن بقية الكرة الأرضية: هل كنا أفضل حالا مما نحن الآن؟ ولو انقطعت المنطقة العربية عن العالم هل كانت النخب العربية في سياسيين مثقفين واقتصـاديين..إلخ، ستتمكن من تحقيق أهـداف المجتمع العربي في الـوحدة والتقدم والعدالة والديمقراطية؟ أشك في ذلك حتى لو امتدت الفرصة لمائة عام أخرى .بل ربما تتكاثر الحروب العربية- العربية ونقع في حالة من الفوضى نتحسر فيها على ما فرطنا فيه من أوضاعنا الحالية والسبب في ذلك هو ما أسلفنا من أن وعي التخلف عاجز عن إيجاد بديل أفضل عن وضع راهن.

والحل؟ لا بد من أن ننبذ وعي التخلف جملة. وهذا لا يكون إلا بالخروج من الواقع جملة. ومن ثم بناء واقع جديد بكل تفاصيلـه. الخروج من الواقع يكون بتسليط النقد العقلاني على كل جوانب الواقع بتحديد أبرز ظواهره وتشخيصها والرجوع إلى تاريخ نشوئها وتطورها لمعرفة الوظيفة التي أدتها كل ظاهرة في حياتنا المتخلفة.

وهذا أمر سهل إذا قام بـه كل فرد في حقل عمله، إذ إن العقـل الانتقادي عـقل جمـاعي بالدرجة الأولى، فليس في وسع أي فرد أو مجموعة من الناس أن يتناولوا واقعهم كله بالنقد ، ولكن إذا عم الوعي النقدي فإنه يخلق عقلا جماعيا قادرا على الخروج عن وعي التخلف ووضع الأسس لعقل التقدم وهو العقل الذي يؤمن بأن من حق الإنسان أن يعيش حياة أفضل وأن بالإمكان رفع مستوى الحياة عن طريق العدالة والتعليم والطبابة وتأمين المسكن والتأهيل المهني..شيئا فشيئا تصبح الحياة جميلة، خلاقة، معطاء. ويصبح غدنا أزهى من حاضرنا ويعيش أحفادنا والأجيال القادمة في أوطان تعطيهم دورهم في صنع حياتهم ورفاهيتهم فتزداد لديهم روح المبادرة ويعرفون أنهم حين يغيرون واقعهم فإنهم إنما يغيرون العالم.

 

محيي الدين صبحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات