ثقافة الأقلام.. ضد ثقافة الأقدام

ثقافة الأقلام.. ضد ثقافة الأقدام

تدحرجت كرة القدم حتى تجاوزت بساطها الأخضر.. وخرجت من نطاقها الضيق كلعبة رياضية مثيرة إلى حد الجنون.. شعبية إلى حد الهوس العالمي في جميع قارات الأرض.. وأصبحت نشاطا اقتصاديا له رجاله.. وثقافة لها أهلها وفرسانها.. لها مفردات ولغة في إطار أدبيات كروية تتجاوز أخبار اللاعبين ووصف المباريات إلى فلسفة اللعبة واستراتيجيات منهجها.

كانت كرة القدم فيما مضى ـ عندما قدمها الإنجليز للعالم الحديث منذ مائتي عام تقريبا لعبة تقوم على مهارة اللاعب.. فإذا بها مع الألفية الثالثة منظومة كبرى لها أطقمها الفنية والإدارية والطبيعية والإعلامية والمالية والأمنية.

وعلى هذا توارت ثقافة (الأقلام).. في مواجهة ثقافة (الأقدام) على حد تعبير توفيق الحكيم عندما جمعته الصدفة بلاعب الكرة المصري الشهير (محمود الخطيب).

ولم يكن الحكيم يعرف وقتها (أواخر السبعينيات) أن سعر لاعب الكرة قد يتجاوز الـ 80 مليون دولار بينما أعلى وأرقى جائزة أدبية في العالم ـ وهي نوبل ـ قيمتها المادية تصل بالكاد إلى مليون دولار, وإذا كانت البرازيل ـ تلك الدولة الفقيرة في أمريكا اللاتينية ـ هي قمة النظام الكروي العالمي حتى مطلع الألفية الجديدة فإن الغريب فيما يخص التاريخ الرياضي عموما أنه يعود إلى الحضارة المصرية الفرعونية والحضارة الإغريقية (طيبة) القديمة سجلت على معابدها عشرات الألعاب.. وأثينا ابتدعت الألعاب الأولمبية.. فيما يشير بوضوح إلى الرياضة كفعل حضاري.

البطل

والربط بين الرياضة في مجال البطولة ومفهوم البطل وتعريفه بصفة خاصة, قد يكشف إلى حد كبير فلسفة ودوافع هذا الجنون الجماهيري الكاسح باللعبة والمؤرخ الإنجليزي الأشهر (كارلايل) في كتابه (الأبطال) يرى أن الرجال العظماء سواء كانوا شعراء أو مصلحين أو كتابا ورجال أعمال أو رجال دين أو فرسانا فإنهم جميعا يحملون بين جنوبهم هذا السر الغامض.. سر العظمة والبطولة الذي يغلفهم.. وتاريخ الدنيا في مجمله ما هو إلا سيرة الأبطال.. وليس هناك شعور في قلب الإنسان أنبل من هذا الشعور بالإعجاب بمن هو أسمى منه وأجل شأنا.. وهذا الشعور ـ حتى هذه الساعة والساعات القادمة ـ هو التأثير الحي في حياة الإنسان.. والدين في اعتقادي يقوم على هذا الشعور.. أليس الولاء الصادق هو روح حياة المجتمعات منبثقا من عبارة البطولة والإعجاب المستسلم الخاضع بالرجل العظيم? حقا إن المجتمع قائم على عبادة البطولة.. ويبدو لي أنني أرى في عبادة الأبطال التي لا يستطيع أن ينال منها شيء.. الصخرة الراسخة التي تحول دون سقوط الدول في مهاوي الهلاك وأعماق الخراب.

وكتاب كارلايل يكشف لنا أن البطل يمثل الحضارة التي اشتملت عليه.. والعصر الذي احتواه.. إذا أردنا أن نقرأ العصر نقرأ سير أبطاله.. ومن الأبطال نضع أيدينا على العصر كله وفي عصرنا الحديث لا نغفل البطل الرياضي في اللعبات الفردية أو الجماعية.. وننظر على سبيل المثال إلى رحلة صعود محمد علي كلاي وتحوله من كاسيوس إلى محمد وارتباطه بالإسلام, والفاتورة الثقيلة التي دفعها بكل الرضا بعد إشهار إسلامه, وكيف استثمر وجوده ومهارته على حلبة الملاكمة ليصبح رسالة صارخة ضد العنصرية الأمريكية في الستينيات وأوائل السبعينيات, بل وضد الظلم الأمريكي عندما رفض الالتحاق بالجيش ليخوض حربا غير إنسانية في (فيتنام).

