أرقام محمود المراغي

أرقام

المياه: لعبة المال والقوة

في صيف 1995، بدت أزمة المياه العربية على أشدها.. تعثرت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وكان من أبرز أسباب التعثر مشكلة المياه، ورغبة إسرائيل في أن تكون السلطة التي تسمح، وتمنع.. تعطي وتحجب، تسمح بحفر الآبار التي وهبها الله للضفة الغربية أو غزة أو تقول: "فيتو"! وفي نفس الوقت كان الملك الحسن يطلق على ما حدث في المغرب أخيرا كلمة "جفاف القرن" وكان المسئولون هناك يقولون إن ما يصادف المغرب، ومنذ وقت مبكر في التسعينيات، هو أسوأ جفاف في تاريخه الحديث، فالأمطار تتأخر، وكمياتها تشح.. بينما تعتمد (90%) من الأراضي على هذه الوسيلة القدرية في الري.. المطر!

وفي مصر، وعقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك، ثارت ثائرة الدولة حين هدد البعض في الخرطوم بقضية مياه النيل، وحصة مصر.. وأصدر وزير الري المصري تحذيراته، بينما كانت توقعاته تقول "وفي ظل الوضع القائم ودون أي حصار على المياه قد تواجه مصر مشكلة مياه خلال خمس سنوات". أيضا وفي نفس الصيف صيف 1995 كانت محادثات (تركيا سوريا العراق) حول الفرات مستمرة، وكانت ليبيا ماضية في جهودها لتنقية مياه البحر وتوزيع الماء عن طريق النهر الصناعي الذي أسمته "النهر العظيم ".

و.. هكذا بدت الأزمة واضحة لا يكاد ينجو منها كثيرون.. فجناح آخر من الدول العربية وهي دول الخليج كان قد رتب أموره وفقا للإمكانات التكنولوجية التي تسمح بتحلية مياه البحر، وبصرف النظر عن التكلفة.

ولكن.. هل هي أزمة عربية، أو شرق أوسطية؟ تقارير البناء تنفي ذلك وتقول: "بل أزمة عالمية".

..رقم صادم!

في أغسطس العام، 1995، صدر تقرير للبنك الدولي حول أزمة المياه العالية. الرقم الصادم في التقرير وربما يكون هو الجديد فيه أيضا، هو أن (80%) من أمراض مواطني العالم الثالث تحدث بسبب المياه الملوثة.. وأن (10) ملايين شخص يموتون سنويا بنفس السبب، وأن هناك مليار شخص في الدول النامية يعانون من نقص مياه الشرب النقية! الرقم كما قلت يصدم العين والعقل فمعناه أنه لو توافرت مياه نقية لنجا (80%) من مرضى العالم الثالث، ولما كانت الأمراض التي تخيفنا من سرطان وإيدز وأمراض قلب ذات شأن كبير، فها هي النسبة الأعظم تأتي من المعدة وبسبب كوب ماء ملوث!

إنها المأساة في عالم يصعد إلى القمر، ويلهو فيه أبناء الدول الغنية بالحجز في رحلات الفضاء! و.. مع ذلك، فليس ذلك هو الأخطر طبقا لتقرير البنك الدولي. الأخطر هو نقص المياه، وليس تلوثها.. فالتلوث تعالجه اعتمادات مالية.. أما الندرة ، فهي الأشد بأسا وخطورة.

في تقرير البنك الدولي، أغسطس 1995، أن (80) دولة في العالم تضم (40%) من سكانه.. مهددة بنقص المياه.. وأن القرن المقبل سوف يشهد تفاقم الأزمة وتأثيرها على الزراعة والصناعة والصحة العامة.. والأهم وطبقا لنبوءة البنك الدولي فإنها سوف تتحول إلى صدامات وصراعات وحروب. وتوقع حرب المياه ليس جديدا، لكن الجديد أن تكون الأزمة بهذا الاتساع والشمول، حتى تكاد تغطي نصف البشرية.

أيضا فليس جديدا أن تتركز الأزمة بدرجة أكبر في الدول النامية.. لكن الجديد هو تلك العلاقة العميقة بين المياه والصحة والحق في الحياة.

هل نقصت مياه الأنهار التي عاش عليها البشر آلاف السنوات؟ هل نقصت الأمطار التي تغذى الأنهار، كما تغذي الزراعة وأوجه الحياة الأخرى بشكل مباشر؟ هل زاد استهلاك البشر، الذين تسجل أعدادهم مضاعفة لم يشهدها التاريخ من قبل.. و..كل ذلك في القرن العشرين؟

والإجابة عن كل ذلك: "نعم ".. فالجفاف والتصحر وبوار الأرض والحرث والزرع، وهلاك الحيوان والإنسان.. ظواهر عرفتها مناطق عديدة في العالم طوال السنوات الأخيرة.. وانخفاض معدل الأمطار، والتغيرات المناخية أشياء تشهدها بلدان كثيرة آخرها المغرب التي تقم بحملة قومية وتجمع التبرعات من المواطنين لمواجهة المشكلة..

وبطبيعة الحال، فإنه مع الانفجار السكاني يزداد استهلاك كل شيء، وفي المقدمة: المياه التي تصنع الحضارة.. بدءا من زراعة تغطي الاحتياجات.. إلى صناعة تخلق التقدم.. وامتدادا إلى ري الظمأ لمليارات البشر الذين يتزايدون كل عام.

..والحل؟

في قراءة المستقبل أن الأثرياء أكثر قدرة على مواجهة المشكلة.. فمياه البحار والمحيطات تغطي الجزء الأكبر من الكرة الأرضية.. وهي مياه لا تنفد، لكن تحويلها إلى ماء صالح للشرب، أو للزراعة، أو للاستخدام الآدمي.. كل ذلك يحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة وإلى اعتمادات كبيرة، مما جعل البعض يقول " إن ثمن كوب الماء سوف يزيد على ثمن كوب من البترول".

المقولة صحيحة، لذا فإن تركز الأزمة في العالم الثالث.. و.. وفقا لمنظور البنك الدولي وهو أكبر ممول لمشروعات المياه في العالم فإنه يمكن نزع فتيل المشكلة.. والتكلفة ستمائة مليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة. البنك الدولي سوف يدفع نصف المبلغ، أو نحو ذلك ، والتمويل الذاتي لا بد أن يغطي بقية التكلفة، وهي ليست عالية: ثلاثة مليارات من الدولارات كل عام.. صحيح، أنها مع ما يدفعه البنك العالمي ستوفر نزع الفتيل فقط وليس تقديم حل جذري.. ولكن أليست بداية ضرورية؟

السؤال أكثر إلحاحا في منطقتنا العربية التي تتداخل فيها عوامل السياسة والاقتصاد والحرب.. لقد استيقظ الوطن العربي منذ أكثر من ثلاثين عاما على مشروع تحويل مجرى نهر الأردن، وهبت الجامعة العربية ودولها مجتمعة للتصدي لما جري.. ولكن شيئا حاسما لم يحدث.

المشكلة حينذاك، وربما حتى الآن، أنها ذات ثلاثة أبعاد.. موارد مائية لا بد أن تزيد بالسدود وأنظمة الري والتكنولوجيا الحديثة، واستخدامات للمياه لا بد من ترشيدها.. ثم، وهذا هو البعد الثالث: قسمة عادلة لما يتوافر عن مياه .

إن الأنهار تعرف السدود، ولا تعرف الحدود.. تعرف محاولات التنظيم ولا تعرف تلك الخطوط الوهمية التي نرسخها فرق الخرائط.

لا شيء في الطبيعة يفصل غير حاجز طبيعي.. ولا شيء في الحياة يفرض الأمر الواقع غير اعتبارات القوة.. وقد فقد العرب قوتهم أمام إسرائيل، فأخذت نصيب الأسد على حساب جيرانها.. ونكاد نفقد قوتنا أمام تركيا التي تساوم على ما لديها من منابع للأنهار. المياه، في القرن المقبل، هي لعبة القوة.. ولعبة المال.. فهل نحن مستعدون؟

التقارير الدولية تحذر ، وعلماؤنا يقدمون النصح، لكن القرار السياسي باقتحام جاد للمشكلة لم يحدث ..

إننا لم نحرس في حالات كثيرة أرض الوطن .. فهل نحرس المياه ، أكسير الحياة وسر استمرارها؟ ما زال في الوقت متسع.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات