لمـاذا تهـتم إسـرائـيـل بـالأدب العـربـي؟

لمـاذا تهـتم إسـرائـيـل بـالأدب العـربـي؟

في الآونة الأخيرة أخذت قضية ترجمة الأدب العربي إلى العبرية شكل الأزمة بين المثقفين العرب, حيث يعتبرها البعض شكلاً من أشكال التطبيع, وحقيقة الأمر أن الإسرائيليين اهتموا بترجمة الأدب العربي حتى من قبل نشأة دولة إسرائيل, وهم لا ينتظرون موافقتنا على هذه الترجمة, وذلك لأسباب تتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي, وليس ـ بالتأكيد ـ من ضمنها الرغبة في التعرف على ثقافات الحضارات المغايرة.

تستعين دولة إسرائيل في تعاملها مع المجتمعات العربية وقضايا الصراع معها, بأشكالها المختلفة بمجموعة من المؤسسات والمراكز المتخصصة في مجال الأبحاث والدراسات العربية والشرق أوسطية على المستوى العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بل وحتى الثقافي, منها على سبيل المثال لا الحصر: مركز (هشيلوح) بجامعة تل أبيب, ومركز (ترومان) و(فان لير) في القدس وغير ذلك. ولا يأتي اهتمام هذه المؤسسات والمراكز البحثية باللغة العربيـة وآدابـها على المسـتوى الثقافي بمنأى عن مفردات الصراع العربي الإسرائيلي.

ولقد كانت ترجمة الأدب العربي, بمختلف أجناسه وعصوره, أحد المجالات المهمة والوسائل الحيوية التي يمكن أن تساعد في التعرف على المجتمعات العربية ودراسة التطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية, ويقول د. إبراهيم البحراوي في كتابه (الأدب الصهيوني بين حربي يونيو 67 وأكتوبر 73) إن (الأدب يمثل واحدا من أهم وأوثق السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات الباطنة في مجتمع من المجتمعات والتي يصعب في أحيان كثيرة رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية وما شاكلها.

ويفسر السيد ياسين اهتمام المؤسسات البحثية الإسرائيلية بترجمة ودراسة الأدب العربي بمختلف عصوره, بدءا من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث, بأن (أي أدب يرصد العمليات الاجتماعية التي تصاحب التغير الاجتماعي وتلقي الأضواء عليها وعلى مساراتها المتعددة, بصورة أكثر بروزا ووضوحا وحيوية من كثير من البحوث العلمية. من هنا يهتم الباحثون العلميون بتحليل مضمون هذه الأعمال الأدبية حتى يضعوا أيديهم على مفاتيح التغير الاجتماعي في المجتمع وآثاره.

رؤية غير أكاديمية

وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن دراسة الباحثين الإسرائيليين لهذا الأدب بمختلف عصوره وترجمته لا تنطلق من رؤية أكاديمية علمية صرفة, وإنما من رؤية تستهدف التعرف على المجتمعات العربية التي تتعامل معها على أنها مجتمعات معادية في ظل الحرب, أو مجتمعات مجاورة في ظل السلام.

وحول هذا يقول الباحث الإسرائيلي د. ساسون سوميخ (إن مطالعة الأدب العربي الحديث ضرورة حياتية لكل مثقف إسرائيلي ولكل قاريء إسرائيلي نبيه, إذ من دون اطلاعه على التيارات الأدبية فإن معلوماته عن الإنسان العربي وعن عالمه ستكون مشوهة, ومرتكزة على المعلومات الصحفية اليومية غير العميقة, ويتعلم القاريء الإسرائيلي عن طريق مطالعة الأعمال الأدبية العربية في مجال الرواية والمسرح والشعر كثيرا من المفاهيم النفسية للإنسان في القاهرة وفي دمشق وفي بيروت وبغداد وحتى في الريف المصري واللبناني والسوري وهلم جرا, ويتعرف بهذه الوسيلة على مشاكل ومتاعب الأديب العربي والإنسان العادي في نفس الوقت.

