جمال العربية

جمال العربية

"نسر"
شعر : عمر أبوريشة

وعمر أبوريشة علم على مدرسة الأناقة الشعرية واللغة المترفة في الشعر السوري والعربي الحديث. وحامل لواء مدرسة راسخة الأصول، تميزت قسماتها وملامحها بالاتكاء الراسخ على ثقافة عربية باذخة، وحس لغوي رصين، وطبع شعري موات، وطموح إلى تجاوز الآفاق الأولى لقمم الشعر العربي في عصور ازدهاره..كل مبدع من مبدعي هذه المدرسة الشعرية يحاول أن يتمثل جوهر الشاعرية عند المتنبي وأبي تمام وابن الرومي والبحتري ومهيار والشريف الرضي وأبي فراس الحمداني في آن.

لكن "عمر أبوريشة" فيما تقدمه لنا سطور سيرته الشعرية- كما سجلتها الموسوعة العربية الميسرة- يكشف لنا عن بعض الدهشة والعجب وعمق الرغبة في التساؤل والتأمل. لقد ولد عام 1910 في منبج بسوريا، ومنبج هي المكان الذي انطلقت فيه عرائس الشعر تخايل وجدان أبي تمام والبحتري وأبي فراس ثم تربى في كنف جده بمدينة عكا- يوم كانت عكا ثغرا من ثغور الشام، وكانت الشام كلها وطنا واحدا للعرب - ثم هو ينتسب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وينال بكالوريوس العلوم عام 1930، ويذهب إلى مانشستر - بإنجلترا- ليدرس صناعة النسيج، لكن الشعر- الأصيل في وجدانه موهبة وتعبيرا- يصرفه عن دراسة النسيج ويتغلب على كل ما عداه، فيعكف على الشعرين: العربي والإنجليزي دراسة ومعاناة عاشق متذوق. وعندما يتاح له أن يتولى إدارة دار الكتب في حلب يتاح له العكوف على تأليف مسرحيته الشعرية "رايات ذي قار)، وكأنه يستنهض بها عزيمة العرب ويستصرخ نخوتهم وحميتهم لعلهم يعودون إلى سالف أمجادهم يوم تغلبوا على عدوان الفرس في معركة ذي قار، ويتاح لعمر أبو ريشة أن يعمل ملحقا ثقافيا في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فسفيرا لسوريا في البرازيل والأرجنتين وشيلي، ثم سفيرا للجمهورية العربية المتحدة - دولة الوحدة بين مصر وسوريا- في الهند ثم النمسا.. حتى يتيح له فراغ ما بعد الوظيفة تنقلا في عديد من الأقطار والعواصم العربية، ينثر فيها شعره وكثيرا من عطره، وقد صفت لغته الشعرية ورقت وسلست ، بعد أن كانت في شباب شاعريته عارمة وهادرة، وبعد أن أتاح له العمل الدبلوماسي ما سيتيحه من بعد للعديد من الشعراء الذين نهلوا من فيض أبو ريشة وعبوا من لغته المتفردة وقدرته الفذة على التصوير واستخدام اللون والجرأة في التعبير والمغامرة في ولوج عالم التجارب الشعرية غير المألوفة ومن أبرز هؤلاء القادمين على طريق أبو ريشة: نزار قباني وغيره من شعراء سوريا المعاصرين.

ويعيش عمر أبوريشة حتى يناهز الثمانين، وتمنحه هذه الحياة العريضة الخصبة حجما عريضا من التأثير وذيوع الصيت، ويتردد اسمه بقوة في مقدمة أسماء كبار شعراء العصر الذين اتجهت إليهم الأنظار بعد رحيل شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران والرصافي، أهمهم: بشارة الخوري (الأخطل الصغير) وسعيد عقل في لبنان وبدوي الجبل في سوريا والجواهري في العراق ومن بين الآثار الشعرية البديعة لعمر أبوريشة قصيدته "نشر" التي نشرت في أواخر الثلاثينيات- عام 1938 على وجه التحديد- فكانت بمنزلة القنبلة الشعرية المتفجرة على امتداد الساحة العربية ، رمزاً ولغةً وتناولا شعريا وجرأة في اقتحام المجال. الشاعر يرى في النسر معادله الموضوعي، ويسكب عليه من تصوراته ورؤاه ما يجعل المتأمل في نصّه الشعري ينكسر انعطافاً على هذا النسر المحطم الذي أصبح بقايا تلملمها ذرى الجبال، فالسفوح الآن أليق به وأحنى عليه وفي متناول طموحه المقبور. حتى إذا ما تحركت فيه بقايا نخوته ورعشة من جنون كبريائه مجلجلا بصيحة هادرة تهتز لها الآفاق ، كانت في هذه الصحوة نهايته وفي تلك الصيحة هويه جثة هامدة.

والشاعر الذي تجسد حال النسر وهيئته وصورته وانكساره، يتساءل في ختام قصيدته: ترى هل يتاح له أن يعود كما عاد النسر- حتى ولو لاقى نهايته المحتومة ومصيره المقدور أم أن ملازمته للسفوح وابتعاده عن القمم قد أمات فيه الحس والشعور وجعله يقنع بالدني من الحياة وسكنى السفوح بعد الذرى والقمم؟

هذا التجسد أو الحلول الشعري يمكننا أن نتأمله في كثير من قصائد شعرائنا القدامى والمحدثين، وتفصح نوعية الرمز الشعري- الذي يجسد بدوره الصورة الشعرية ويمنحها الروح والبنية التشكيلية والإطار والدلالة- عن طبيعة الشاعر وتوجهه والحال المصاحبة له ومدى سيطرة المخزون الواعي على خصوصيته الشعرية. وكثيرا ما اختار الشاعر العربي رمز " الشجرة" - بما توحيه من حياة ونماء واستمرار وقدرة على العطاء، ورمز "البلبل السجين" بما يوحيه من مصير تراجيدي وانكسار حزين، ورمز "الأسد المهيض" بما يوحيه من ظلال ودلالات تفصح عن تقلب الحال وتغير الأيام وتحكم الضعيف واستئساد الجبان. ولكن عمر أبوريشة في قصيدته "نسر" يلج المجال الشعري- بكل أسره وعنفوانه- من طريق غير مألوف فالتجربة الإنسانية في قصيدته تحيرنا- وهي أيضا تدهشنا- بقدرته الفذة على المزج بين ما هو ذاتي فردي وما هو عام وشامل. واللحن الشديد الذاتية والتوهج الفردي يجاوره وينضفر به لحن آخر أساسي تحمل نغماته الثائرة الأسيانة هماً جماعيا وشجنا يوشك أن يكون قوميا، ومن هذه "الضفيرة" الشعرية في وتريها المتعانقين يتفجر المعنى الأساسي الكاشف، والدلالة الفاجعة، المتأرجحة بين الاتكاء المنكسر على الذات، والغناء الشجي للوجود الإنساني بأسره.

ولا يبتعد كبر النسر- الذي حركته رعشة من الجنون - كثيراً عن كبرياء الشاعر نفسه وشموخ قامته ووعيه بهذا الشموخ تماثلاً، واتحاد نفس وسريرة، وحلما بالمجد المولي، والعمر القديم الجميل..ويبقى الوقار- فضلة من تراث سحيق- ساتر يحول دون الفضيحة، وهتك القناع عن الحقيقة الفاجعة ، وبقية من عبق زمان بعيد، كان فيه النسر نسرا، والشاعر- فيما يرى نفسه وصورته- محلقا ومقتحما.

يقول عمر أبوريشة في قصيدته: "نسر":

أصبح السفح ملعباً للنسور

فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري

إن للجرح صيحة فابعثيها

في سماع الدنى فحيح سعير

واطرحي الكبرياء شلوا مدمى

تحت أقدام دهرك السكير !!!

لملمي يا ذرى الجبال بقايا النسر

وارمي بها صدور العصور

إنه لم يعد يكحّل جفن النجم

تيهاً بريشه المنثور

هجر الوكر ذاهلاً وعلى عينيه

شيء من الوداع الأخير

تاركاً خلفه مواكب سحب

تتهاوى من أفقها المسحور

كم أكبت عليه وهي تندي

فوقه قبلة الضحى المخمور

هبط السفح طاوياً من جناحيه

على كل مطمح مقبور

فتبارت عصائب الطير ما بين

شرود من الأذى ونقور

لا تطيري جوّابة السفح فالنسر

إذا ما خبرته لم تطيري

نسل الوهن مخلبيه وأدمت

منكبيه عواصف المقدور

والوقار الذي يشيع عليه

فضلة الإرث من سحيق الدهور!!

وقف النسر جائعا يتلوى

فوق شلو على الرمال تثير

وعجاف اليغاث تدفعه

بالمخلب الغض والجناح القصير

فسرت فيه رعشة من جنون

الكبر واهتز هزة المقرور

ومضى ساحبا على الأفق الأغبر

أنقاض هيكل منخور

وإذا ما أتى الغياهب واجتاز

مدى الظن من ضمير الأثير

جلجلت منه زعقة نشت الآفاق

حرى من وهجها المستطير

وهوى جثة على الذروة الشماء

في حضن وكره المهجور!

* * *

أيها النسر هل أعود كما عدت..

أم السفح قد أمات شعوري؟!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عمر أبوريشة