وتكررت نفس الصورة مع (مايك تايسون) بعد أن أشهر إسلامه ووجد نفسه متهما باغتصاب امرأة وشت به.. ودخل السجن ليخرج من دائرة الضوء.. فإذا به يصبح أقوى مما كان.

وتتعدد صور البطولة والأبطال.. حتى إذا بلغنا مرمى كرة القدم.

تتجلى ثقافة الأقدام بقوة.. عندما يشب الفرد متفردا وسط الجماعة.. وعندما تتحول اللعبة إلى صراعات وتجانس بين مجموعـة مؤسسـات تتفاعل وتتكامل وتتجاذب وتتنافر.. في إطـار آليات اقتصادية, وفي ظل عمـلية الاحتراف الكبرى التي تحكم مسار الكرة بين الارتفاع والهبوط.

ويبدو الفريق ـ المكون من مجموعة لاعبين ـ مؤسسة تنفيذية, تقوم على خدمتها وإعدادها مؤسسة أخرى فنية ومهنية متمثلة في الأجهزة التدريبية والطبية والإدارية.. ويتحول الجمهور إلى جانب أقلام النقاد إلى مؤسـسة قضائية نافذة الأحكام ترفع من تشاء.. وتطيح بمن تشاء.. والأمر في بعض الأحيان يتوقف على تصويبة طائشة, لكنها إذا أخذت طريقها الصحيح تطلق شرارة الأفراح ويبدأ مهرجان توزيع الهبات والعطايا والأمجاد, وإذا ضلت الطريق تصبح سببا في نكبة وسحابة من الحزن العام لشعب بأكمله.. وقد تدخل المؤسسة الحكومية لامتصاص الغضب الجماهيري بحل الاتحاد المسئول أو تغيير الجهاز الفني.. والأمثلة في عالمنا العربي أكثر من أن تحصى أو تعد.

ويتحول اللاعب على البساط الأخضر ـ بفعل ما يحيط به ـ إلى بطل من أبطال الإلياذة.. يستحق أن يكتسب اسمه في سجلات المجد وتاريخه يعيش لأجيال وأجيال.

وقد يقول مثلما قال (هيكتور): على الأقل لا تدعني أمت بلا نضال بلا مجد.. ثم دخل معركته الأخيرة مع (اخيليس).

الاحتراف في المهد

وأستشهد هنا بما جاء في مقال كتبه (جان بول تويليه) ونشرته مجلة الثقافة العالمية الكويتية في العدد رقم (103) ويحطم فيه تلك المسافة الوهمية بين الرياضة الرومانية القديمة.. والرياضة الحديثة.

ويربط بين كرة القدم وسباقات العربات التي أثارت الحماس الجنوني في كل مقاطعات الإمبراطورية عندما احتشد أكثر من 150 ألف متفرج في سيرك روما واستادها, مقابل الـ 100 ألف متفرج الذين شاهدوا نهائي كأس العالم في استاد (سان دوني) بفرنسا 1998.

ويصف لنا احتفال الألعاب الأولمبية الذي أقيم للمرة الأولى عام 776 قبل الميلاد وتنافس فيه رياضيون تحركهم فقط الرغبة في الوصول إلى مستوى الآلهة.. ولم يكن لدى هؤلاء الهواة الخالصين سوى الربح على جميع الأصعدة, يقبض المنتصرون عند عودتهم إلى مدنهم المبالغ الطائلة, يصاحب ذلك مزايا عينية مثل حقهم على المدينة في الغذاء حتى الموت, إنه الاحتراف يقول كلمته في المهد.. وثقافة اللعب تعلن عن نفسها, تتبدل الأشكال والمسميات من عصر إلى عصر ويظل الحال على ما هو عليه.

الانصهار والتوحد

في ثقافة الأقدام قد تكون الكلمة العليا للفقراء ماديا.. الأغنياء بالموهبة في البرازيل نجد بيليه ماسح الأحذية الذي تحول إلى أسطورة ـ ولايزال ـ يجسد المعنى الذي تكرر مع (مارادونا).. و(رونالدو).. والإفريقي (جورج وايا).

وفي ثقافة الاقدام يتساوى الصغير والكبير.. ويجمع مدرج الاستاد بين رئيس الدولة.. والمواطن البسيط. يتوحدان, وتتحول آلاف الحناجر إلى صوت واحد.. وملايين الطموحات إلى تسديدة بالقدم تبحث عن طريقها إلى الثلاث خشبات.. والحظ دائما يقول كلمته قبل المهارة والاستعداد وبعدهما.