مراكز بحثية

ويتأكد اهتمام إسرائيل ورغبتها في التعرف على المجتمعات العربية المعادية والمجاورة ويبرز من خلال إنشاء المؤسسات والمراكز البحثية التي تهتم بترجمة ودراسة الأدب العربي وتدريس اللغة العربية. لقد كان معهد الدراسات الشرقية من أوائل المعاهد التي أقيمت في الجامعة العبرية, فقد أنشيء عام 1926م, أي بعد إنشاء أول جامعة صهيونية في فلسطين بعام واحد. كما تضم الجامعات الرئيسية التي أقيمت في إسرائيل ـ مثل جامعة تل أبيب وجامعة حيفا وجامعة بار إيلان وجامعة بن جوريون بالنقب وغيرها ـ أقسام لدراسة الأدب العربي وعلوم الشرق الأوسط. كما تصدر هذه الأقسـام والمراكز البحثية عددا من الدوريات والمجلات التي تتناول بالبحث الأدب العربي وتنشر ترجمات لأجناسه الأدبية بمختلف عصوره, هذا إلى جانب قضايا اللغة العربية والدراسات اللغوية المقارنة بين اللغات السامية والأدب الشعبي وغير ذلك. وتنظم هذه الأقسام والمراكز دورات لتعليم اللغة العربية, لأن من يتخصص في دراسة تاريخ الشرق الأوسط واللغات السامية أو الحضارة العربية في الأندلس أو تاريخ الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط يجب أن يتعلم اللغة العربية. وهناك توجه عام في إسرائيل يقضي بأن يتعلم اللغة العربية أي طالب إسرائيلي مهما كان تخصصه, سواء في العلوم الطبيعية أو القانون أو الطب.

الأدب القديم

وقد حاول الباحثون الإسرائيليون ـ في أحيان كثيرة ـ أن يقدموا أنفسهم للعالم الغربي على أنهم متخصصون في الدراسات العربية والشرق أوسطية. فنجد ـ على سبيل المثال ـ الباحث يعقوب م. لانداو ينشر كتابا عن المسرح والسينما في مصر بالولايات المتحدة. ترجم هذا الكتاب بعد ذلك إلى الفرنسية وغيرها من اللغات الأخرى.

لم يقتصر اهتمام هؤلاء الباحثين على دراسة وترجمة الأدب العربي الحديث بمختلف أجناسه الأدبية إلى العبرية, بل امتد ليشمل الأدب العربي القديم بمختلف عصوره, لأن هذه النوعية من الدراسات (تساعد في تحديد وبلورة الطابع القومي لشخصية شعب من الشعوب). فقام يوسيف يوئيل ريفلين (1890م ـ 1971م) بترجمة عشرات القصائد العربية القديمة, منها أشعار عنترة بن شداد, كما ترجم كتاب (ألف ليلة وليلة) في ثلاثين مجلدا خلال السنوات 1947 ـ 1970م. كما ترجم إبراهيم المالح كتاب (كليلة ودمنه) لواضعه عبدالله بن المقفع, كما قام أشير جورين بترجمة مختارات من المعلقات, وقصائد من الشعر الجاهلي والأموي والأندلسي والعباسي, إلى جانب قصائد من ألف ليلة وليلة. وقد صدرت هذه المختارات عام 1970م بعنوان (أشعار العرب).

ولم تقتصر الترجمة على الأدب الإبداعي وإنما امتدت لتشمل الأدب الديني. فقام يوسيف يوئيل ريفلين بترجمة معاني القرآن الكريم إلى العبرية, فصدرت الطبعة الأولى من هذه الترجمة عام 1936م, وصدرت الطبعة الثانية عام 1933م. ثم قام آهارون بن شيمش عام 1971م بترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم. كما قام المترجم نفسه بترجمة كتاب (سيرة الرسول) لابن هشام, كما ترجمت حافا ليزروس يافيه كتاب (المنقذ من الضلال) للفيلسوف أبي حامد الغزالي, كما قام عمانوئيل كوبوليبتش بترجمة (مقدمة ابن خلدون) عام 1966م.

... والأدب الحديث

أما الاهتمام بالأدب العربي الحديث وترجمته فيحظى باهتمام أكبر ومتابعة أدق ودراسات أوفى في ضوء الصراع العسكري والسياسي بين إسرائيل والدول العربية, لأن (الأعمال الأدبية تزخر بالثراء الذي يمكن الاستفادة منه في الاستبصار بالمتغيرات المتعددة التي ينطوي عليها أي واقع اجتماعي).

ويكفي أن نشير هنا إلى الدراسة التي أعدها يهوشافاط هركابي الذي عمل رئيسا لجهاز المخابرات الإسرائيلي إلى جانب كونه أستاذا بالجامعة العبرية, مستعينا فيها بدراسة القصة العربية الحديثة ليزعم أن ضعف الروابط الاجتماعية بين العرب وانعدام تماسكهم الاجتماعي هو السبب الذي أدى إلى هزيمتهم على أرض المعركة في حرب الخامس من يونيو عام 1967م. فيشير إلى أن انعدام روح الفريق بين العرب, والروح الفردية التي تسودهم انتقلت إلى ميدان القتال فكانت سببا رئيسيا في هزيمتهم. وقد استدل على ذلك بالصورة السائدة للبطل في القصة العربية الحديثة, مستنتجا أن هذا البطل يتسم بالانعزالية عن أقرانه وأن شعوره بالاغتراب يهيمن على عالمه.

من هذا المنطلق كان الاهتمام بالأدب العربي الحديث وترجمته. وكانت بداية ترجمة هذا الأدب مع قصة (الأيام) لطه حسين التي قام بها مناحيم كابليوك عام 1932. كما قام المترجم نفسه بترجمة بعض قصص محمود تيمور, كما ترجم شموئيل ريجولانت, مجموعة قصصية أخرى لمحمود تيمور عنوانها (إلى الجنة) تصور حياة المجتمع المصري وترسم صورة مفصلة للأحياء الفقيرة في القاهرة.

الرواية أولاً

وتركز أعمال الترجمة على الأعمال الروائية بشكل خاص, لأنها تقدم صورة بانورامية شاملة تساعد الباحث الاجتماعي الإسرائيلي على إعادة التركيبة الاجتماعية للواقع أكثر من أي جنس آخر. ومن أبرز الأدباء القصاصين والروائيين الذين ترجمت أعمالهم الروائية والمسرحية إلى العبرية توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم. ومن روايات توفيق الحكيم التي ترجمت إلى العبرية (يوميات نائب في الأرياف) (1945), و(عودة الروح) (1957) ومن مسرحياته (طعام لكل فم), و(الزمار),وغير ذلك وترجم لنجيب محفوظ رواية (زقاق المدق)(1969م) و(اللص والكلاب) (1970), و(الحب تحت المطر) (1976), و(الشحاذ) (1978), و(بين القصرين) (1981), وثرثرة فوق النيل (1982), و(ميرامار) (1983), و(قصر الشوق) (1984), و(السكرية) (1987), و(أولاد حارتنا) (1990) وغير ذلك. كما ترجمت من أعمال يوسف إدريس رواية (العيب) واثنتا عشرة قصة قصيرة تصور حياة القرية والمدينة في مصر, ومنها (أرخص ليالي) و(الناس) و(طبلية من السماء), و(نظرة), و(مارش الغروب), و(جمهورية فرحات) وغير ذلك. كما قام اسحاق شموش وباروخ مورين باختيار ست وعشرين قصة مصرية قصيرة نشرت عام 1954م, وقد مثلت هذه القصص مختلف التيارات والأساليب الأدبية لعدد من الأدباء المصريين الذين يمثلون أجيالا مختلفة مثل محمود تيمور ولاشين والمازني ونجيب محفوظ ومعاصريه. فنجد في هذه المجموعة قصصا لسيد قطب, باعتباره أحد قادة حركة الإخوان المسلمين, وعبدالرحمن الشرقاوي, باعتباره كاتبا يساريا, وقصصا للعنصر النسائي مثل أمينة السعيد وبنت الشاطيء وغيرهما. (وكثيرا ما تنشر مع هذه الترجمات دراسات وتحليلات أدبية لهذه الأعمال القصصية, إذ يحاول بعض الدارسين أخذ العبر والتوصل إلى بعض الاستنتاجات بالنسبة للاتجاهات الفكرية لدى طبقة المثقفين المصريين ونواحي تفكيرهم إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية الراهنة كما يقول د. ساسون سوميخ.

أطراف الصراع

وهكذا كانت للترجمات من الأدب المصري الحديث نصيب الأسد, نظرا للمكانة التي تحتلها مصر بين الدول العربية في مجال الإبداع الأدبي من ناحية ودورها المحوري في الصراع العربي الإسرائيلي من ناحية أخرى. ولكن هذا لم يعن أن هذه الترجمات تجاهلت الأدب العربي في الدول العربية الأخرى التي تمثل أطرافا أخرى في الصراع مع إسرائيل. فترجمت بعض الأعمال القصصية للأديب اللبناني توفيق عواد وميخائيل نعيمة وليلى بعلبكي وجبران خليل جبران وغيرهم. ومن العراق ترجمت أعمال قصصية للكتاب ذي النون أيوب وعبدالملك نوري وغائب طعمة وغيرهم. ومن القصص السوري ترجمت أعمال زكريا تامر وغيره. كما ترجم د. شمعون بلاص مجموعة قصصية أسماها (قصص فلسطينية) صدرت عام 1970 ضمت هذه المجموعة ترجمة عبرية لخمس عشرة قصة تتمحور حول القضية الفلسطينية, فعكست الشعور بالعداء والكراهية لليهود باعتبارهم محتلين مغتصبين للوطن الفلسطيني, كما عالجت هذه المجموعة مشاكل الواقع الفلسطيني والأردني, ورسمت صورة بانورامية لهذا الواقع.

والشعر أيضاً

وبعيدا عن الأدب القصصي الذي كان للمصريين فيه الباع الأكبر ـ فترجم منه المترجمون الإسرائيليون الكثير والكثير ـ توجه هؤلاء المترجمون إلى الشعراء العراقيين واللبنانيين والسوريين دون المصريين, ويعود السبب في ذلك إلى (ظهور جيل من الشعراء في العراق ترأسوا الحركة الشعرية التي تعرف بالشعر الحر, هذه الحركة التي نادت بالتحرر من القالب التقليدي لشعر الوزن والقافية, أما السبب في الاهتمام بالشعراء اللبنانيين أو السوريين فهو أن معظمهم مثل الاتجاه التجريبي الجديد. وعلى الرغم من أن هذا التوجه يبدو في ظاهره أكاديميا صرفا يسعى إلى متابعة كل ما هو جديد, فإنه في الحقيقة ينضوي تحت ما سلف تناوله من قبل وهو رصد المتغيرات والتحولات الاجتماعية, فلا يمكن تحليل التحولات الكبرى في أدب ما وفهمها وتفسيرها بمعزل عن التحليل الاجتماعي للعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية.

لكل هذا ترجمت الأعمال الشعرية للشعراء العراقيين مثل عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وغيرهم, ومن الشعراء اللبنانيين أدونيس ويوسف الحاج وأنس الحاج وغيرهم, ومن الشعراء السوريين نزار قباني ومحمد الماغوط وغيرهما, ومن الشعراء الفلسطينيين معين بسيسو وفدوى طوقان وغيرهما.

 

محمد أحمد صالح