انقلابان في النظام الاقتصادي العالمي طه عبدالعليم

انقلابان في النظام الاقتصادي العالمي

في وداع القرن العشرين

يجمع الباحثون والمفكرون العرب على أن انهيار النظم الاشتراكية يمثل أهم المتغيرات العالمية التي تعيد تشكيل النظام العالمي. بيد أنهم يتمايزون في تحديد أسباب ودلالات سقوط النظم الاشتراكية الأوربية ، وما سبقه من تداعي ما سمي بنظم " التوجه الاشتراكي " في البلدان النامية، أو ما لحقه من تسارع للتحولات الاقتصادية الليبرالية في النظم الاشتراكية الآسيوية.

إن عملية تشكل نظام عالمي جديد قد تسارعت مع نهاية القرن العشرين، وذلك تحت تأثير مقدمات وتداعيات انتهاء الحرب العالمية الباردة. ولا تخفى حقيقة أن مجمل التحولات والمتغيرات العالمية، التي تجسد في تفاعلها المتبادل عملية تشكل النظام العالمي البازغ، تعيد تشكيل الأوضاع الكونية والإقليمية والمحلية التي سادت في النظام العالمي الآفل. ولا يخفى أن بلدان الوطن العربي، شأن غيرها من البلدان في مختلف الأقاليم، ليست بمعزل عن تلك العمليات وهذا النظام. ولا يخفى أيضا أن البلدان النامية وبينها البلدان العربية تبدو بعيدة عن المشاركة الفاعلة في إعادة ترتيبات الأوضاع الدولية، ومعرضة لتهميش دورها في إدارة النظام العالمي الجديد.

وتتطلب القراءة العلمية الموضوعية، كما يشترط التأقلم العربي الإيجابي مع هذا النظام، تشخيصا دقيقا للمتغيرات والتحولات العالمية الراهنة. وفي محاولة تشخيص جوهر الجديد الذي يفسر تشكل نظام عالمي جديد من المنظور الاقتصادي ، فإن منهج الاقتصاد السياسي، يفرض نفسه، إذ يسمح بتحقيق ثلاثة أهداف مترابطة. نقصد رصد الارتباط بين العامل الاقتصادي والعوامل الأخرى السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المتغيرات والتحولات التي تعيد تشكيل النظام العالمي، من جهة أولى. وكشف علاقات السبب والنتيجة بين مقدمات وتداعيات عملية سقوط النظام القديم وصعود النظام الجديد، دون الوقوف عند حدود وصف وعرض التطورات والمتغيرات ، من جهة أخرى.

ومن منظور الاقتصاد السياسي، نرصد خمس مجموعات من المتغيرات والتحولات الرئيسية، تجسد في تفاعلها المتبادل ما يمكن أن نسميه جوهر الجديد، الذي يفسر سقوط النظام العالمي الآفل وصعود النظام العالمي البازغ. وتتلخص هذه المتغيرات والتحولات في:

أولا: التغيرات في النظم الاقتصادية العالمية شاملة سقوط اقتصادات الأوامر الاشتراكية في دول الكتلة السوفييتية السابقة، وتجديد اقتصادات السوق في المراكز الصناعية المتقدمة، وانفتاح اقتصادات التنمية المستقلة في البلدان النامية، وما يرتبط بهذا كله من تحول عمليات التحول الاقتصادي الليبرالي إلى ظاهرة عالمية. ونرصد بوجه خاص، التحول إلى تسيير الاقتصاد وتخصيص الموارد وتحديد الأسعار بواسطة آليات السوق، وتبدل الدور الاقتصادي للدولة عبر تطبيق برامج الخصخصة، وانفتاح القطاع الخارجي.

وثانيا: التغيرات في بنية الاقتصاد العالمي التي ترتبت على الثورة العلمية التكنولوجية والثورة الصناعية التكنولوجية في طورها الأحدث، وقادت إلى تعميق عالمية الأسواق العالمية والاعتماد والانكشاف المتبادل، وانعكست في توزيع القدرات الاقتصادية والشاملة بين الدول والمجموعات الدولية على الصعيد العالمي. كما نرصد ضمن هذه المتغيرات، تعاظم تهميش غالبية البلدان النامية كما توضح مؤشرات التوزيع الجغرافي للتجارة والاستثمار والتمويل.. أضف إلى هذا اشتداد تمايز البلدان النامية إلى أربع مجموعات اقتصادية رئيسية : الدول الصناعية الجديدة، والدول المصدرة للنفط - الغنية، والدول متوسطة التطور - المتحولة والمأزومة، والدول الأشد تأخرا - المهمشة.

