قناة.. وثلاثة بحار

قناة.. وثلاثة بحار

المخطط الإسرائيلي للسيطرة على فلسطين لم يتوقف عند حدود الاستيلاء على الأرض وتهجير سكانها, فمن البداية كان واضحا لدى مخططي إنشاء (دولة اليهود) أن الصراع سيمتد للسيطرة على جميع موارد المنطقة, ومن أهمها مصادر المياه, لذلك لم يتوان رواد الصهيونية الأول عن وضع مخططات لتحقيق هذا الهدف.

ليس سرا إن قلنا إن الصهيونية العالمية مدعومة من الدول الغربية قد بدأت منذ قيامها بالدراسات والمخططات حول المياه في المنطقة العربية التي كانت تحلم ببسط نفوذها عليها.

وكانت المياه هي أهم القطاعات التي درست في المنطقة بهدفين. الأول: تأمين المياه للمهاجرين اليهود الجدد إلى فلسطين. والثاني: تأمين المياه للاجئين الفلسطينيين الذين سيتم ترحيلهم من فلسطين إلى شرقي الأردن. ولعل الدراسة التي قام بها كل من يونيدس ـ مدير التنمية في شرق الأردن ـ وبليك ـ المستشار الجيولوجي لحكومة فلسطين ـ والتي نشرت عام 1939 وكانت بعنوان (مصادر المياه في شرقي الأردن وتنميتها) كانت أوضح الدراسات التي هدفت إلى معرفة مصادر المياه في شرقي الأردن, ولعدد السكان الذين يمكن أن تكفيهم هذه المياه.

وليست هذه هي الدراسة الوحيدة التي تظهر المطامع اليهودية في المياه العربية فهنالك كثير من الشواهد, وأهمها شعار الحركة الصهيونية المعروف من (الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل). والمتمثل في العلم الإسرائيلي. يتضح من هذا الشعار أن الهدف هو السيطرة على أكبر نهرين في الوطن العربي وما بينهما من مصادر مياه أخرى, بما فيها الليطاني ونهر الأردن وروافده والبحر الميت وجميع مصادر المياه في فلسطين. كما أن شق قناة تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الميت كانت حلما صهيونيا قديما راود هرتزل, وأعدت له منذ أكثر من مائة عام دراسات مختلفة ومسارات مختلفة ـ بلغت 27 مسارا إلى أن استقر الرأي الإسرائيلي على الدراسة الأخيرة والتي بوشر بتنفيذ بعض أجزاء منها قبل توقيع اتفاقية السلام مع الجانب الأردني.

من الأبيض إلى الميت

بعد حرب 1973 شكلت إسرائيل لجنة لهذا الغرض سميت (بلجنة اكشتاين) وتسلم البروفسور يوفال نيئمان في حكومة الليكود عام 1977 رئاسة هذه اللجنة. ووافقت الحكومة الإسرائيلية عام 1981 على البدء بتنفيذ هذا المشروع. وأسست لهذا الغرض شركة سميت (بشركة البحر الأبيض والبحر الميت), وأنهت الشركة عام 1982 وضع المخططات الأولية للمشروع, واحتفل بوضع حجر الأساس للمشروع عام 1983 حيث شارك في الاحتفال حملة السندات الإسرائيلية في الولايات المتحدة وأوربا.

ومن بين جميع المسارات التي اقترحت لهذه القناة منذ مائة عام اعتمدت لجنة يوفال نيئمان المسار الذي يبدأ من سواحل غزة وينتهي على شاطيء البحر الميت عند (ناهال يليم).

وعلى شواطيء غزة ـ وعند مستوطنة قطيف ـ سيتم إنشاء محطة ضخ لمياه البحر المتوسط باتجاه البحر الميت.

تبدأ القناة بجزء مكشوف طوله 1,6 كم ثم يلي ذلك أنبوب مدفون في باطن الأرض قطره 4,7م وطوله 5,3 كم يمر عبر قطاع غزة. وعند الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة تعود القناة مكشوفة لمسافة 22 كم وبعرض 25م. وبعد ذلك يبدأ نفق بقطر 5,7م وطول 80 كم يمتد حتى يصل إلى شاطيء البحر الميت في مواجهة اللسان حيث تتدفق المياه إلى البحر الميت على شكل شلال. وبذلك يصبح طول القناة 114 كم, وتنقل من المياه 50م3 في الثانية أو 1700 مليون متر مكعب سنويا.

وحسب وجهة النظر الإسرائيلية فإن هذه القناة تهدف إلى توليد حوالي ثلاثة آلاف ميجاواط من الطاقة الكهربائية سنويا عن طريق المحطات الكهربائية والطاقة الشمسية والمفاعلات النووية. كما تهدف إلى إنتاج ما يقارب 20 ألف برميل من الزيت الخام يوميا من الصخور الزيتية, وإقامة مجمعات صناعية ومستوطنات زراعية تصل إلى مائة مستوطنة في النقب الشمالي, وتحلية مياه البحر وإنشاء بحيرات مائية لأغراض السياحة وتربية الأسماك. كل هذا بالإضافة إلى رفع منسوب البحر الميت والذي انخفض منسوبه بعد تحويل مجرى نهر الأردن. ويتوقع أن إسرائيل هدفت ـ وإن لم تعلن عن ذلك ـ إلى إقامة أربعة مفاعلات نووية جديدة.

وحسب تقديرات الكلفة عام 1983 كانت تكلفة إنشاء القناة 1,5 بليون دولار, جمع منها حوالي مائة مليون دولار من منظمة السندات الإسرائيلية لتغطية تكاليف المرحلة الأولى من المشروع.

ويحتاج إعداد المخططات والدراسات والتصاميم النهائية إلى سنتين, والتنفيذ إلى ثماني سنوات.

وقد تردد في ذلك التاريخ أسماء عدد من الشركات لتمويل وتنفيذ المشروع ومنها شركة في جنوب إفريقيا وأخرى كندية.

كانت الجدوى الاقتصادية للمشروع مثار جدل كبير في إسرائيل, وأن المشروع لن يغطي كلفته قبل ثلاثين عاما. وأن منشآت البوتاس الإسرائيلية ستتأثر من المشروع, وكانت الجهات الرسمية الإسرائيلية تشير إلى البعد الاستراتيجي والسياسي مما يوحي بكثير من الأهداف العسكرية غير المعلنة لهذا المشروع.

مستوى (الميت)

في عام 1954 كان مسـتوى سطح البحر الميت ـ (-395 مترا) تحت مستوى سطح البحر. وكان مستوى سطحه يكاد يكون في حالة توازن بين ما يصب فيه وما يتبخر منه.

وكان معدل جريان نهر الأردن يساوي (1200) مليون متر مكعب في السنة, يضاف إليها 4 آلاف مليون متر مكعب تصب في البحر الميت من شرقه وغربه. وكان حوض البحر الميت الشمالي يساوي 756كم2, وحوضه الجنوبي 244 كم2.

وبسبب تحويل مجرى نهر الأردن, وبسبب المشاريع التي أقيمت لحجز المياه التي ترفد نهر الأردن, أخذ منسوب البحر الميت يتناقص تدريجيا حتى بلغ منسوبه عام 1996 (-410 أمتار) تحت مستوى سطح البحر. أي أن منسوب سطح البحر الميت قد انخفض 15 متـرا ما بين عامي 1954 و1996.

أما دراسات القناة الإسرائيلية فقد توقعت أن ترفد هذه القناة البحر الميت بما يساوي 1600 مليون متر مكعب سنويا, وبإضافة 600 مليون متر مكعب من الروافد سيصب في البحر الميت ما مجموعه 2200 مليون متر مكعب سنويا. ليعود مستوى سطح البحر إلى (-395 مترا) تحت مستوى سطح البحر عام 2000, وتعود مساحته إلى ما كانت عليه في الخمسينيات. وبعد عام 2000 توقعت الدراسة الإسرائيلية أن تزداد مساحة البحر الميت لتصل إلى 1173كم2, وبذلك سوف تغمر المياه أجزاء خارج البحر الميت لتصل إلى غور الصافي وغور فيفا في الأردن.

موقف تاريخي

قاوم الأردن في ذلك التاريخ المشروع على كل المستويات نتيجة للأضرار الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والجغرافية والبيئية والتي كانت متوقعة إذا ما تم تنفيذ المشروع.

وطرحت القضية في أروقة الجامعة العربية ومؤتمرات وزراء الخارجية للدول العربية والإسلامية والعديد من المؤتمرات العربية الأخرى وأروقة الأمم المتحدة. وفي عام 1983 وخلال اجتماعات المجلس التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP تولى كاتب المقال طرح الموضوع على المجلس من وجهة النظر البيئية, وإبراز الأضرار البيئية الكبرى المتوقعة فيما إذا نفذ المشروع. وقدم مشروع قرار للمجلس لإدانة إسرائيل. وقد حظي القرار بتأييد ساحق ولم يصوت ضده إلا الولايات المتحدة الأمريكية. إذ إن إسرائيل لم تكن في تلك الدورة عضوا في المجلس التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة, ولكن ممثلها كان حاضرا الجلسة.

وقد توجه القرار الذي اتخذ بتاريخ 13 أيار 1983 إلى جميع الدول والوكالات المتخصصة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية, بألا تساعد, بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, في الإعداد لهذا المشروع وتنفيذه. ورجا القرار المدير التنفيذي أن يسهل أعمال الأمين العام للأمم المتحدة في الرصد والتقييم على أساس متواصل لجميع الجوانب ـ وخصوصا الأيكولوجية المتعلقة بالآثار غير المواتية المترتبة بالنسبة للأردن والأراضي العربية المحتلة عام 1967, بما في ذلك القدس, وعدم تنفيذ القرار الإسرائيلي الذي يرمي إلى إقامة هذه القناة.

القناة البديلة

عندما زار الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر الأردن داعيا لاتفاقية السلام ومبشرا بها, كنت من بين المدعوين لإجراء الحوار معه على مائدة الغداء. قلت للرئيس كارتر: إنك رجل بيئي معروف وقد كرمك برنامج الأمم المتحدة للبيئة باعتبارك واحدا من البيئيين الخمسمائة في العالم. فكيف قبلت أن تقوم الولايات المتحدة بالتصويت منفردة ضد قرار المجلس التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة حول مشروع القناة الإسرائيلية, علما بأنك تدرك, كرجل بيئي مشهود له, حجم الأضرار البيئية للمشروع من إخلال بعناصر التوازن البيئي لمياه البحر الميت, وتغيير لتركيبها الكيماوي والحيوي, وتلويث هذه المياه بالمخلفات الصناعية والمشعة, وإيصال الأحياء البحرية إلى البحر الميت, وبذلك تغير بيئته التي تفرد بها على جميع بحيرات العالم وعلى مدى التاريخ?!

أما إجابة الرئيس كارتر فقد كانت: (لماذا يجب أن يكون هذا المشروع مشروعا إسرائيليا. ولماذا لا يكون مشروعا مشتركا بين الأردن وإسرائيل, وبدلا من أن تمر القناة من البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي الإسرائيلية, فهناك بديل لهذه القناة وهو قناة تصل البحر الأحمر وخليج العقبة بالبحر الميت ويكون مسارها بين الأردن وإسرائيل. ويستفيد منها الطرفان) انتهى كلام كارتر.

توقفت إسرائيل عن تنفيذ المشروع. ووقعت اتفاقية وادي عربة وبدأ الحديث يعلو عن مشروع قناة البحر الأحمر ـ البحر الميت.

 

سفيان التل