... ولا إكراه في الاعتراف!

... ولا إكراه في الاعتراف!

الإنسان مخلوق مكرّم, كرّمه الله سبحانه وتعالى بنفسه, إذ يقول: ولقد كرّمنا بني آدم , وهو بهذه الصفة - صفة التكريم الإلهي - له حقوق ليس لأحد أن ينتهكها حتى هو نفسه, ولا حق لأحد أن يهدر حريته, ومن هذا المبدأ تنبثق حقوق الإنسان في الإسلام.

أقرّت الشرائع السماوية حقوق الإنسان - عبر أزمان متطاولة - إلى أن استقرت - بعد كفاح طويل - في إعلانات حقوق الإنسان, وفي المواثيق الدولية, وفي الدساتير المعاصرة. ولكن حقوق الإنسان العربي والمسلم تتعرّض لانتهاكات عدة في معظم أرجاء وطننا العربي والإسلامي, بدءاً بالتضييق على حرياته الشخصية والفكرية, أو الانتقاص من حقوقه المدنية, وانتهاء بحرمانه من حقوقه السياسية, وسجّل معاناة الإنسان العربي مع حقوقه وحرياته طويل ومرير, بدءاً بالعصر الأموي, ومروراً بالعصور الإسلامية المختلفة, وانتهاء بالعصر الحديث, ولطول المعاناة واستمراريتها, أصبحت التجاوزات والانتهاكات إحدى حقائق حياتنا المعاصرة في عالمنا العربي والإسلامي, يتعايش معها المواطن العربي والمسلم وتصطبغ بها ثقافته. ومع كل ذلك فمعاناة الإنسان غير المتهم لا تقارن بما يعانيه حين يقف متهماً أمام سلطات التحقيق والاستجواب, فهو حينئذ أحوج ما يكون إلى ضمانات تحميه من الأعمال التعسفية, كالقبض عليه أو حبسه أو إكراهه أو إنزال العقوبة به دون وجه حق. وإذا كان من حق المجتمع ممثلاً في سلطات التحقيق أن يحمي نفسه, بأن يقيد حرية المتهم بالقدر الذي تستلزمه ضرورة التحقيق والمحاكمة, فإنه من جانب آخر, فمن حق المتهم أن يُعطي الضمانات الكافية للدفاع عن نفسه, انطلاقاً من قاعدة أساسية منبثقة عن حقوق الإنسان, تقرر: (إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته) وحق الدفاع حق قديم, جاء في الشرائع السماوية, وأكدته إعلانات الحقوق والمواثيق والدساتير, التي حرصت على ضمان سلامة إرادة المتهم أثناء التحقيق والاستجواب, فحرّمت اللجوء إلى التعذيب, واعتبرت الدعوى الجنائية الناشئة عن هذه الجريمة - جريمة التعذيب - لا تنقضي بالتقادم, وجعلت الاعتراف الناشيء, عنها باطلاً, ورتّبت جزاءات تأديبية وجنائية وتعويضية على المخالفة, وقد كان المشرّع الدستوري حريصاً على كرامة المتهم وسلامة إرادته أثناء الاستجواب, إذ رتّب على مخالفة الإجراءات القانونية في الاستجواب, جزاءين: إجرائي ويتمثل في (بطلان الاستجواب بطلاناً مطلقاً), وجزاء جنائي (وذلك إذا توافرت في المخالفة عناصر الجريمة المنصوص عليها في القانون).

أما في الفقه الإسلامي, فقد ذهبت جماهير الفقهاء من الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية إلى تحريم الإكراه مطلقاً, إذ لا اعتداد بإقرار المكره.

يقول ابن قدامة: (ولا يصح الإقرار من المكره, فلو ضُرب الرجل ليُقرّ بالزنا, لم يجب عليه الحد, ولا نعلم من أهل العلم خلافاً في ذلك).

ويقول الزُرقاني (وإن أكره من قاض أو وال على الإقرار بها, بوعيد أو سجن أو ضرب, فلا يلزمه شيء منها, ولو أخرج السرقة, لاحتمال وصول المسروق له من غيره).

وفي المبسوط للسرخسي (ولو أن قاضياً أكره رجلاً بتهديد ضرب أو حبس حتى يقرّ على نفسه, كان الإقرار باطلاً).

رأي واستدلال

وفي مقابل رأي الجمهور, هناك رأي لأقلية من الفقهاء (سحنون من المالكية, والماوردي من الشافعية, وبعض متأخري الحنفية) وتزعّم هذا الرأي العلامة ابن القيّم الذي بلور هذا الرأي ونظرّه ,فرتّب المتهمين على ثلاث طبقات: طبقة أهل الصلاح والبر والفضل, وهؤلاء لا يتم إكراههم (أو حتى سؤالهم, بل قد يُعزّر من اتهمهم), وطبقة أهل الفجور والفساد, وهؤلاء يحبسون ويضربون حتى يعترفوا, وطبقة غير معروفة لا ببرّ ولا فجور, وهؤلاء يُحبسون حتى ينكشف حالهم. وهذا الرأي لا وزن له, ولا سند شرعياً يدعمه, رغم انخداع بعض المعاصرين به, وترديدهم لرأيه باعتباره رأياً شرعياً.

ولخطورة هذا الرأي ومساسه بحقوق الإنسان وحرياته وكرامته, وتأثيره السيئ فيما يتعلق بالشريعة, يحسن أن نعرض حجج هؤلاء للمناقشة حتى نتعرف وجه الصواب فيها:

يستدل ابن القيّم ومن معه بالآتي:

- أن النبي صلى الله عليه وسلم, حبس رجلاً في تهمة يوماً وليلة.

- حديث ابن عمر عند البخاري, أن النبي صلى الله عليه وسلم, صالح أهل خيبر على ألا يغيبّوا شيئاً, وفيه, أن النبي أمر الزبير بتعذيب اليهودي عم حيي بن أخطب الذي خبّأ المال في خربة, حتى أقرّ به.

- أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين, ثم جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يزل به حتى أقرّ.

رد الأدلة

ويناقش ما سبق بأنه لا حجة فيه وأن رأي الجمهور هو الصحيح كما قرره الباحثون, لأنه هو المتفق مع قواعد العدل وأحكام الشريعة من كون المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته, وأما ما ذكروه من أدلة فنردها كما يلي:

- الاستشهاد بحبس النبي صلى الله عليه وسلم لمتهم, فالرواية فيها اختلاف من ناحية السند, لأنه عن بهز بن حكيم, وفيه خلاف مشهور في الاحتجاج به, وأقصى ما يبلغه هذا الحديث, أن يكون حسناً, وليس بمثل هذا الحديث يستحل المساس بكرامة الإنسان, ثم إن في بعض روايات الحديث, أن النبي حبسه في تهمة بدم, فلابد أن تكون القضية خطيرة كالجنايات مثلاً, ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم حبسه ساعة من النهار وهو وقت قصير, فضلاً عن أن المقصود بالحبس في زمنه (صلى الله عليه وسلم), تعويق المتهم ومنعه من التصرّف بنفسه, وذلك في المسجد, ولم يكن المقصود بالحبس, تعذيب المتهم أو إكراهه على الاعتراف, كما فهم ابن القيم ومن معه, وإنما حجز المتهم كما هو حاصل الآن في الحبس الاحتياطي في الجنايات, وفي بعض الجنح, عندما تكون هناك أدلة كافية على وقوع الجريمة من المتهم, وأن مصلحة التحقيق تتطلبه لجمع التحريات وحتى لا يهرب المتهم أو يؤثر على الشهود أو يزيل آثار الجريمة وحماية للمتم نفسه. (وعلى هذا يحمل قول الفقهاء بحبس المتهم في التهمة, فليس المقصود إكراهه على الإقرار, وإنما للتحقيق والكشف والاستبراء حيث توجد دلائل قوية على التهمة).

- وأما الاستشهاد بالزبير وتعذيبه لعم حيي, فلا يقاس عليه, لأن هذا عدو محارب, ومن شأن العدو أن يكذب, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بأن يمسه بعذاب حتى وجد قرائن على كذبه, وعلى العموم فهذه حالة استثنائية في الحرب, والحروب يباح فيها مالا يباح في غيرها, فلا يقاس عليها حالة السلم وبين المسلمين أنفسهم.

- وأما واقعة اليهودي الذي رضّ رأس الجارية, فليس فيها ما يدل على أنه قد هُدد أو ضُرب ليقر, ولا يوجد في متن الحديث على تعدد طرقه ما يشير إلى ذلك, كما أنه لم يشر إلى ذلك أحد من شراح الحديث, بل العكس صرح به الحافظ في الفتح, بقوله: (ينبغي للحاكم أن يستدلّ على أهل الجنايات ويتلطف بهم حتى يقرّوا ليؤخذوا بإقرارهم).

أدلة مضادة

وهناك مؤكدات كثيرة لرأي الجمهور فضلاً عمّا سبق, نذكر منها:

- نصوص القرآن والسنّة, أهدرت الإكراه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فلم يرتب على إقرار المكره بالكفر أثراً ولم يعاقبه عليه, فدل على أن إقراره لا يؤاخذ به.

وفي الحديث وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه, وقد سبق قول عمر ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوّعته أو ضربته أو وثقته.

- النصوص التي حرمت المساس بنفس الإنسان وماله وعرضه إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم حرام عليكم كما في خطبة الوداع.

- إن القيمة التدليلية للإقرار, هو كونه صدر عن صاحبه باختياره, ومن هنا ترجح جانب الصدق على الكذب, ومع الإكراه, يترجح احتمال الكذب, لأن الواقع تحت تأثير الأذى يدفعه إلى الإقرار وليس قول الحقيقة.

- إن القول بالإكراه يتعارض مع الأصل المجمع عليه عند الفقهاء (الأصل في الإنسان البراءة), فإذا كانت القاعدة هي البراءة, وهي ثابتة بيقين, فلا يزول هذا اليقين إلا بمثله, وإقرار المكره مشكوك فيه فلا يقوى على معارضة الأصل.

- إذا كانت الشريعة تفترض براءة المتهم, وتذهب إلى أن الخطأ في براءة متهم خير من الخطأ في إدانة بريء, وتدرأ الحد بالشبهة, وكذلك القصاص, فإن الشبهة القائمة في الاعتراف القسري بالإضافة إلى انتزاع الاعتراف, لا ينسجم مع إنسانية الشريعة واحترامها لكرامة الإنسان.

- إن الشريعة تفترض مسبقاً إقامة خصومة عادلة, يتضح ذلك سواء في المساواة أمام القانون في مجلس القضاء, أو في إتاحة الفرصة للمدعى عليه من أجل جمع أدلة الدفاع وإحضار البينة, فمن غير المنطقي أن تبيح الشريعة تعذيب المتهم أو ترتب على الاعتراف أي آثار, لأن هذا لا يتلاءم مع روح الشريعة, لأنه لا يحقق خصومة عادلة.

- إن اعتبار الإكراه وسيلة لإحقاق الحق, ذريعة إلى شرور لا تحصى, وخطأ في عفو خير من إصابة بظلم, وليس من أصل الشريعة أن الغاية تبرر الوسيلة, إنما الذي يتفق مع أصولها, أن تتكافأ الوسائل مع المقاصد في مشروعيتها.

- إن سد الذرائع يقتضي إبطال ما يفضي إليه الإكراه, لأن التعويل على ما يسفر عنه إقرار المكره, يُغري ضعاف النفوس بتعذيب المتهم, ولا يدرأ عن المتهم هذا الخطر تقرير حقه في القصاص ممن عذبه, وإنما يندرئ الخطر بإبطال إقراره وإهدار كل ما أسفر عنه, فلا ينبني صحيح على باطل.

الحق في التعويض

والملاحظ أن جمهور الفقهاء, لا يقصرون الإكراه المبطل للإقرار على التوعّد فحسب, بل بما يشمل الظروف التي انتزع فيها الإقرار - أيضاً - ولذلك يقول ابن عابدين: (الوعيد بالمنع من استعمال بعض الحقوق نوع من الإكراه, وأمر صاحب السلطان يعتبر في ذاته إكراهاً دون حاجة إلى اقترانه بالوعيد), وعن شريح قال: القيد كُره, والوعيد كُره, والسجن كُره وبناء على الأصل المقرر في الشريعة الإسلامية لا ضرر ولا ضرار يقرر الفقهاء, حق المتهم في القصاص ممن ظلمه, وحقه في التعويض المادي والمعنوي عن الأضرار المادية والمعنوية التي تلحق به من جراء سوء معاملته, بإهانة أو ضرب أو وعيد, وعن تعطله عن عمله بطول حبسه, وعن الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة عن قرار الاتهام والحبس, وذلك رفعاً, للضرر, وقمعاً للعدوان, ورعاية للحقوق, وجبراً للمتهم, وزجراً للمعتدين, وتزداد جسامة هذا العدوان على حقوق المتهم إذا صدر ممن يفترض فيهم صيانة هذه الحقوق, وتقدير التعويض مرجعه إلى القاضي.

وهكذا يتبيّن بكل وضوح وصرامة, أن الشريعة الإسلامية تحرّم كل أنواع الإكراه أو التعذيب, بل تعتبر التعذيب جريمة لا تسقط بمضي المدة. ومَن يقل إن الشريعة تقر الإكراه فإنه يرتكب إثمين: إثم استحلال كرامة إنسان مسلم, وإثم التقوّل على الدين بغير حق. ويتبين أيضاً سبق الشريعة الإسلامية إلى المحافظة على حقوق وكرامة الإنسان باعتباره مخلوقاً مكرّماً من قبل خالقه.

 

 

عبدالحميد إسماعيل الأنصاري