وثالثا: المتغيرات في النظام الاقتصادية الدولي سواء على مستوى إدارة العالم بترسيخ دور مجموعة الدول الصناعية السبع، توسيع دور منظمات بريتون وودز - صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتأسيس منظمة التجارة العالمية للارتقاء بدور الجات في تحرير التجارة الدولية متعددة الأطراف أو بتسريع عملية بناء التكتلات التجارية والاقتصادية الإقليمية التي تضم الدول الصناعية أو تتمحور حول مراكزها الأرقى تصنيعا والأكثر تقدما، وفي مقدمتها الاتحاد الأوربي والنافتا فضلا عن تسارع عملية التكامل الإقليمي في شرق آسيا. أو التوجه نحو بناء تجمعات اقتصادية عبر إقليمية مثل الآبك والأفتا. أضف إلى هذا، تعاظم دور الشركات الدولية، متعددة الجنسيات وعابرة القومية.

ورابعا: المتغيرات في الأولويات الاقتصادية العالمية، حيث تقود مجمل المتغيرات السابقة إلى تبدل الأولويات بما يستجيب للتحديات الجديدة، ويتعاظم الاهتمام بمضاعفة الإنتاجية والتنافسية والتصدير.. الخ. كما تبرز ضرورة حل التناقضات المترتبة على النزعات المتعارضة في البيئة الاقتصادية العالمية، مثل : الحمائية والتحرير، العالمية والتهميش، الإقليمية والعالمية، التكتلية والقومية،.. الخ.

وخامسا : إعادة صياغة مفاهيم الفكر الاقتصادي العالمي، حيث يبرز مفهوم التنمية المتواصلة حماية للبيئة الطبيعية، ويعلو مفهوم التنمية البشرية تحقيقا لتكافؤ الفرص، ويتعاظم إدراك أهمية المكون الاقتصادي للأمن، ويتغير مفهوم التقدم وتصور آليات تحقيقه.

وفي ضوء التحليل السابق، نخلص، أولا، إلى أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد لم يتشكل نتيجة فعل إرادي للدول الكبرى الصناعية. إذ رغم عمل هذه الدول على إعادة ترتيب الأوضاع العالمية وفقا لمصالحها وأولوياتها، فإن هذا النظام قد تشكل نتيجة عمليات موضوعية بالأساس. وبوجه خاص، فإن تطور وتفوق قوى الإنتاج في منظومة دول اقتصاد السوق الرأسمالية الصناعية، استنادا إلى دوافع أهمها إنجازاتها الخاصة والهائلة في الثورة العلمية التكنولوجية والصناعية التكنولوجية في موجتها الثالثة، قد مثل العامل الحاسم في انتصارها في الحرب العالمية الباردة. وفي المقابل، فإن هزيمة منظومة دول اقتصاد الأوامر الاشتراكية السوفييتية، ترجع أعمق أسبابه في تأخرها عن اللحاق بتلك الثورة، سواء بسبب الحصار الذي ضربته الدول الصناعية المتقدمة على نقل منجزاتها التكنولوجية الأحدث إلى الكتلة الاشتراكية السوفييتية بحيث حالت دونها ودون الإفادة منها بأساليب الهندسة العكسية كما جرى من قبل، أو - وهو الأهم - بسبب عجز نظم اقتصادات الأوامر الشمولية عن نشر ثمار ما حققته من إنجازات هذه الثورة في الجزر المعزولة للتسلح والفضاء إلى بقية قطاعات الاقتصاد والمجتمع.

ونسلم، ثانيا، بأن درجة مراعاة المصالح في النظام العالمي الجديد تتوقف على علاقات القوة في النظام العالمي، وهو ما اتسمت به أيضا تفاعلات النظام العالمي القديم، وإن بدرجة أشد سفورا بالمقارنة مع فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من عمر النظام القديم، وذلك من منظور البلدان النامية وبينها العربية. وهكذا على سبيل المثال، فإن آليات إدارة النظام الاقتصادي الدولي، كما تكشف اتفاقيات الجات التي انتهت إليها جولة أورجواي، تترتب عليها نتائج تؤثر في مصالح المجموعات المختلفة من البلدان، ولكن وفق توازن القوى في العلاقات ما بين الدول. وبعبارة أوضح، فإن المتغيرات الجديدة تهدد الدول العربية وأغلب الدول النامية بمخاطر وخسائر تفوق ما يتولد من فرص ومكاسب، باعتبارها الأضعف بمقاييس القدرة الشاملة.

ونرى، ثالثا، إن تحرير التجارة الدولية متعددة الأطراف اتجاه لا رجوع عنه، رغم ما تولده المتغيرات الاقتصادية العالمية من نزعات متعارضة، بينها نزعات التكتلية والحمائية المضادة لنزعات العالمية والتحرير. يرجع هذا إلى أن تحرير التجارة العالمية هو محصلة للمتغيرات الاقتصادية وغير الاقتصادية العالمية، ولأن ما يترتب على الحمائية والحروب التجارية من مخاطر وخسائر فادحة يضر اقتصادات جميع البلدان والأقاليم. وأخيرا، لأن مكاسب الارتقاء بتقسيم العمل الدولي، توفر حوافز لا تخفى للتوجه التصديري للتنمية والتصنيع. ونسلم هنا بصحة استنتاج أن المتغيرات الاقتصادية العالمية تؤكد مكاسب تحرير ومن ثم تنمية التجارة الدولية. وترجع هذه المكاسب إلى خفض تكلفة الإنتاج بتوسيع نطاقه والارتقاء بالتخصص الدولي وتوسيع السوق أمام صناعة جميع البلدان. بيد أن توزيع مكاسب التجارة الدولية يتوقف على الإدارة العقلانية والعملية والرشيدة لعلاقات عدم التكافؤ على الصعيد العالمي، في إطار ما نسميه " التأقلم الإيجابي " مع المتغيرات العالمية والإقليمية.

ونشدد، رابعا، على أن الارتقاء بإنتاجية العمل يمثل شرط تعظيم القدرة التنافسية للاقتصادات العربية، وخاصة للصناعة التحويلية العربية، في السوق العالمي. ويتطلب هذا وضع وتنفيذ : استراتيجيات ترتقي ببنية وتخصص الصناعة والاقتصاد، وبرامج لتطوير التعليم والتدريب، وسياسات للارتقاء بالبحث والتطوير، وسياسات لخلق مناخ موات للاستثمار الخاص وغير ذلك من محددات تعظيم الإنتاجية الكلية والتنافسية الاقتصادية، ومن ثم تحقيق مزايا المشاركة في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية. وفي كل بلد على حدة فإن الدور الجديد والحاسم للدولة في الاقتصاد والمجتمع يجب أن يدفع نحو التقدم الشامل، أي تحقيق الكفاءة الاقتصادية والتنمية البشرية، وحماية التطور الديمقراطي والأمن القومي، وازدهار الهوية الثقافية بوجه حضاري إنساني.

سقوط اقتصاد الأوامر الاشتراكي

لقد كان وهم بداية التاريخ مع بناء الشيوعية، أهم وأضعف استنتاجات المفهوم المادي للتاريخ. وبكلمات ماركس، فإن الشيوعية هي بداية تاريخ المجتمع اللاطبقي، وهي بداية تاريخ الإنسانية التي تشهد ببناء الشيوعية قفزة من سيادة الضرورة إلى سيادة الحرية. ويوضح أنجلز أنه ما أن يتملك المجتمع وسائل الإنتاج حتى يزول الإنتاج البضاعي وتزول معه سيطرة المنتوج على المنتجين، ومحل الفوضى داخل الإنتاج الاجتماعي يحل تنظيم داع منهجي، ويزول النضال في سبيل البقاء الفردي.. وإذ ذاك ستخضع شروط المعيشة التي تحيط بالناس والتي سيطرت عليهم من قبل، لسيطرة ورقابة الناس الذين يصبحون للمرة الأولى أسياد الطبيعة بالفعل وعن وعي، لأنهم يصبحون أسياد اتحادهم هم في المجتمع، وإذ سيطبقون بدراية تامة القوانين التي توجه نشاطهم الاجتماعي.. وبالتالي سيسيطرون عليها.. كما أن الشكل الذي ينتظم به الناس في مجتمع.. سيصبح حينذاك من صنع الناس، وبدافع من مبادرتهم الحرة، والقوى الموضوعية - الغربية - التي وجهت التاريخ حتى الآن ستخضع حينذاك لرقابة الناس.

ونسلم - بادئ ذي بدء - بأن الاشتراكية السوفييتية قد حققت إنجازات اقتصادية هائلة، خاصة في مجال التصنيع. وقد سمحت هذه الإنجازات للاتحاد السوفييتي السابق باللحاق بالدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة، بل والتفوق عليها أحيانا في تحقيق أحدث إنجازات الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية في أهم فروع الصناعة الثقيلة، وفي رفع إنتاجية العمل. وتمكن الاتحاد السوفييتي من الانتصار على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، بل والتوسع بإقامة نظم شيوعية في الدول التي حررها من الاحتلال النازي في أوربا الشرقية، والانفراد بمكانة القوة العظمى الثانية في العالم حتى انهياره اللاحق. بيد أن إنجازات اقتصاد الأوامر الاشتراكي قد استندت بدرجة أساسية إلى تكلفة إنسانية باهظة في عهد ستالين، ثم بتكلفة اقتصادية باهظة في العهود اللاحقة. وقد تجسدت التكلفة الأخيرة في استمرار تدني مستويات إنتاجية العمل في الاقتصاد السوفييتي مقارنة باقتصادات الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة.

والواقع، إن الخطة الخمسية التاسعة كانت الأخيرة بين الخطط التي تحقق خلالها معدل نمو مرتفع للإنتاج، وبعدها تدهورت بمعدل ظاهرة معدلات هذا النمو وارتبط هذا بأسباب عديدة يبرز بينها تراجع معدلات نمو الاستثمار. وتكشف المؤشرات الرسمية السوفييتية عن هبوط حاد في حصة التراكم من الدخل القومي بين عامي 1970 و1985.

وكان انخفاض إنتاجية العمل - التي تعد بحق المؤشر الرئيسي لكفاءة أداء الاقتصاد - يلخص مأزق الركود الذي قاد إليه استمرار الاعتماد في التنمية الاقتصادية على المزيد من استخدام الاستثمارات الجديدة بدلا من رفع كفاءة الاستثمارات القائمة، ويلخص أسباب الخسارة السوفييتية فيما سمى بالمباراة الاقتصادية السلمية بين الاشتراكية والرأسمالية. وما حدث أن إنتاجية العمل في الاقتصاد السوفييتي بقيت منخفضة وأخذت في التباطؤ.

والواقع، أن مأزق الاشتراكية السوفييتية قد طرح بقوة ضرورة مراجعة الأسس النظرية للاشتراكية الماركسية في الاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما يقود إليه ضمنا خطاب النقد الذاتي لكل من أندروبوف و جورباتشوف. وهكذا، طبقا للخطاب المذكور، فإن الملكية العامة كانت - في غالب الأحيان - فريسة للنزعات المصلحية والمحلية الضيقة، حتى باتت وكأنها أرض محايدة، كأنها ملكية مجانية، ليس لها مالك فعلي، بل وراحت تستغل في حالات كثيرة لجباية الدخل غير المشروع. وأما التخطيط المركزي، فقد جنح إلى احتواء كل شيء حتى أدق التفاصيل، واتخذت القرارات دون مراعاة الإمكانات الفعلية، ولم تتجه الخطط إلى تصحيح الاختلالات وتحقيق التناسبات وتنفيذ المهمات الاستراتيجية، وسادت نزعة إرادية في تسيير الاقتصاد، واعتبرت آليات السوق منافية للاشتراكية. أضف إلى هذا، إنه قد ظهرت انتهاكات لأبرز مبدأ من مبادئ الاشتراكية وهو التوزيع حسب العمل، سواء بضعف مكافحة الدخل غير المشروع أو باختلال الربط بين مقدار العمل، ومقدار الاستهلاك، وهو ما يشوه مبدأ العدالة الاجتماعية ويعوق نمو إنتاجية العمل.

كما بدا من المستحيل استمرار تجاهل قانون العرض والطلب وغيره من القوانين الاقتصادية الموضوعية ما دامت إدارة الاقتصاد بالمراسيم تقود إلى إهدار الموارد وكبح التطور. وأخيرا، إذا غضضنا الطرف عن " فائض القيمة "، الذي تستحوذ عليه " الرأسمالية " وهو ما يقابله " الناتج الفائض "، الذي تسيطر عليه البيروقراطية، فقد بدت الرأسمالية الصناعية المتقدمة أكثر اقترابا من مبدأ الاشتراكية وقانونها الأساسي وهو " من كل حسب جهده إلى كل حسب عمله ".

وقد انطلقت سياسات التغيير من التأكيد أن النظام القديم لإدارة الاقتصاد السوفييتي قد ارتبطت بظروف ومهام مختلفة. وأن هذا النظام قد تشكل حين ارتكز النمو الاقتصادي في الأساس على استخدام موسع للموارد الجديدة. ومنذ منتصف السبعينيات، جرى تأكيد ضرورة الانتقال من نمط التنمية الأفقية إلى نمط التنمية الرأسية، أي زيادة النمو عن طريق رفع الإنتاجية وزيادة الكفاءة للحد من نزيف ونضوب الموارد، وفي ذات الاتجاه، دفعت ضرورات الإفادة من إنجازات الثورة العلمية التكنولوجية، وإشباع الحاجات الاجتماعية المتعاظمة، فضلا عن حتمية مقرطة الإدارة كشرط لتحقيق الغايات الجديدة، وخاصة تسريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وطالب دعاة الإصلاح إلى آلية جديدة لتسيير الاقتصاد تكفل توجه الإنتاج نحو إشباع الحاجات الاجتماعية، وتصفية الإنتاج بالأوامر والتمويل بالعجز، وزيادة الكفاءة وتأمين التوازن في الاقتصاد. وجرى التشديد على ضرورة أن توقف هذه الآلية الجديدة تبديد الموارد، وأن تحفز التقدم العلمي التكنولوجي، وأن تكفل توافق مصالح وحوافز العاملين والمؤسسات والأقاليم ككل وأن توفر الشروط الديمقراطية الملائمة واللازمة لتوسيع المبادرات والإبداعات. وباختصار، فإن تحقيق هذا كله لم يكن يعني سوى التحول من الأساليب الإدارية إلى المبادئ الاقتصادية في تسيير الاقتصاد.

وفي ضوء ما سبق، نخلص إلى أن انهيار الاشتراكية السوفييتية لم يكن مجرد نتاج لمؤامرات الإمبريالية، أو نتاج خيانة جورباتشوف، أو مجرد حصاد لتطبيق خاطئ لنظرية صحيحة. وإنما كان الأمر محصلة لمأزق اقتصاد الأوامر بتشوهاته الملازمة له كما برز في أزمته طوال ربع القرن السابق للانهيار السوفييتي، والهزيمة في منافسة التقدم الشامل على النحو الذي أوجزناه. أضف إلى هذا تداعيات الهزيمة في الحرب الباردة مع العجز عن مواصلة سباق التسلح ، وسقوط الحزب الشيوعي مع محاولة الجلاسنوست مقرطة النظام السياسي الشمولي، وتفكك البناء الإمبراطوري للدولة السوفييتية، وإخفاق ثورة البيريسترويكا أو إعادة البناء في التحول إلى ما سمي باقتصاد السوق الاشتراكي. بيد أن الأهم، هو أن الأسس النظرية للاشتراكية الماركسية قد تقوضت، لأسباب تتلخص في : انتفاء المبرر التاريخي والنظري لدعوة ملكية الشعب أو تراوحها بين ملكية لا أحد وملكية خاصة للنخبة السلطوية البيروقراطية والتكنوقراطية، وكبح آليات اقتصاد الأوامر لعجلة التحديث وتبديدها الهائل للموارد، وإهدار الحوافز الفردية بسبب تساوي الدخول بغض النظر عن تفاوت الإنتاجية إذا استثنينا النخبة السوفييتية من نظام الأجر المتساوي. وأخيرا، قطع الطريق على التطور الديمقراطي السلمي والتدريجي للنظام بسبب ما سمي بديكتاتورية البروليتاريا والتي لم تكن سوى احتكار للسلطة من قبل النخبة الحزبية والأمنية للدولة الشمولية.

وهم نهاية التاريخ

في كتابه الشهير " نهاية التاريخ " كتب فرانسيس فوكوياما مرددا ما كتبه قبل صدور كتابه : إن الديمقراطية الليبرالية قد تشكل " نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية "، وأن هذه الليبرالية السياسية هي " الصورة النهائية لنظام الحكم البشري "، وبالتالي فهي تمثل " نهاية التاريخ ". وفي نهاية التاريخ - كما يوضح في كتابه المذكور - " ليس ثمة منافسون أيديولوجيون للديمقراطية الليبرالية ". ومؤكدا أنه " من غير المستطاع أن نجد ما هو أفضل من الديمقراطية الليبرالية مثلا أعلى "، يعلن أن " الأنباء السارة تطرق الآن أبوابنا "، مشيرا إلى أن أبرز تطورات الربع الأخير من القرن العشرين تهاوى النظم الديكتاتورية الشمولية الشيوعية وغيرها.

ثم يضيف فوكوياما، وهو الأهم، من منظور هذا المقال، زعمه " أن المبادئ الليبرالية في الاقتصاد - أي السوق الحرة - قد انتشرت ونجحت في خلق مستويات من الرخاء المادي لم نعهدها من قبل، سواء في الدول الصناعية المتقدمة، أو في دول كانت وقت انتهاء الحرب العالمية الثانية جزءا من العالم الثالث الفقير. فالثورة الليبرالية في الفكر الاقتصادي كانت تسبق أحيانا، وأحيانا تتلو، الاتجاه صوب الحرية السياسية في مختلف بقاع الأرض ".

بيد أن خطاب النقد الذاتي الأمريكي قد نهض بدوره في دحض مزاعم نهاية التاريخ عند الليبرالية الاقتصادية، وأبرز عواقب تسليم قيادة الاقتصاد والمجتمع لدعاة السوق الحرة، كما عبرت عن هذا وذاك إدارة ريجان. والواقع، أن تدهور القوة الاقتصادية الأمريكية، وتراجع جاذبية المثال الليبرالي الأمريكي ، قد انعكس في مؤشرات كمية تفسر، إلى حد بعيد، سقوط بوش والجمهوريين ونجاح كلينتون والديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتكشف هذه المؤشرات، العبء الباهظ الذي حمله دعاة الليبرالية الاقتصادية والسوق الحرة للمجتمع والاقتصاد في الولايات المتحدة، فضلا عن أعباء تصعيد السباق الذي استهدف التعجيل بإسقاط الشيوعية السوفييتية.

ونلاحظ، أولا - إن سياسات " الليبرالية الاقتصادية " التي تبنتها إدارة ريجان ثم إدارة بوش لم تؤد إلى تحقيق الهدف التقليدي لتيار الليبرالية الأمريكية الذي يجسده الحزب الجمهوري وهو زيادة حجم الكعكة. وهكذا، بينما لم يتعد معدل النمو للولايات المتحدة نحو 3.4% بين عامي 1980 و1990، بلغ هذا المعدل نحو 4.1% لليابان في ذات الفترة.

وثانيا - إن سياسات الليبرالية الاقتصادية، التي لم تأخذ على عاتقها تقليديا مهمة " التوزيع العدل للكعكة " في ارتباطها الاجتماعي، قادت إلى مزيد من تدهور سوء توزيع الدخل وتفاقم المشكلات الاجتماعية في مجالات التوظيف والصحة والإسكان والتعليم وغيرها، وهكذا فقد تراوح معدل البطالة بين 5.3% و6.4% في عامي 1989 و1991 وفي الولايات المتحدة مقابل 2.3% و2.1% في اليابان في ذات العامين. وأوضحت تقارير أمريكية حكومية عن توزيع الدخل أن أغنى 20% من العائلات نال 46.8% من الدخل في عام 1989 مقابل 44.2% في عام 1979. وخلال الثمانينيات حصل ال 1% الأكثر ثراء في الولايات المتحدة على 70% من الزيادة في الثروة القومية الأمريكية. وقدر أن حوالي 37 مليون أمريكي لا يتمتعون بأي نوع من التأمين الصحي في عام 1992.

وفي حملته الانتخابية عرض كلينتون الاتجاهات الأساسية لاستراتيجيته الاقتصادية في محاضرة مهمة بجامعة جورج تاون.

والواقع، أن انتصار الولايات المتحدة ومعها الدول الصناعية المتقدمة في الحرب الباردة وفي الصراع الاقتصادي بين الرأسمالية الليبرالية والشيوعية السوفييتية، يرجع بدرجة أساسية إلى قدرة الرأسمالية الصناعية على تجديد نفسها، وعلى أساس هذه القدرة تمكنت من الارتقاء المتواصل بآليات التقدم الاقتصادي، وقادت الثورة العلمية - التكنولوجية والثورة الصناعية - التكنولوجية في حلقاتها الأحدث بعد أن كان لها فضل الريادة في تحقيق إنجازات الحلقات الأولى لهذه الثورات. وقبل التدهور النسبي للقوة الاقتصادية - التكنولوجية للولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين، فإن تجديد الليبرالية الأمريكية بدءا من ال NEW DEAL في عهد روزفلت منذ الثلاثينيات وحتى ال WELFARE SOCIETY في عهد كيندي في الستينيات كان عاملا حاسما في تفوق وقدرة وجاذبية نموذج الليبرالية الأمريكية.

وقد عبر الميثاق الجديد، الذي طرحه الرئيس كلينتون، عن هذا التراث للحزب الديمقراطي الأمريكي، وإن جاء هذا التعبير معدلا بما شهده الحزب والولايات المتحدة والعالم بأسره من تغييرات جذرية. وبوجه خاص فإن هذا الميثاق يتبنى بشكل متوازن ضرورات " زيادة حجم الكعكة " ومقتضيات " التوزيع العادل للكعكة ". أو بعبارة أخرى فإنه يرفع رايات السوق الحرة والإصلاح الاجتماعي، الكفاءة الاقتصادية وعدالة التوزيع، السوق والتخطيط، دور الدولة والمبادرة الفردية.. الخ. وليس هذا تعبيرا فقط عن التطور الفكري للتيار الليبرالي الذي يعبر عنه الديمقراطيون الجدد في تخليهم عن الكينزية، وإنما يعكس ضرورة تجاوز مأزق الاقتصاد والمجتمع الذي ترتب على أعباء الحرب الباردة وقسوة الليبرالية الاقتصادية.

وهكذا، يؤكد الخطاب الاقتصادي لكلينتون على ضرورة إعادة التصنيع، والارتقاء بالتعليم والتدريب ،وتطوير البحث العلمي والتكنولوجي للإنتاج المدني، والاستثمار في رأس المال البشري، وخفض الإنفاق العسكري.

ويبرز الخطاب ضرورات توفير الأمن الصحي وتقديم الدعم لمحدودي الدخل من أجل التعليم والتدريب، وتخفيض الضرائب على دخول الطبقة الوسطى وزيادتها على الشركات الكبرى والأغنياء، وتقليص الانقسام الاجتماعي والعرقي في المجتمع. كما يؤكد برنامج كلينتون تطوير القدرة الاقتصادية الأمريكية باعتبارها أهم مرتكزات الأمن القومي الأمريكي ويلوح بفرض الحماية التجارية بوجه حلفاء الأمس.

والواقع أن التحلي بالروح البرجماتية أو العملية، فضلا عن مراعاة البعد الاجتماعي للتنمية الاقتصادية، وإعمال مبادئ سيادة القانون وتداول السلطة، هو بالذات ما سمح لاقتصاد السوق " الاجتماعي " بأن ينتصر على اقتصاد الأوامر " الاشتراكي ". وتبرز برجماتية كلينتون بوضوح في تأكيده أن الميثاق الجديد ليس ليبراليا ولا محافظا، وإن الأمريكيين واقعيون لا يهتمون بشعارات اليمين أو اليسار، وإنما يهتمون بطرح حلول واقعية للمشكلات القائمة.

 

طه عبدالعليم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات