أم كلثوم.. معجزة الغناء العربي فريد أبوسعدة

أم كلثوم.. معجزة الغناء العربي

تأليف الدكتورة رتيبة الحفني

في حديث للسيدة أم كلثوم سيدة الغناء العربي سئلت فيه عن شعورها عندما تسمع صوتها فقالت: " شعور بالضيق ، وسبب ضيقي أنني عمري ما رضيت عن أدائي لأغنية من أغنياتي.. عمري ما اعتقدت أنني نجحت في أداء أغنية مائة بالمائة ".

يروى عن أم كلثوم أنها بالرغم من هذا النقد المبالغ فيه ، كانت أحيانا تعجب بغنائها ، فعندما تكون وحدها وتعجبها ( حركة ) في أغنية ، تصيح كما يفعل أي سميع: يا شيخة مش كده.. ده جنان.. إيه ده !!. في الغرب قالوا إنها أشهر من "جان دارك " وأنها تفوقت على "أديث بياف" و"ماريا كالاس".

كانت عضو شرف في جمعية " مارك توين " الأمريكية منذ 1953 زميلة لأيزنهاور وتشرشل وروزفلت وفي جولاتها الغنائية ، بعد النكسة ، قدم لها أهل " فاس " شمعة خضراء طولها متر مرصعة بالذهب الخالص ، وفي تونس أحاطوها على المسرح بـ 280 ألف زهرة قرنفل ، وخرج أهل الكويت يرشون فنانتهم بالعطر. قال لها ديجول عندما غنت في باريس: "لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا".

لا بد أن هناك الآن عشرات الألوف من آنسات والأمهات ، في سن السابعة والعشرين ، أسمهن أم كلثوم فقد أطلق السودانيون والتونسيون والمغاربة اسم فنانتهم على مواليدهم الإناث. أستطيع أن أذكر تفاصيل أكثر ، والكتاب حافل بها ولكن هذا لا يعني شيئا لأن محبة أم كلثوم أعمق من كل هذا. "أم كلثوم معجزة الغناء العربي" هذا الكتاب ليس بالطبع أول الكتب التي تحدثت عن أم كلثوم وليس آخرها بالقطع ، لكنه كتاب مغر ، مثير للفضول ، مؤلفته متخصصة في الموسيقى والغناء ، فماذا تضيف رتيبة الحفني إلى معرفتنا بأم كلثوم.

تقول أم كلثوم: "في بداية حياتي الفنية كنت أتنقل بين القرى والعزب والكفور أحيي الحفلات والأفراح وكثيرا ما اضطرتنا الظروف إلى السير على الأقدام مسافات طويلة لكي نلحق بآخر قطار فإذا فاتنا القطار فإننا ننام على رصيف المحطة". وحينئذ بدأت أم كلثوم تشتهر وأصبح صيتها مدويا في النجوع والقرى المجاورة أراد والدها الشيخ إبراهيم أن يعاملها الجميع معاملة المطربين الكبار ، فأصبح يشترط في العقد مع صاحب الحفلة أن يقدم الحمير للمطربة والموسيقيين!! وأن يكون من حقها تناول زجاجة كازوزة بين وصلات الغناء.

كان لقاء أم كلثوم والشيخ أبوالعلا محمد علامة مهمة في حياتها الفنية ، سمعت صوت الشيخ من فوتوغراف العمدة فشعرت أنه يغني لها وحدها ، وعندما التقيا مصادفة على رصيف محطة السنبلاوين أمسكت بيده وألحت عليه أن يأتي معهم لزيارتهم في بلدتها " طماي الزهايرة " و" دخلت على أمي وأنا أكاد أطير من شدة الفرح وقلت لها إن أهم إنسان في الدنيا سيتناول معنا طعام الغداء ، كل حاجة عندك قدميها له ، ادبحي الفراخ اللي عندك واللي عند الجيران ". وغنى لها وغنت له واقترح على الشيخ إبراهيم أن يترك (طماي) وينتقل إلى القاهرة: مستقبل ابنتك أكبر من طماي وحرام عليك تحبس هذه الموهبة فى قرية صغيرة .

وذهبت أم كلثوم إلى القاهرة ولم تفترق عن الشيخ أبو العلا محمد حتى مات (علمني الشيخ أن أفهم الكلام قبل أن أحفظه وأغنيه ، فقد كنت أردد الكلام بلا فهم ولا اهتمام ، بدأت الكلمات غير المفهومة تتعثر في فمي وترفض الخروج من شفتي).

في القاهرة سنة 1926 كانت قد تعرفت وكونت أول تخت لها من الفنانين محمد العقاد (قانون) سامي الشوا ( كمان ) محمد القصبجي ( عود ) محمود رحمي ( إيقاع ) وبعض المذهبجية ( من بينهم أخوها خالد ) .

وفي العام نفسه تغير زي أم كلثوم من البالطو وكوفية وعقال إلى ملابس حديثة مع رداء رأس من (التول) كما انتقلت من (بيت الدري) بشارع قوله بحي عابدين إلى عمارة (بهلر) المطلة على قصر عائشة فهمي بالزمالك.

كان صعود نجم أم كلثوم مقلقا لكل من منيرة المهدية (سلطانة الطرب) فتحية أحمد (مطربة القطرين) ومن يتابع مجلات (المسرح) ، (كوكب الشرق) ، (الناقد) ، (الصباح) ، (السائح) 1926 - 1930 سيجد أخبار حرب ، ربما تثير لدينا الابتسام الآن ، ولكنها بلا شك كانت حرب إزاحة لم تتعفف عن شيء.

وصل الأمر إلى حد أن ترسل سلطانة الطرب رجالها يرشون بودرة العفريت على جمهور أم كلثوم واستخدمت أنوثتها في الإيقاع بصحفي من مجلة المسرح ، توهمه أنها تحبه فيجند المجلة للهجوم على أم كلثوم.

هناك الكثير ، في الكتاب ، من مظاهر هذه الحرب ، ولم تكن المنافسة بين المطربات الثلاث فقط بل اشتعلت أيضا بين أم كلثوم وعبدالوهاب ولكن الحرب هذه المرة لم تكن بالقسوة والتدني اللذين تميزت بهما حروب النساء بل وربما كانت المنافسة سببا مهما في التجديد والتطوير مما أغنى الغناء العربي ، كان يوسف وهبي يؤجر مسرحه مرتين شهريا مرة لأم كلثوم وأخرى لعبدالوهاب ، ولأنهما قيمتان كبيرتان ، انقسم الجمهور بينهما ، وبذلت محاولات عديدة للجمع بينهما في عمل فني واحد ، حاول ذلك طلعت حرب من خلال تمويله لفيلم عن ألمظ وعبده الحامولي وفشلت المحاولة لأن عبدالوهاب كان يصر على تلحين جميع أغاني الفيلم وأم كلثوم تصر على أن يلحن أغانيها ملحنوها القصبجي - زكريا - السنباطي تتلمذت أم كلثوم على يد الشيخ أبو العلا محمد ، ثم تعرفت محمد القصبجي في 1924 ومنذ ذلك التاريخ لم يفترق عنها ، كون لها أول (تخت) واختار لها مسرح "دار التمثيل العربي" لتقدم فيه حفلاتها.

وفي عام 1928 عاد أحمد رامي من بعثته في فرنسا وجاء بلون جديد من القوالب الغنائية هو المنولوج ، وهو لون من الغناء الفردي الرومانسي ، أعجب القصبجي فلحن تحفته الفنية ، التي أصبحت نقطة تحول في تاريخ الغناء العربي ، "إن كنت أسمح وأنسى الأسية" وسجلتها أم كلثوم على اسطوانة بيع منها مليون نسخة. دفع هذا الأسلوب الجديد الملحنين المعاصرين ، ومن بينهم عبدالوهاب والسنباطي ، إلى تقديم ألحان عديدة . وفي 1920 كانت قد تعرفت زكريا أحمد ، ومنذ اختطف هذا الصوت -صوت أم كلثوم- هذا الملحن الكبير وهما يعملان معا.

أدخل زكريا أحمد الجديد على الطقطوقة ، وكانت تصاغ من نغمة واحدة فجدد في أوزانها وجعل لكل مقطع نغمة خاصة ، كما جدد في تلحين القصائد فلحن قصيدة " قولي لطيفك ينثني " من نغمات عديدة ، وجعل لكل مقطع منها لحنا قائما بذاته ، وأدخل لأول مرة في الغناء العربي (القصة الملحنة) كما في "أهل الهوى" وكذلك أدخل الجمل الكلامية التي تتخلل الأغنية كما في "قوللي ولا تخبيش يا زين" .

أما ثالث الفرسان ، رياض السنباطي ، فقد كان اللقاء الأول بينهما على رصيف محطة قطار الدلتا ، في قرية ( درين ) ، كانا عائدين من إحياء ليالي الأفراح ، هي تصاحب والدها ورياض ( بلبل المنصورة ) يصاحب والده أما اللقاء الفني فكان عليه أن ينتظر حتى 1936 حين لحن لها "النوم يداعب عيون حبيبي" وجد رياض في صوت أم كلثوم ضالته المنشودة ، ومن أشهر القوالب الغنائية التي اشتهر السنباطي بتلحينها القصائد ، حيث قدم بعد تجارب عديدة قالبا جديدا للقصيدة الحديثة.

لقاء السحاب

بعد هذا الثلاثي الكبير أو ( الفرسان الثلاثة ) ، بدأت أم كلثوم التعامل مع الملحنين الشبان محمد الموجي ، كمال الطويل ، بليغ حمدي سيد مكاوي ، كلفت الموجي تلحين "أنقروا الدفوف" و"حانة الأقدار" من أغاني فيلم رابعة العدوية ، وكلفت كمال الطويل تلحين " لغيرك ما مددت يدا " لنفس الفيلم.

يقول الموجي: عندما أسمعتها حانة الأقدار قالت: هذه أول مرة يهزني لحن بهذا الشكل ، بالمقابل أذكر أنها بهدلتني وأرهقتني كثيرا في أغنية للصبر حدود..

والتقى بليغ أم كلثوم في ضربة من ضربات الحظ ، كان في بداية الستينات قد بدأ طريقة ملحنا ناشئا يبحث عن النجاح في عالم التلحين بعدما جرب الفشل كمطرب محترف في عالم الغناء.

رتب محمد فوزي لقاء بينهما ليسمعها لحن "حب إيه إللي انت جاي تقول عليه" و"أعجبها واستعادت اللحن مرة ومرتين وثلاثا.. وطلبت أن أفوت عليها بكرة". واستطاع أخيرا الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن يجمع بين العملاقين أم كلثوم وعبدالوهاب. وكانت "إنت عمري". يقول عبدالوهاب: "كنت في تلك الفترة ألحن أغنية أنت عمري لأغنيها بصوتي وبعد أن انتهيت من تلحين بعض مقاطعها اكتشفت أن هذه الأغنية مع بعض التعديلات في اللحن تصلح بداية للعمل الفني المشترك فأسمعتها بداية اللحن في التليفون فأعجبت بها ".

يقول فيكتور سحاب: نجاح الأغنية والتقاء كبير الملحنين أعظم المغنيات ينبغي ألا يعني بالضرورة أن ألحان عبدالوهاب هي أعظم أغنيات أم كلثوم ولكن أم كلثوم كانت قبل عبدالوهاب تغني للخاصة فلما لحن لها استمع إليها العامة ، فكانت أغنياته لها مدخلا إلى جماهيرية أكبر " ويقول عبد الوهاب أنه استطاع تقريب أم كلثوم من أذواق الشباب وأنه لو لم يتجنب الطريق التقليدي لألحان أم كلثوم لما استطاع أن يبلغ هذا الهدف الذي كان في حينه ذا أهمية كبيرة بعدما بلغت أم كلثوم مرحلة متقدمة من السن والتفاف الشباب حول المطرب المعبر عن وجدانه وهو عبدالحليم حافظ.

وتفاجئنا رتيبة الحفني بأن أم كلثوم ألفت شعرا ، كتبت قصيدة "تبارك من تعالى في علاه" وغنتها ، كما كتبت موشحا دينيا بإسم "يا حبيبي يا محمد" لحنته وغنته. تقول أم كلثوم: "غنت مرة للجمهور" سبحان من أرسله رحمة" فصفر الجمهور وراح يصيح عاوزين هات القزازة واقعد لاعبني وليلتها لم اغضب من الجمهور. .فإنه معتاد على ما يقدم إليه.. وفكرت في أن أعوده على أشياء أخرى.

وبعد مشوار طويل مع الشعر تعاملت فيه مع كبار الشعراء القدامى والمعاصرين وبعد أن أصبح هذا المشوار ثورة في الغناء العربي قالت: ( أعتقد أن أهم ما يمكن أن يكتب عني بعد موتي أنني نقلت الجمهور من الإسفاف الغنائي الذي كان يعيشه من أغاني أرخى الستارة اللي في ريحنا إلى مستوى " إن حالي في هواها عجب ، "الصب تفضحه عيونه ، " ورباعيات الخيام " ).

وتعترف أم كلثوم لأحمد رامي بالفضل فتقول: " هو الذي جعلني أتعلق بالشعر حتى تمنيت يوما أن أكون شاعرة وأحس رامي بهذا وكان يقول: لا عليك أن تكوني شاعرة ، إن تذوق الشعر وحده موهبة ".

الصوت يتحدى

تقول رتيبة الحفني إن صوت أم كلثوم أكثر الأصوات ضبطا لأن معادلته الرياضية تكاد تتطابق مع المعادلة الرياضية للسلم الموسيقي الطبيعي.

وأثبتت الأجهزة الإلكترونية أن ترددات صوت أم كلثوم تبلغ 3996.5 ذبذبة في الثانية وكان الصوت الثاني بعدها هو صوت الشيخ الشيخ محمد رفعت وبعدهما في الترتيب صوت صالح عبدالحي.

وتقول أن صوت أم كلثوم له مساحة من الدرجات الموسيقية يمكن قياسها ب 2 أكتاف أي " ست عشرة نغمة ". ويقول إلياس سحاب " عظمة أم كلثوم قد فرضت نفسها إلى درجة أن كل الملحنين الذين تعاملوا معها كانوا يدورون في فلك صوتها أكثر مما دار صوتها في فلك ألحانهم ". ويقول كمال النجمي: " لقد أسهم صوت أم كلثوم إسهاما جوهريا في خلق أساليب التلحين العربية المتطورة ، وأتاح للملحنين أن يجربوا آفاقا شاسعة ما كانت تخطر لهم على بال لولا وجود هذا الصوت ".

وهذا يفسر التفاوت الكبير في ألحان السنباطي يقول النجمي: " ملحنان مختلفان في المقدرة والإبداع ، ولكنهما ملحن واحد إسمه رياض السنباطي ، يبلغ القمة حين يضع لحنا لأم كلثوم ويأتي بخوارق تدهش العقول.. فإذا اقتضت الضرورة أن يضع لحنا لمطربة كأنه ملحن لم يأت بشيء من الخوارق الفنية.. ويبدو عندئذ كأنه ملحن آخر من طبقة أقل بكثير من طبقة السنباطي " ومن الطريف أن نذكر هنا أن لأم كلثوم تجربيتن في التلحين هما: طقطوقة " على عيني الهجر ده " من مقام الراست وسجلت على أسطوانة جرامفون 1928 ، ومنولوج " يانسيم الفجر " من مقام حجاز كار مسجلة على اسطوانات اوديون 1936.

أجادت أم كلثوم العزف على العود ، أخذت أصول العزف على يد ملحنها أحمد صبري النجريدي ثم على يد إبراهيم القباني ومحمد القصبجي و داود حسني وكانت تصاحب غناءها بالعود وتتوسط تختها في مطلع الثلاثينات وهي ممسكة بالعود: ثم تفرغت للغناء وحده. غنت أم كلثوم الدور والطقطوقة والمنولوج والقصائد والأغنية الوطنية ،وبالرغم من تخصيص رتيبة الحفني فصلين عن " أم كلثوم وأسلوبها في الغناء " ، " القوال الغنائية التي غنت منها " فلم تضف إلى معلوماتنا ما كنا نتوقعه من مؤلفة متخصصة في الموسيقى والغناء.فلم تشرح الفروق بين الدور والطقطوقة والمنولوج والقصيدة ، ولم نعرف التطوير الذي أحدثته في هذه القوالب. وبينما حشدت الكتاب بآراء فنية لمؤلفين آخرين فإنها لم تناقش هذه الآراء. كما لم تحقق أو تراجع القصائد التي أوردتها في الكتاب فلم تسلم من الأخطاء العروضية وهي قصائد لا يرقى الشك إلى أصحابها الفحول !!

ثم أفردت فصلا عن الأوسمة والنياشين التي كرمت بها والأقوال التي قيلت عنها أو قالتها هي عن آخرين ولكن عبقرية بهذا الحجم تتضاءل أمامها الأوسمة ولا تمسك بها الصفات.

 

فريد أبوسعدة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أم كلثوم معجزة الغناء العربي