في ثقافة الأقدام قد تظهر أعلام البلاد.. ويولد الانتماء الوطني الغائب والمفقود في ملاعب السياسة.

والثقافة كما نلتقط تعريفها البسيط من (المستشار محمد سعيد العشماوي) في كتابه (من وحي القلم): (الثقافة تعني الحذق والفهم لكن معنى اللفظ تطور لتضاف إليه معان أساسية هي.. العلوم والمعارف والفنون التي تتطلب الحذق, إلى جانب مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية والقيم الذائعة في مجتمع معين مما يتصل بحياة الناس).

وفي ظل ثورة الاتصالات وعولمة كوكب الأرض.. قفزت ثقافة الأقدام حتى تجاوزت المفهوم السياسي والاقتصادي والاجتماعي كلمة (العولمة).. نتيجة للاحتكاك والتفاعل والتنافس والتبادل.. يأخذ اللاعب البرازيلي معه إلى إيطاليا وإنجلترا وإسبانيا وألمانيا كل ما اكتسب في بلاده ويصبه صبا في الفانلة التي يرتديها للنادي الذي يمثله.. ويحدث العكس.. ونرى اللاعب هنا أشبه بعصفور النار.. وتبدو اللعبة نفسها مثل حريق هائل أتى على الكرة الأرضية بأكملها وصهرها ثم أعاد جمعها في إطار جديد.. تتحكم فيه الإدارة العليا لشئون الكرة المعروفة اختصارا باسم (الفيفا) أو الاتحاد الدولي لكرة القدم.

سياسة الأقدام

وتتجاوز المسألة خطوط الملعب.. لتتماشى مع السياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا.

نجحت لعبة تنس الطاولة في كسر حاجز الصمت بين أمريكا والصين.. وتحولت مباراة الكرة في نهائيات كأس العالم (1998) بين أمريكا وإيران إلى مفتاح سحري لإعادة إيران إلى صالة المجتمع الدولي, بعد فاصل طويل من العزلة والحصار والأساطير الخرافية التي نسجتها المؤسسة الإعلامية الأمريكية والصهيونية.

وفي كامب ديفيد (2000) وبين مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية كانت الكرة وسيلة ذكية تنشط التحاور على طاولة المفاوضات.. بالتحاور حول الكرة, وتكـرر المشهـد الفلسطيني الإسرائيلي في أوربا لدعم بعض الأعمال الخيرية والإيحاء بالتقارب في (فانلة).. أو قميص العولمة والشرق أوسطية.

وتحاول القنوات الفضائية والمجلات المتخصصة والجرائد التبشير والتمهيد للثقافة الدولية الواحدة من خلال الدورات الأولمبية وتلك الاحتفالات المهيبة بها, وآخرها ما جرى في دورة سيدني (2000) حيث ألقت الكوكبية بظلالها على فقرات الحفل, وقد رسمت في مجمعها لوحه رياضية للعولمة والتحولات الكبرى التي تشهدها الدنيا.. في مقولة تحطم كل اللغات والمسافات تكتبها الأجساد قبل أن تنطقها الحناجر.

ثقافة غير معزولة

ثقافة الأقدام.. تسبق ثقافة الأقلام.. مدعمة بوسائل الاتصال الحديثة التي اختزلت كل ما هو مكتوب إلى مرئي ومسموع عبر الإنترنت والتليفون (النقال) (المحمول) والكمبيوتر الصغير وتستمد ثقافة الأقدام قوتها من كونها مادة جذابة ومرغوبة, ثقافة عالمية الصنع.. محلية القرارات, غير معزولة عن صانعها ومنتجها ومستهلـكها وراعيها ومخططها (والمستشار (العشماوي) وإن كان ينفي وجود الثقافة المطلقة التي تحوي كل الصواب وتضم كل التاريخ وتتأبي على أي نمو أو تطور أو تغير.. ربما يوافقنا أن ثقافة الأقدام غير باقي الثقافات العامة, لأننا حيث نجد الصراع الملتهب بين الثقافات الشرقية والغربية.. والعربية والأوربية.. لا يدهشنا هذا التقارب الملموس بين ثقافات الأقدام في شتى أنحاء المعمورة شمالا وشرقا وغربا وجنوباً.. من حيث الشكل والمضمون.. ويكفي أن قانونها واحد.. الكلمة الأولى والأخيرة لصافرة الحكم.. بينما ثقافات الدنيا تغلى بحثا عن حكم عادل وقانون يستظل الكل سواسية بظله.. مع انفراد الكابتن الأمريكي بكل مقدرات اللعبة دون سواه!!

للكاتب (حسان الزين) تفسيره الخاص في تفشي ثقافة القدم حيث يقول: من المؤكد أن الفراغ يظهر في حياة العديد من المجتمعات كعلامة فارقه من علامات الرتابة والضجر, وهو بالتالي يحكم العلاقة بين المكونات النفسية للجماعة, والنسق العام لحضارة عمياء تتسم هي الأخرى بطابع فقدان اليقين والغايات ما عدا التجارة والربح.. والمعروف أن هذين الهدفين هما طرفا المجرى الذي تدفق فيه ثقافة التسطيح والتبليه, وتنشق منه وتتفرع عنه روافد النجومية والإعلامية, وتلك المسليات المكتوبة والمسموعة والمرئية التي ستكون وظيفتها في هذا السياق ملء الفراغ باللا معنى, وامتصاص السأم الناشيء أيضا من الفراغ ذاته, ومن المؤكد أيضا أن الألعاب في كرة القدم قد أضحت رياضة بلا أخلاق منذ أصبحت مرتبطة عضويا (بأخلاقيات السوق) حيث تجيز استعمال وتوظيف جميع الحيل للفوز, حتى لو كانت أشبه بكلابات اللص. ثم إن اللاعبين جميعهم باتوا يمارسون هذه اللعبة من أجل المال, وبما أن الخصم يريد أن ينتزع مني المال والنقاط لذا وجب مقاومته بكل السبل والوسائل.

ويقترب بنا هذا التفسير مما جاء في رواية (مالرو) عندما يسأل أحدهم زميله: هل تعرف الأفيون?

فيرد عليه: إنه النشوة.. ولكنها نشوة قاتلة توفر الكثير من الخيال ولكن لا حياة فيها.. هي ممتعة غير أنها تضع متعاطيها على حافة الموت.

فهل تحولت كرة القدم بعد أن ابتلعها وحش الاحتراف ودخلت آليات السوق العالمي الجديد إلى أفيون!

ويرى الفيلسوف الإيطالي (انطونيو جرامش): إن كرة القدم هي الحرية يمارسها الإنسان في الهواء الطلق, وبالتالي يكون الانفعال مكشوفا بعفويته, ينفس ما في السريرة من دون أن يقوى على الشحن النفسي أو يمنع الاستغلال وبهذا المعنى تخرج كرة القدم من مجرد كونها لعبة ساحرة إلى تصنيف آخر.. إنه المفعول العالمي كما يرصده (محمود حيدر) في دراسته القيمة عن عولمة الكرة, وكيف أن أرقام أعمالها زادت على 250 مليار دولار كما جاء في تصريح لـ (جوان هافيلانج) الرئيس السابق لـ (الفيفا).

هي كما نرى إمبراطورية كبرى تتصارع فيها الشركات العملاقة متعددة الجنسية, حتى تحول المونديال الأخير إلى بازار اقتصادي ومالي وتجاري ضخم, شاركت فيه كبرى مؤسسات العطور ومواد التجميل والمرطبات والآلات الإلكترونية وغيرها.. وكلها تدفع المليارات لكي تصل إلى 37 مليار متفرج يتابعون المونديال وتفرض هذه الشركات ثقافتها وتغزو العقل بسلعتها.

والمفكر الأمريكـي (ناعوم تشومسكي) يوضح أن وظيفة المنظومة الإعلامية التسـلية واللهو, وقد ظهر أخيرا إلى أسواق المال شركات للتعليم تقوم في الأساس على اللهو والترفيه, وبالتأكيد ستلعب كرة القدم دورا بارزا في هذا المجال.

كانت الأقلام فيما مضى ترسم سياسة وقوانين اللعب بين الأقدام.. الآن في ظل العولمة والاحتراف تصبح الكرة الأرضية كلها لعبة بين الأقدام.. تفرض كلمتها على الكل.. وفي مقدمة هؤلاء أصحاب الأقلام أنفسهم, وقد تأثروا باللعبة بارادتهم الحرة أو بالقوة المضيئة الهائلة بفعل المال والجاه والانتشار والسحر.

 

سمير الجمل