"من أين أتيت بشلالات فيكتوريا هذه؟" سألتني موظفة شركة الطيران، مبتسمة، عندما ذهبت لأحجز للرحلة، فلم أقل لها إنني أتيت بها من قلب عشقي لإفريقيا الجنوبية، وولهى بعالمنا الساحر جنوب الصحراء، وحلمي الذي لا ينقطع بالتحليق في سمائها الأكثر زرقة من كل سماوات الدنيا، والترحال على أرضها التي أقسم أن لها رائحة عطرة، حتى في مراتع الكواسر وسط الأدغال، لكنني أقول لكم ذلك الآن، مادمت بصدد اصطحابكم في هذه الرحلة الاستثنائية، فهي رحلة في الزمان وفي المكان.. عمقها مائة وخمسون مليون سنة، برغم أن بؤرتها لا تشغل أكثر من كيلو مترين اثنين، وبالتحديد 1700 متر، تشكل أعرض ستارة مائية في العالم وهي ستارة تدور عليها ومن حولها مشاهد من فتنة الطبيعة البكر، فيؤمها زوار من أربعة أرجاء الدنيا، لكن يبدو أن "العربي" هي أول مطبوعة غربية تزور المكان.
عشاء عجيب في هرارى
كادت دورة الألعاب الإفريقية التي استضافتها زيمبابوي أن تطيح برحلتنا، فكل الطرق إلى عاصمتها هراري كانت مكتظة بالمسافرين، وكل الطائرات كاملة العدد، وكل الفنادق مشغولة. لهذا عندما حطت بنا الطائرة على مدرج مطار العاصمة الزيمبابوية الصغير، تنفسنا الصعداء، وتذكرنا بامتنان كل من ساعدونا من شركتي الطيران الكويتية والمصرية. ثم بعد الصعداء تنفسنا بارتياح، إذ وجدنا في انتظارنا - برغم اختلاف موعد الطائرة - الدبلوماسي الشاب "سعد العصفور" من سفارة الكويت في زيمبايوي، ولقـد أولتنا هذه السفارة وعلى رأسها السفيرة المرموقة فائقة النشاط والحضـور "نبيلـة الملا" كثيرا من الاهتمام، قبل أن تبدأ الرحلة وحتى نهايتها، مما يسر من أمورنا كثيرا برغم أننا سافرنا في اللحظة الحرجة.
هراري العاصمة والتي تعنى في لغـة قبائل "الشونا" الزيمبابوية: المدينة التي لا تنام، بدت لنـا نائمة وقت وصولنا إليهـا، قبل العـاشرة مساء! لكن عصرية هذه المدينة، ونظافتها الفائقة، لم تغيبا عن عيوننا تحت ضوء مصابيح الشوارع الأنيقـة. ثم إن عشـاء ساهرا من مشويات ذيل التمسـاح ولحم النعام وحمار الـوحش والخرتيت والغزال، كان بداية ساطعة تماما للتيقن من سهر المدينة "التي لا تنام" وهو سهر أليـف وإن وشته إيقاعات الطبول الإفريقيـة الحارة والصلابـة المنسابـة لمعروضات المنحوتات الحجربة في أبهاء المكان، وهي - أي تلك المنحوتات الحجرية- سيحـدث أن نجدها في كل مكان في زيمبابـوي المشتق اسمها- بالمناسبة - من تعبير في لغـة "الشونـا" أيضـا، يعنى: "بيت الحجـر الكبير". والحجـر في زيمبابوي هو كتابها الذي تكتنز صفحاته تاريخها الطويل الطويل، والذي يجعل منها لدى البعض "أوفير" أرض الذهب المذكورة في التوراة، والمكـان الذي تختبئ فيه "كنـوز الملك سليمان" ثم إن الحجـر هو الدفتر الذي تخط عليـه زيمبابـوي دلائل روحها الفنـانة بالفطرة، التي تحيل كل أنواع الصخور والحجارة إلى تماثيل متقنة تلقاك في كل مكان، وبأزهد أسعار فنية في العالم، ومن بشر بسطاء وعاديين تماما حتى أنني أكاد أجزم أن الإنسان هناك كلما شعر بالفراغ أو السأم يلتقط أقرب قطعة حجر إلى جواره، ويحيلها إلى تمثـال بديع، ثم يخرج ليعرضه للبيع على الطريق المار بقريته.. أو في وسط المدينة.
لقد دخلنا المطعم الذي يقع وسط "جاليرى" لأعمال النحت، لتناول عشاء بعد السفر الطويل ومحطات الانتظار الأطول، وجيء لنا بقائمة الطعام التي لم أر مثلها في أي مكان من العالم فهي مجلدة بجلد طبيعي مازال به وبر الظباء، وبدلا من كلمة "أطباق اليوم" قرأت "صيد اليوم"، وفهمت أن المطعم يقدم أطباقا من لحوم الطرائد التي تم صيدها من البراري المحيطة بالعاصمة في اليوم نفسه، ولم أحرم نفسي من التجربة، بل أظن أنه ليس من حقي أن أحرم نفسي من التجربة ما دمت سأنقلها للناس، ومهما كانت صعوبتها، وهي لم تكن صعبة على أية حال. طلبنا طبقا (شاملا) به عينات مصفوفة من "صيد اليوم "، شرط أن تكون مشوية جيدا، وليس بها لحم خنزير، لا برى ولا غير برى إضافة إلى (السلاطات) والخبز. وبعد أن أكلت عينات من كل أنواع (الاستيك) المشوي طلبت من أحد الطهاة بالمطعم أن يخبرني بنوع كل عينة مما جربت وإليكم النتيجة: لحم ذيل التمساح ابيض يشبه لحم السمك العجوز وبواسطة غضروف صلب لا بد من فصله وإلا تحطمت أسنانك. أما لحم الحمار الوحشي فهو متماسك ومدمجة أليافه الناعمة كلحم الحصان الذي تذوقته من قبل في كازاخستان. ولحم الغزال هش ويظل وردي القلب برغم الإمعان في شيِّه. ولحم الخرتيت أليافه حزم ظاهرة ومضفورة بقوة. أما لحم النعام - الذي راق لي كثيرا - فهو كالنيفة المأخوذة من لحم الماعز. وباستثناء لحم ذيل التمساح، الذي لم أستسغه، فقد كانت بقية اللحوم المشوية لا تكاد تفترق عن أي لحم مشوي نأكله. ولقد جعلتني هذه التجربة أتعاطف بشكل زائد مع نظرة عيون الحمر الوحشية التي راقبتها في أدغال زيمبابوي فيما بعد، إذ بدت لي بعد الإمعان بديعة، سوداء ضاربة إلى الخضرة وكأنها زمرد داكن وسط تناوبات الأقواس البيضاء والسوداء أو البنية الملونة بها جلود الحمر الوحشية التي باتت هاجسي في البراري المحيطة بالعاصمة أو في محمية شلالات فيكتوريا التي ذهبنا إليهـا بعد ذلك.
بيت الحجر الكبير
في الطائرة من هرارى إلى شلالات فيكتوريا، تذكرت أن كثيرين يخطئون في التمييز بين بحيرة فيكتوريا وشلالات فيكتوريا.
فبحيرة فيكتوريا التي تعتبر المنبع الأول لنهر النيل الذي يخرج من شاطئها الشمالي باسم نيل فيكتوريا، تقع في إفريقيا الوسطى تحف بها أوغندا وكينيا وتنجانيقا وتعتبر ثاني أكبر بحيرات العالم العذبة بعد بحيرة " سوبيريور" الأمريكية. وهي - بحيرة فيكتوريا - واحدة من بحيرات الهضبة الاستوائية الثلاث التي تصنع النيل الأبيض أي بحيرات البرت وادوارد وفيكتوريا.
أما شلالات فيكتوريا التي كانت طائرتنا تتجه إليها فهي في منطقة نهر الزامبيزي العليا على حدود زيمبابوي (وكانت تسمى روديسيا الجنوبية) وزامبيا (التي كانت تسمى روديسيا الشمالية) نسبة إلى سيسيل جوان رودس أبي الإمبراطورية البريطانية في إفريقيا الذي بنى هذه الإمبراطورية على بحيرات من الدم ومات في الثانية والأربعين في كيب تاون والذي بدأ من شركة جنوب إفريقيا البريطانية، ومن جنوب إفريقيا قفز على أرض مملكة التيديبليين التي كانت مملكة متطورة تحت حكم الملك لوبنجولا. وبماثتين من رجال البوليس في شركة جنوب إفريقيا البريطانية و 500 من المرتزقة وبالعربات والبنادق سحقوا أرض ماتابى وماشونا ورفعوا عليها العلم البريطاني في 13 سبتمبر 1890.
وكانت مكافأة الغزاة: لكل فرد عدة هكتارات من الأرض وخمسة عشر تصريحا لإنشاء مناجم. وسرعان ما أتى البيض، ولأن، المزارع كان لا بد لها من عمال فقد بدأ نظام العمل بالسخرة وتحول أبناء قبائل التيديبل والشونا إلى عمال مزارع ومناجم وبدأت معارك التحرير التي افتتحت حمامات الدم منذ عام 1896. بعد تكوين مجلس من البيض أعلنت روديسيا الجنوبية عام 1899، لتكون تحت قيادة الشركة البريطانية لجنوب إفريقيا وظلت الأقلية تسيطر على الأغلبية حتى استنكرها العالم كلـه لكن البيض امعنوا في التحدي وأعلن الحاكم الأبيض ايان سميث عام 1965 استقلال روديسيـا الجنوبية عـن جنوب إفريقيا ففاض حمام الدم أكثـر وأغزر. ولقد تبلور كفـاح أرض قبائل التيديبل والشونـا (التي أسماهـا المستعمرون روديسيـا) عندما أعلن عن تكـوين جبهة وطنيـة بين قائدي الجناحين الأكبر من المعـارضة السوداء روبيرت مـوجابي وجوشـوانكوما. وقد أدى الصـراع بـين الأقلية البيضاء الحاكمة والأغلبيـة السوداء المحكومة إلى معـارك دامية ذهب ضحيـة إحـداها (وهي المسماة حرب التحريـر الثانية) أكثر من 27 ألف ضحية من الجانبـين ولعل هذا ممـا دفع في تـوقيع اتفـاق لـوقف إطلاق النار في 21 ديسمبر 1977 بـين قـائدي الجبهة الوطنيـة السـوداء والحكومة البريطانية في لانكستر هاوس بالمملكة المتحدة واتفق على مسـودة دستـور جديـد لا عنصري ومتعـدد الأحزاب، وإجراء انتخابات عامة في غضون ستة أشهر وتكوين برلمان من 100 عضو بينهم 20 يمثلون الأقلية البيضـاء. وفي أول انتخـابات حـرة في فبرايـر 1980 فازت الأغلبية السـوداء وأصبح موجابي أول رئيس وزراء أسود لزيمبابـوي. وفي هبة منتصف الليل في 18 أبريل 1980، وبعد قـرن تقريبا من وصول سيسيل رودوس إلى جنوب إفريقيا، وبعد 83 عاما من احتلال أرض التيـديبل والشونـا وتسميتهـا روديسيـا بمرسـوم ملكي بريطاني، أزيلت من شوارع العاصمة هرارى التي كان البيض يسمونها "ساليزبـورى" تماثيل سيسيل رودوس وعـاد اسم زيمبابـوي الـذي يعنى " البيت الحجري الكبير" ورفرف علم جديد دافئ الألوان حيث الأخضر لون الأرض، والأصفر إشارة ذهبها المكنون، والأحمر لون الدم الـذي سال على أرضها في سبيل الحريـة، والأسود لـون أغلبية أبناء الأرض، وفي المثلث الأعلى ثمة طائر يمثل انطلاق زيمبابوي وخلفه نجمة في الأفق تشير إلى طموحهـا.
مكثنا ساعة ونصف ساعة نطير في سماء زيمبـابوي من هراري في مدينة شلالات فيكتوريا، وكانت الأرض تلـوح تحتنا بنيـة دافئـة "مـوشاة، بـالخضرة وتسفر عن عطشها الذي امتد بطـول سنوات الجفاف التي ما زالت تضرب زيميابوي وبلـدان جنوب الصحـراء، وتصنع أزمة مياه نجد ملامحها في المنشورات المبثوتة في كل مكان تفتح فيه صنبـورا أو دشـا تسألك أن تترفق بـالماء ولا تسرف فيه، لقـد جعلت أزمة المياه هذه نصـف سكان زيمبابوي (أي حوالي خمسة ملايين إنسان) لا يستطيعون مواصلة العيش إلا بالإعانات. وبينما كانت الطائرة تخفض من ارتفاعهـا قبل الوصـول بكيلومترات عديدة أمكننا رؤية سهول السافانا وبعض قطعان الأفيال والجاموس البري. لمحة من ثروة هذا البلد، فإضافة إلى قصب السكر والتبغ والفواكه والشاي والقهوة والزهور وثروة المناجم التي تنتج الذهب والفضة والبلاتنيوم والماس والنحاس والحديد والرصاص، والفحم الذي يعتبر المصدر الأول للطاقة فإن زيمبابوي المعتدلة المناخ تعتبر كنزا للحياة البرية التي تشكل 13% من مجمل مساحة زيمبابوي أي قرابة 50.000 كيلو متر مربع هي محميات طبيعية ترتع فيها الأفيال، والجاموس البري، والغزلان، والأسود، والفهود، ولا بحيراتها أنهارها يوجد 40.000 من التماسيح التي تشكل كتلتها أكبر عدد من هذا النوع على سطح الأرض.
لقد كان طاقم المضيفات في الطائرة مختلطا، من السود الذين لا تلمح في قسماتهم الزنوجة بل رقة ملامح تشير إلى جذور السكان المنحدرين من هجرات "البانتو المنتشرين في هذه المنطقة شأنهم في ناميبيا وجنوب إفريقيا وبوتسوانا. وكانت هناك مضيفتان شقراوان. عندما كانت إحداهما تقدم لنا شراب الأناناس سألتها مشاغبا: (من أي بلدان أوربا أنت " فردت بإنكار وحيرة: " لست أوربية. أنا إفريقية من هنا من زيمبابوي" . وقد قرأت في وجهها الأبيض ملامح مأساة أتمنى أن أكتب عنها يوما: مأساة الأبناء الذين يحملون أوزار الآباء. هؤلاء الأفارقة البيض الذين ينتمون بلون بشرتهم إلى أوربا وبجذور مولدهم ونشأتهم وحياتهم كلها إلى إفريقيا وبرغم أن عددهم كان في زيميابوي يقارب 34% من مجمل عدد السكان إلا أنه بعد حكم الأغليية السوداء، وخوفا من الثأر القديم، وربما رفضا لانتقاص الهيمنة المطلقة هاجر كثيرون، وبقي قليلون لكنهم مازالوا فاعلين في حياة هذا البلد،
"شلالات فيكتوريا"، قرأت اللافتة على بناية المطار الصغير الأبيض وسط البراري وكانت هناك غزلان تطل علينا من يبن أشجار السنط الخفيضة ويمنعها من الاقتراب سياج الأسلاك الفاصل بين الغابة والمطار. وما أغرب أن يلصق بهذه الأرض اسم ملكة الإنجليز فيكتوريا التي بلغت إنجلترا في عهدها أوج توسعها الاستعماري. وفى عهدها حدثت حرب الأفيون عام 1840، وحرب القرم، وخلع عليها رئيس الوزراء البريطاني الداهية دزرائيلى لقب إمبراطورة الهند التي كانت جوهرة التاج البريطاني.. الاستعماري طبعا. غرور إنجليز غريب جعل هؤلاء القادمين من بحر الشمال يطبعون أسماءهم على بلاد الله وخلق الله في الجنوب. وأستطيع أن أعد الكثير من المعالم التي استولى عليها اسم فيكتوريا، فغير البحر والنهر والشلالات هـناك جزيرة فيكتوريا في المحيط القطبي الشمالي، وولايـة فيكتوريا في أستراليا، ومدينة فيكتوريا في عـاصمة إحدى ولايات المكسيك. ومنطقة فيكتوريا بالقارة القطبية الجنوبية. ومدينة أخرى اسمها فيكتوريا في الكاميرون. وأماكن أخرى بلا حصر دمغت باسم فيكتوريا. وفيكتوريا كانت ملكة، برغم ولعها بالتدخل في شئون الحكم، إلا أنها كانت امرأة عندما توفي زوجهـا وابن خالها الذي أحبته الأمير ألبرت "اعتزلت الحيـاة السياسية والاجتماعية ثلاث سنوات. فما ذنب بلاد الناس بحمل أعباء اسمها وهي امرأة ككل النساء؟ وما ذنبي حتى ترتب الأقدار لي لقاء معها باهظ الثمن ففي وقت زيارتنا الحرج لزيمبابوي لم يكن ممكنا إتمام المهمة إلا بالاندفاع والمغامرة وبعض التضحية!، فبرغم أن حجز الطائرات إلى شلالات فيكتوريا كان كامل العدد! إلا أننا ذهبنا إلى المطار، وسافرنا على المقاعد الاحتياطية. وبرغم أن الفنادق هناك لم تعطنا إلا وعدا شاحبا باحتمال وجود مكان في فندق " ماكاسا " إلا أننا ذهبنا إلى الفندق دون أن نتأكد من وجود مكان به. وهناك "رمينا جثثنا" على إدارة الفندق، وتصايحنا وادعينا أنهم وعدونا بإيجاد مكان، ولما يجد المساكين بدا للتخلص من تصايحنا وتعطيلنا " لكاونتر" الفندق كله، إلا بمسح كل فنادق البلدة حتى عثروا لنا على مكان استثنائي، وأين؟ في " فندق شلالات فيكتوريا " العريق ذاته. وبرغم أننا اكتشفنا أن تكاليف الإقامة في هذا الفندق تعد ضربة مطرقة قاسية على الرأس، إلا أن المكان منحنا كثيرا من العزاء إذ كان مسكونا بحكايات عمرها يقارب قرنا من الزمان، وكانت حجرتنا تواجه جناح ملكة بريطانيا ذاتها، وبناتها أيضا، ومكتشف شلالات فيكتوريا الشهـير ليفنجستون. ثم إننا كنا عن مبعدة خطوات عند الغابة من هدفنا الكبير: الشلالات.
لقد أعطوني الغرفة رقم 80، وأمامها مباشرة كان باب الجناح المكتوب على يافطته الذهبية بحروف سوداء غائرة: ليفنجستون.. وكان فرحى للوهلة الأولى مبعثه أن أكون بقرب هذا الطبيب الراهب المستكشف الذي نقل إلى العالم خير الشلالات التي كان هو أول إنسان ابيض يراها عام 1855 ومات بلسعة بعوضها، أي أن أكون على مقربة من جسم الدراما التاريخية الكامن في قلب الجغرافيا لكنني فوجئت بأن هذا الجناح الحامل لاسم ليفنجستون هو جناح الأسرة المالكة البريطانية وهكذا كنت أقرب ما يكون من أنفاس سكان هذا الجناح: الملك جورج الخامس، والملكة اليزابيث الأم، واليزابيث الابنة، والأميرة مارجريت، وأخيرا الأميرة آن، فهم جميعا تمددوا على فراش لا يبعد إلا خمس خطوات من الفراش الذي تمددت عليه منفجرا في الضحك من شدة البلوى فالأجر الخيالي للفندق حرمني من شراء قطعة فنية رائعة نحتها فنان تلقائي من أبناء البلد من خشب يسمى الأبنوس الحديدي، لأنه له لون الحديد الصدئ وصلابتـه أيضـا، وكـانت تمثل قطيعـا من الجامـوس البري المفـزوع أمـام هـجوم فهدين يفترسان جاموسة شاردة تقاوم. صورة ناطقة بكل حـرارة الحيـاة التي رأيت شراستهـا رأي العيـن وبهذه الصـورة تحديدا أمام تدهور الميزانية لم أقدر إلا على شراء جاموسة صغيرة كـانت مع البـائع الفنـان وهكـذا كنـت مع جاموستي المسكينة على مبعـدة خطـوات مـن مخدع الأسرة المالكـة البريطـانية. لقـد ضحكت مع زميلي المصور طالب الحسيني لهذه المفـارقة حتى سـالت الـدمـوع من عيني، فنهضت أغسل وجهي لنذهب، وفي الحمام أصابني الرعب فقـد كـانت مقـابض الصنـابير وفوهاتها مطلية بالـذهب الخالص لهذا خـرجت من الحمام لا أنطـق، وسعيـت إلى الشلالات عبر الغابة دون أن أنبس بحرف وكـان ذلك حسنا فقد أنقـذتا الصمت من موت محتمل.
فخامة فندق شلالات فيكتـوريا الذي رحنا نشق أبهاءه متجهين إلى حـديقتـه الخلفيـة ضـاعفت من صمتنا. فالفندق الذي بدأت إنشاءه شركـة قطارات جنـوب إفريقيا البريطانية عام 1904 مع بدء وصول السكك الحديدية إلى المكان، كجزء من مشروع استعماري إمبراطوري عجيب كـان يطمح إلى ربط القاهرة برأس الـرجاء الصـالح عبر خط سكك حـديدية يسمى: "كـايرو- كـاب" ويخترق مستعمـرات الإمبراطورية البريطانية في إفريقيا من أقصى جنـوبها حتى أقصى شمالها ، هذا الفندق الذي جرى تحديثه وإن ظل يحمل طـابع العمارة الفيكتورية (نسبة إلى الملكة فيكتوريا ذاتها) كان مثقلا بالفخامة الاستعمارية برغم أنه من طابقين لا ثالث لهما، ممرات بلون العـاج مفروشـة بالجوخ الأخضر ومضاءة بثريات الكريستـال ومطاعم باتسـاع الساحـات وأبهة القصور الملكيـة أحدها بلون القطيفة القرمزية وآخر بلون الساتان البنفسجي. وتراس يهبط بدرج عرضه مائتـا متر ليفضي إلى حدائق مرسومة رسما وحمامات فيروزية المياه وملاعب للجولف باذخة. قطعة حية من الزمن (الفيكتوري) رحنا نشق طريقنا عبرها، محاذرين ان نصدر صوتا، فلم يكون يصدر عن العاملين السـود والبيض فيه أي صوت وهم يتحـركون بسرعة داخل أزيـائهم الفيكتـورية. وعنـدما بلغنـا "التراس" الخلفي لم أتمالك نفسي، فصحـت "الجسر"، لكنني ابتلعت أصداء صيحتي وإن مكثت أتصايح في داخلي: اننـا على مشهـد من التـاريخ.
فالجسر الذي رأيتـه على مرمى البصر هو الجسر ذاتـه الذي طـالعت صوره وقرأت حكايـاته قبل أن نطير إلى زيمبـابوي ومعنى وجـوده القريب يشير إلى قـرب الشـلالات والجروف السحيقة التي تسقط فيها وتمضي عبرها مياه نهر الزامبيزى العظيم. لقد راقبت ظلال مقاعـد الطاولات في الشرفة وأعمدة الفوانيس وجذوع الشجـر، وقدرت من معرفـة الـوقت وامتداد الظلال مـواضع الاتجاهات الأربعـة وبعـد أن بللت اصبعى السبـابة بريقي ورفعته عاليـا حددت من مكـان ابتراد الأصبع اتجاه هبوب النسيم. وتحددت الخريطة في رأسي تمامـا كـما قرأت عنها من قبل: فأمامنـا مباشرة تخفي أشجار الغابة الجروف الثلاثة السحيقة المتواصلة في خط زجـزاجي على امتداد الجرف الأول حيث يلـوح الجسر المعلق وتكون هنـاك "نقطة الغليان" و"النقطـة الخطرة" ونقطة "حافة السكـن" الكـائنة على الضفة الأخرى على حدود البلد المواجه زامبيا. أمـا بدايـة الشلالات والتي تسمى الشلال الوحشي فإنها تقتضي منا الاتجاه يسارا وعبـور الغابة ثم اجتياز شريط القطـار والدخـول من البداية الكبيرة لمنطقة الشلالات وبعد مسيرة عشر دقائق نرى "الدخان الراعد"! "
توكلنـا على الله" قلتها منتعشا وأنا أشير لطالب حتى يحمل حقيبة الكاميرات ونبدأ سعينا المثير، وتذكرت ونحن نهبط درج "التراس" أن أحد التقاليد الكولونيالية المعتوهة في فندقنا "الفيكتوري" كانت لا تسمح بحضور حفلات الكوكتيل مساء يوم السبت، في الساعة السابعة والنصف تماما، إلا في ملابس كاملة وبرباط عنق أسود! ولأن كثيرا من زوار الفندق الراغبين في رؤية الشلالات كانوا من كبار السن وغلاة الاستعماريين البيض فإنهم كانوا ينتقلون إلى الشلالات في عربات "ريكشو" يجرها السود. وفي عام 1920م انشىء خط " تروللى" ينقل رواد الفندق إلى الشلالات ذاهـبا في المكان المنحدر بقوة الجاذبية الأرضية وعائدا بالحبال التي يجذب أطرافها عمال من السود. ثم انقرض هذا " التروللى" وسحبت عرباته بعد حادث سقوط عام 1957 وإن بقت منها واحدة موضوعة على سبيل الأثر في أحد أفنية الفندق.
غادرنا نطاق الفندق عبر بوابة في سياج سلكي مرتفع تفصل بين الفندق والغابة، ونبهنا الحارس الأسود الرقيق أن نعود قبل الساعة السادسة، وهذا هو الموعد الصارم لإغلاق البوابة، لأن حاسة الافتراس تشتعل لدى الحيوانات مع حلول الظلام "معنى ذلك أن الحيوانات على اختلافها موجودة دون حواجز حيث يمضي طريقنا؟ سألت الحارس، فأجابني ببساطة: " نعم.. فيل.. غزال.. زرافة.. قردة.. أسد.. فهد. لكنها لا تأبه بمن لا يستفزها" وبرغم أن الخوف أمسكني إلا أنني واصلت المسير موصيا طالب أن يمتنع عن التصوير حتى نصل إلى المنطقة المكشوفة قرب شريط القطار.
مضينا على الدرب الموغل بين أشجار الغابة، ولأن الوقت كان قبيل أول الربيع فإن اللون الأخضر كان قليلا، وكان هذا يناسب خوفنا إذ إن المدى أكثر انكشافا. وكلما أوغلنا كنا نلقى على الطريق جزءا من جذع شجرة جرى تجويفه وقد كتبت عليه كلمة "بريد"، فالمكان "محمية طبيعية" ممنوع فيها أي نشاط غير فطري، أي لا مواقد غاز ولا عربات من أي نوع ولا حتى دراجات وبالطبع لا يسمح بقطف زهرة برية أو كسر غصن أو إمساك طائر ناهيك عن لمس الحيوان أو تقديم أي طعام له، العطف المزيف قد يكون بابا للدم لا سبيل إلى إغلاقه إلا بالنار. وساعي البريد يأتي مترجلا عبر الغابة لينقل خطابات مرتاديها. ولعل هذه الفطرية السائدة هي التي أنشأت حالة الهدنة بين الحيران والإنسان العابر في هذه الغابة. ولقد مررنا في طريقنا بين قبيلة من عشرات قردة البايون اللاهية، وحفت بنا الغزلان، وأطلت "علينا من عليائها رءوس الزرافات التي تلتهم أوراق الذؤابات الخضراء العالية. ومن بعيد رأينا جسما لفيل يتهادى بين الجذوع. أما الحيوانات المفترسة فلم تصادفنا لكننا رأيناها من خلف مكياج الفندق في الليل، ذئاب وقطط برية وفهود. كانت الأصوات التي نسمعها في الغاية حتى بعد عبور شريط القطار واجتياز بوابة الشلالات ثم المسير مجددا بين الأشجار، لا تزيد على هسيس الشجر وحفيف الأوراق إذ يلعب فيها الهواء، وصدح كروانات وطيور مديدة الصوت. ثم بدأنا نسمع هديرا خفيفا راح يعلو بشدة كلما تقدمنا، وفجأة صار الهدير رعدا متواصلا، أشبه ما يكون بصوت طاحونة هائلة، أضخم طاحونة يمكن سماع صوتها على الأرض، ومع انكشاف الصوت رأينا سحبا من دخان أبيض ترتفع في عنان السماء. لكن ذلك لم يكن دخانا فلقد راح يتساقط علينا رذاذ ناعم يصيبنا بالبلل. وانكشفت الأشجار عن رحبة ينهض وسطها تمثال ليفنجستون محاطا بالأشجار والنباتات. كان الرجل الكولونيالى الثياب ذو الشارب الكثيف والمعتمر بقبعة قماشية مسدلة القفا من قبعات هواة الصيد يمضي بخطى صغيرة متساندا على عكازه وكان صدأ البرونز يغطيه.. لقد كان يواجه اكتشاف عمره، واكتشاف عيوننا التي انبهرت عندما اتجهت حيث ييمم الرجل وجهه..
تسمى نقطة مشاهدة بداية الشلالات عند تمثال ليفنجستون بنقطة المشاهدة رقم1، وإذ نخطو باتجاه الدخان الراعد يغمرنا رذاذ ناعم ببلل من الماء، ونفتح عيوننا عند الحافة على الأعماق السحيقة التي يتصاعد منها الدخان، الذي ليس بدخان، فنكون مطلين على مائة وخمسين مليون سنة، تكشف عن وجهها على عمق أكثر من مائة متر صخور البازلت السوداء التي تهوى عليها شلالات المياه فتتحطم رذاذا يتصاعد كأعمدة الدخان، ثم تذروه الريح فيتكاثف ويتساقط مطرا ناعما يصنع ظاهرة نادرة تتمثل في غابة مطيرة تحيط بفوهة الشلالات الممتدة بطول يقارب كيلو مترين، فكأنها منطقة استوائية مطيرة برغم بعدها الشاسع عن خط الاستواء وعن مناطق الغابات المطيرة.
وإذ نتحرك يسارا وإلى الأمام ندور حول هذا الجزء الأول من الشلالات ويسمى الشلال الوحشي فنرى جزاءا متسعا من نهر الزامبيزي يغمر الأرض ثم تجد المياه لها مهبطا عند حافة خفيضة عن مستوى الحافة العام، فتندفع وتهدر كأن بحر الماء ينضغط ويندفع في حزمة عرضها أمتار قلائل. ويا له من هدير. ونجد درجا يهبط حتى قاع الشلال، درجا منحوتا من صخور المكان، ولا يسمح بهبوطه لمن يعانون الدوار. وبرغم أنني لم أعان الدوار أبدا، إلا أنني ما كدت أقطع منتصف المسافة إلى القاع، أي أقل من 50 مترا، حتى أحسست في - دوامة الهدير الراعد وفي مواجهـة مهوى مياه الشلال والصعود المتواصل لدخان الرذاذ، بتأثير منوم وهي ظاهرة قرأت عنها، فالشلالات لها قدرة منومة لمن يمعن التحديق فيها، فعاودت الصعود.
إن حافة الشلال الوحشي هي الأكثر انخفاضا بين الشلالات الخمسة المكونة لشلالات فيكتوريا إلخ تلتحم معا في موسم فيضان نهر الزامييزي. ونقطة الشلال الوحشي هذه هي نقطة ضعف في تركيبها الصخري ومن ثم فإن النهر يحفر لنفسه مجرى خلالها وهو مجرى الشلال الوحشي الذي ترتفع إلى يساره جزيرة تسمى جزيرة الشلال يعقبها الشلال الرئيسي وهو أكثر انفساحا حتى تبرز أشجار جزيرة ليفنجستون التي تتبدى طيفا وراء دخان الرذاذ. وعندما انظر من النقطة المواجهة للشلال الرئيسي نحو قاع الجرف لا أراه لفرط عمقه. فالمياه لكثرتها في هذه النقطة تسقط مشكلة قوة نحر أشد فتأكل القاع الذي يبتعد ويبتعد. نتحرك بموازاة حافة الشلالات المسيجة بسور خفيض من البوص والأسلاك وجذوع الشجر، ودائما تطالعنا فوهة الشلالات يتصاعد منها دخان الرذاذ حتى نصل إلى نقطة مشاهدة تسمى بـ "النقطة الخطرة" في أقصى جنوب الفوهة (إلى اليمين) ومن هذه النقطة نطالع الشلال الثالث- بعد جزيرة ليفنجستون ويسمى "شلال حدوة الحصان".. وفي المساحة الموازية لحافة هذه النقطة تبلغ "الغابة المطيرة" أوج كثافتها وتجلياتها النباتية والجيرانية. فالأغصان الخضراء خضرة يانعة تتشابك معا حاجبة ضوء الشمس مما يجعل المماشي المبلولة ظليلة دائما. وثمة أشجار لا توجد خارج نطاق هذه المنطقة، مثل أشجار الأكاسيا المعرشة، والنخيل الطافي الجذع والتوت البري، والتين المضفور الذي يشكل علاقة تكافل غريبة، فبذوره التي تنبت بين ثنايا أفرع الأشجار الأخرى تمد جذورها نحو الأرض لتعاود الصعود ملتفة على جذع وأفرع الشجرة الأصلية ، وثمار هذه الشجرة - التين المضفور - تنبت مباشرة على الأرض دون أوراق. أما الأزهار فغريبة الأشكال والألوان منها "ليلك الدم" قاني الحمرة. والطيور عجيبة الأشكال والألوان. ولقد رأيت منها ذلك الطائر المضحك المسمى "أبو جرس قارع الطبل" وله قلنسوة برتقالية عجيبة فوق منقاره الكبير. وعصفور الجنة صائد الذباب! بقبعته العجيبة وذيله الملون الذي تمتد منه ريشتان بالغتا الطول. هذا إضافة إلى البلابل التي كنت اسمع شدوهـا دون أن أراها بين تشابك الأغصان في "الغابة الاستوائية".
أما الحيوانات فقد لمحت منها في الغابة المطيرة، ظبي الماء بسنامه المشعر وقرونه اللولبية الصاعدة، كما رأيت من بعيد بضع غزالات حذرة أما الذي لفت نظري بكثرة فهي حيوانات النمس البنية المخططة التي كانت منتشرة في مجموعات فوق فروع شجرة أكاسيا. بقى أن هناك بصمات أقدام على طين المماشي في الغابة المطيرة تدل على أصحابها دون أن يتمكن المرء من رؤيتها. فقد صادفت من هذه البصمات أشكالا مختلفة رسمتها وطابقتها بمثيلتها في أحد كتب الصيد. وكانت إحداها تشبه فصي الكازو، وهي لحافر ظبي الماء، وأخرى كنصف دائرة تبرز منهـا أربعة أصابع مدورة متباعدة ككف طفل رضيع سمين وهي لفرس النهر، وثالثة كطبعة أقدام القط وهي للنمس المخطط، أما أثر قردة البابوم فأصابعها الخمسة واضحة، وطبعات أقدام الفيل مدورة وغائرة تظهر فيها التحززات وكأنها بصمة. ولكن البصمة التي جعلتني أشهق فاتحا عيني على اتساعهما فهي تلك البصمة التي تتكون من وسادة على هيئة سحابة مثلثة وتتوزع حول رأسها الأصابع الأربعة دون أثر للمخالب، وهي بصمة أقدام فهد...!
الشيء المذهل الذي كنت ابحث عنه في شلالات فيكتوريا دون أن أصدق وجوده هو قوس قزح الذي لا يغيب، بل أقواس قزح، وتبعا لنصائح خبراء الشلالات عند المدخل فقد تعمدت أن أذهب مرات في أوقات مختلفة وأطل على الشلالات من نقاط رؤية مختلفة. فمن النقطة المواجهة لشلالات قوس قزح، وفى الثامنة صباحا رأيت قوسي قزح متوازيين أحدهما داخل فوهة الجرف والآخر يصعد من قاع الجرف ويرتمي على أغصان شجر الحافة ولقد لامست ألوانه بيدي. كما أمكنني رؤية قوس قزح كبير في الساعة الحادية عشرة من نقطة "حافة السكين" من حدود زامبيا وكان يصعد عاليا فوق الجرف عند نقطة " شلالات يد الكرسي" وظلت أقواس قزح التي رأيتها في متناول اليد مشهـد لم أنسه حتى نهاية الرحلة وبعد تمامها، وطالما تألقت في الذاكرة الألوان.
جبروت الماء..
أعترف أنني ارتكبت مخالفة بيئية لو كان حراس الشلالات ضبطوني أثناءها لقادونى إلى قسم شرطة المدينة وأجبروني على دفع الغرامة، ففوهة الجرف الذي تسقط فيه الشلالات من ضفة المشاهدة محاطة بسياج خفيض إلى الداخل من الحافة، وفى الأماكن التي يتباعد فيها الشجر يدور هذا السياج موفرا شرفات للإطلال منهـا على ستارة الماء ودخانه الرذاذ وأقواس قزح لكنني في إحدى نقاط المشاهدة على حافة الغابة المطيرة وقد صرت مبتلا حتى عظامي مما يتساقط من مطر ناعم عن الأغصان المتشابكة، رأيت قوس قزح ساحرا إلى حد يفوق كل المرات التي رأيته فيها يأتي من عمق الدخان الأبيض ويصعد رفيقا ليستريح بنهاية تقوسه على الضفة. وقد كانت الضفة ساحة من صخور ضخمة مدورة مبتلة تلمع. وجذبني قوس قزح كأنه مارس علي نوعا من السحر، فقفزت السياج برغم أن ذلك ممنوع، واحترم منعه عقليا وعاطفيا اتقاء لدهس نباتات أو حشرات أو حيوانات هي بمقاييس خصوصية المكان نادرة. ثم إن الاطلال من فوق هذه الصخور الزلقة مخاطرة أودت بحياة كثيرين قبل أن يوضع السياج وتشدد قوانين الاطلال من هذا المكان الذي يسمونه رسميا: النقطة الخطرة.
صخور ما قبل التاريخ
قفزت السياج بكل حذر وسرت محاذرا دهس أي نبتة أو حشرة تحت قدمي، وعلى الحافة وقفت على إحدى الصخور المدورة، لقد ذكرتني هذه الصخور بوصف لجابريل جارسيا ماركيز في رواية "مائة عام من العزلة" إذ يصف قاع نهر تجري فيه مياه شفافة على صخور مدورة كبرة من صخور ما قبل التاريخ فهذه الصخور المدورة المبتلة التي لا ينقطع ابتلالها بفعل مطر الرذاذ الهامى عليها، هي من صخور ما قبل التاريخ فهي من البـازلت المنتمي إلى أعمق الأعماق المنصهـرة لكـوكبنا. هي ابنـة الحمم التي قـذفها نشاط بـركـاني سحيق وهي رذاذ قـديم من قـذائف الحمم. مـوقف رهيب استشعرته وأنا أقف على (زلطة) عمرها ملايين السنين وهي مدورة وبحجم وشكـل طبق كبير طائر. ولما كنت أهفو إلى الإطلال على قـوس قزح القادم من عمق يعـادل طول برج مكـون من 35 طابقـا، ولأن طاحونة الشلالات كان يتداوم هديرها المنوم، ولما كنت مبتلا أصلا، فانني رقدت زاحفا على الصخـور حتى يمكنني الاطلال على جـذر قوس قزح السحيق، عند القـاع الهادر الفوار وهـو يصعـد من قـاع دخان الرذاذ الأبيض. وشردت مسحورا بالمنظر ومغمورا بدفء مطر الرذاذ الذي كان ينداح (كـدوش) ناعم مستمر، ومرت في جوار رأسي منزلقة واحدة من "كـابوريا" المياه العذبة أزحتها برفق وحذر، وواصلت شرودي في التاريخ، وما قبل التاريخ..
منذ مائة وأربعين سنة، وعندما رأى الرحالة الطبيب الراهب الكـولنيالي ليفنجستون شلالات فيكتـوريا عام 1855، وهو الذي أسماها كذلك هديـة منه لملكـة الإنجليز إياها برغم أن اسمها الأصلي بلغة أهل البلاد هو "موساي - أوا - تونيا" ومعناها "الدخان الذي يلد الرعد" كتب مفسرا الظاهرة: "لقد تكـونت شلالات فيكتوريا عندما حـدث صـدع ارضي قطع ممر النهر وكشف عن الباطن الصلب الأسود المكون من الصخور البازلتية".
لكن الصخور المدورة التي كنت نائما على إحداها سخرت، مثلما سخرت تقارير العلماء الجيولوجية، من تفسير ليفنجستـون. فلو أن شرخا أو صدعا حـدث وقطع مسار النهر لتهوي مياهه من حافة الصدع مكونة ظاهرة الشلالات، فـما الذي قذف بهذه الصخور الخرافية من جـوف الأرض وهي لا بد أن تكـون قد أنقذت منصهرة؟ أي نقطة هائلة سائلة طارت في الهواء وهوت على سطح الأرض فبسطت وبـردت لتكـون (زلطـة) خرافية على هذا النحو.
لقد أخطأ ليفنجستون عدة مرات، عندما خلط الطب بالتبشير الذي أرى أنه لم ينجح في إفريقيا (بدليل أن كل واحـد من أبناء البلـد لـه اسمان اسم رسمي "مسيحي" في الأوراق والأضابير الميتة واسم آخر إفريقي ينـادونـه بـه في البيـت وفي القبيلـة، اسم البنـوة والأبـوة، والصراحـة والحب) وأخطأ عنـدمـا سمي الشلالات باسم غير اسمها الأصلي الدال عليهـا بجمال ودقة، وأخطأ عندما زعـم أنه اكتشفها، فهي مكتشفة قبله من أبناء البلاد الأفارقة، ومكتشفة وبما من قبل أوربيين آخرين سبقوه؟ مثل سيلفا يورتو، ولازلوباحيار وجيمس شايمان، وأخطأ عندما استهان ببعوض البلاد فلسعه لسعة مالاريا قـاتلة، وأخطأ عنـدما مـات في إنجلترا وأوصى بانتزاع قلبه ودفنه إلى جوار الشلالات ظنا منه أنه يختلط بأديم الأرض التي يظن أنه (اكتشفها) فالأرجح أن ضبعا أو عقابا من آكلي البقايا قد كشف عن هذا القلب الممزق ومزقه مزيدا بأنيابه أو منقاره.
وأمـام رجل كثير الأخطـاء إلى هـذا الحد، فإنني نهضت من مرقـدي البازلتي المدور وودعت (دوش) الرذاذ الدافئ، ولجأت في مكتبـة القسم السيـاحي بالمدينة إلى رجال يتكلمـون بأدلة علميـة، ويفسرون بالجيـولوجيا والأركيولوجيا ظاهرة شـلالات الدخـان الراعد "موساي- أوا- تونيا"..
يهبط نهر الزامبيزي من مرتفعـات "كـالين" بشمال زامبيا ويستمد مـددا آخر من الكونغو، ثم يتجـه إلى الجنوب الغربي عبر انجولا ويلتف عائدا من جديد إلى زامبيا حيث يتـدفق جنوبا وينتشر في مستنقعـات كابريفي ممتزجة ميـاهه بمياه نهر شربي ومن ثم يأخذ اتجاها شرقيا مكـونا تلك الحدود الفـاصلة بين زامبيا وزيمبابوي ومتجليا في ظاهرة الشلالات حيث يهبط ليواصل جريانه وفورانه في قيعان ثلاثة جروف سحيقة، على شكل زجـزاج، ويخرج منها ليعبر موزمبيق بالغا مصبـه في المحيط الهندي. هذه الرحلة طـولها 2700 كيلو متر وتجعل من الزامبيزي رابع أطول أنهار إفريقيا. لكنه يتميز "بشخصيـة" عنيدة، لأنه كثيرا ما يواجـه بعـوائق من الصخور الصلبة في طريقه ومع ذلك يجد طريقة ما يواصل بها شق مجراه وإكمال رحلته إلى المحيط الساخن.. المحيط الهنـدي. وفي منطقـة الشلالات تتجلى بوضوح هذه الشخصية العنيدة لهذا النهر.
وتكشف الدراسات الجيولوجية عن أن تكوين قاع النهر أعلى الشلالات يختلف تماما عن تكـوين المجرى أسفل الشـلالات، وهو ما يمكن ملاحظته بالعين المجردة إذ تسود الأرض السبخة فوق الشلال بينما تسود الصخور البازلتية السوداء تحت الشلال وعلى جـوانبه. ولتفسير هذا التباين الجيولوجي فإن العلماء عادوا 150 مليون سنة إلى الوراء في عمق التـاريخ الجيولوجي، عندما كانت الديناصورات هي حيوانات غابة ذلك الزمان الغابر، في هذه الفترة يسميها الجيولوجيون الزمن الجوراسي، كانت الأرض تفـور بالنشاطات البركانية في منطقـة الجنـوب الإفـريقي وكـانت تلفظ من باطنها المنصهر حمما مـن (اللافا)، تتسـاقط على سطح الأرض وتكسوه بطبقات فوق طبقات أخذت تبرد وتجمد مكونة طبقة صخرية شديـدة الصلابة هي "البازلت" ومع برود البازلت وتصلبه كان ينكمش فتظهـر تشققات هائلة في هذه الطبقة الصخرية التي وصل عمقها في بعض المواضع إلى 300 مـتر ومنهـا جـوانب الجرف المكـون لشـلالات فيكتوريا، ويرجح أنـه بعد ذلك تسـاقطت أمطار غزيرة كـونت بحيرة فوق المنطقـة وامتـلأت التشققات برواسب الطـين والكلس من بقايا الكائنات ذات الصـدفـات التي تحللت ثـم جـاء زمن للجفـاف فكـان التصحر وكشطـت الريح ما تـرسب على سطح الأرض وإن بقي ما في الشقوق من طـين وكلس. ومع إعادة توزيع مناطق المطر وتكوين الأنهار ولد الزامبيزي العنيد وشق طريقه باحثا عن مصب وفي اندفاعه كان "ينحـر" أو ينحت المادة الهشـة في مجراه أي تلك التي كانـت في الشقوق ومع استمرار النحر كانـت الشقوق تتعمق حتى لم يعد هناك غير البازلت الصلب وراحت مياه النهر تهوي من حافة الشق الكبير مكونة الشلالات التي تصنع ستارة مائية اتسـاعها 1700 من وتهوي 108 أمتـار في أعمق مـواضع الجرف، وعلى صخـور البـازلت الصلبـة تتكسر وتتنـاثر رذاذا يتصاعد كأنه. أعمدة من الدخـان الأبيض، وحتى ارتفاع 1500 قدم فوق سطح الجرف عند الفيضان.
وداع خاص لأقواس قزح
في آخر أيام شلالات فيكتوريا تذكرت: عندما كنت طفلا في المنصورة الحبيبـة البعيدة، كان بيتنا على حافة المدينة تظاهره الحقول، وكنت أنتظر المطر، لا للمطر، ولكن ليظهر بعد تـوقفه ذلك الساحر الملون العظيم الجميل العجيب: قوس قزح. يولد في الفضاء الرائق من الأفق إلى الأفق وتتضاءل تحته بيوت المدينـة البعيدة المغسولة. وعنـدما كبرت ودرسنا المنشـور الزجاجي وتحليل الضـوء في ألوان الطيف السبعـة كـرهت تلك المعـرفة التي حاولت انتزاع طابع السحـر عن تعلقي المحلق بقوس قزح. لهذا ظللت أتناساها. ولن أتحدث عنها في تفسـيري لأقواس قزح شـلالات فيكتوريا. نعم أقواس وليست قوسا واحدا. فأي بهجة وأي حظ سعيد ذلك الـذي يمنح طفـلا كـان يحلم بقوس قزح واحـد عشرات وعشرات من أقواس قـزح سـاحـرة، ودفعـة واحدة، وفي غضون خمس عشرة دقيقة. أي كنز هذا؟ لقد كان ذلك عبر نافـذة الطـائرة الهليـوكبتر التي حلقت بنا من مقلع طائرات، "سافاري لودج"، في رحلـة طولها خمس عشرة دقيقـة فـوق الشـلالات، وبخمسين دولارا للفرد. لكن شمطاء أمريكية مبهرجة أحبطت تدبيري في الفـوز بالمقعد المجاور لقـائد الطائرة حيث أفضل مساحة من الرؤية الشاملة عبر زجاج قمرة القيادة الوسيع. فعندما حجـزنا مقعدين ضمن المقاعد السبعـة للطـائرة الصغيرة حـرصت على ذكـر أننـا صحفيان. وعندما راح الميكروباص "الشاتل" التابع لشركة الطيران السياحية يجمع الركاب السبعة من فنادق مختلفة عـبر المدينة وتلالها، صعدت الشمطاء الأمريكية التي ترتدي قبعـة مكسيكية ووشـاحا افـريقيا وفستانا اسبانيا وقد لطخت وجهـها بالمساحيق والألوان الفاقعة وقلت لطـالب الحسيني مومئـا إلى المرأة: "إنها مجنـونـة ومعقدة ولن تحبنا أو نحبها لهذا لن نكلمها ابدأ حتى لو سقطت بنا الطائرة وكـان معها "البراشـوت" الوحيـد لإنقاذنا" كنت أمزح، لكن يبدو أن هناك "في كـل مزحة حقيقة ما" كـما يقول المثل الروسي. فالمرأة بدأت توشوش سـائق لميكروبـاص وفي مقلع الهليـوكبتر اختفت بضع دقـائق. وبـرغم أنني هيأت نفسي لأكـون في المقدمة بحكم أسبقية الحجز وللضرورات الوظيفيـة، إلا أنني فوجئت عند تجمعنا تحت عاصفة مروحة الطائرة المهيأة للإقلاع بقائد الطائرة ينادي على المرأة ويمنحها المقعد المجـاور لـه، فثرت، وزعقت، وحـاولت منع تلك "المحسوبية" العنصرية لكن دون جدوى، إذ عرض علي مسئولو الشركة أن أؤجل دوري للرحلة التالية وأكون في المقدمة. لكنني قنعت بـالمكان في جوار نافـذة مفتوحة ونافذة أخرى لطالب حتـى يخرج منها كاميراته، وبرغم أن الرؤيـة كانت كافيـة إلا أن الغيظ لم يفارقني فمكثت أضرب ظهر مقعدي في ظهر مقعـد الأمريكية لأنفس عن غيظي وأنغص عليهـا، ثم نسيتهما تمامـا إذ استلب لبى سحر أقواس قزح.. قوس، اثنان، ثلاثة، عشرة، مائه.. أقـواس قزح بـلا حصر كانت تتوالد في الجرف الذي تهوي في عمقه شلالات المياه وتتصاعد أعمدة عن دخان الرذاذ تصل إلينا فنمسحها بللا من فوق وجوهنا ونحن في الطائرة. فأعمدة "الدخان" الرذاذي الخمسة كانت تصل في ارتفاعها حتى مسافة ألف وخمسمائة قدم فوق الحافة. وبرغم أن الطيـار لم يكف عن "محسوبيته" إذ كـان يدور بحيث يكـون نصيبنـا من الرؤية أقل من مجاورينا البيض، وجارته بالطبـع، إلا أن مساحة الرؤية كانت رحبة وغنية وفاتنة بلا حدود. وكـان المشهد من الجو شاملا وفاتنا، وسخيا بأقواس قزح! بوضوح تبدى نهر الزامبيزي وهو يأتي من منابعه ويمضي عريضا على الحدود بين زامبيا وزيمبابـوي، ثم ينبسط باتساع بحيرة تتخللها جـزر تحمل أسماء بريطانية: الأميرة مـاري، والأمير كـريستيـان، والأميرة فيكتـوريا، ثم إن البحيرة تهوي بكل مياههـا من فـوق حافـة جـرف الشلالات الطـويل العميق، وتتصاعد أعمدة الدخـان الأبيض المائية.. و... يمر الطيار بالشلالات من بـدايتها إلى نهايتها طائفا فوقها، فإذا بقوس قزح واضح بهيج يتعلق داخل الجرف، وكلما تقدمت الطـائرة يلد القوس قوس آخر فـأقواسا.. أقواس قزح تتوالد بلا حصر، حتى نجتـاز حدود الشـلالات، ونمر فوق الجروف الأربعـة العميقة المتواصلة التي تجري فيها فوارة مياه الـزامبيزي ذاهبة إلى مستقرها الأخـير.. المحيط الهندي. ثم يعاود الطيار طوافـه مرة أخرى فنمر على ارتفاع خفيض فوق الجسر المعلق منـذ تسعين سنة فوق الجرف الفاصل بين بلدين، ليوصل البلدين. وكان بناته الإنجليز يحلمون بأن يوصل مستعمـراتهم في إفريقيا عـبر طريق القاهرة - الكاب. وبينما كانت الطائرة تدور دورتها الأخـيرة طافت فوق براري شلالات فيكتوريا فرأينا قطيعا من الجاموس البري، كسيل أسود ينـدفع عبر العشب باتجاه الماء. وكانت الزرافـات، والأفيال، والحمـر الوحشية تبين منمنمة، في رحاب البراري.
كنز من أقواس قزح أهدته لي شلالات موساي - أوا - تونيا، ولم تشأ إلا أن ترصع هذا الكنـز بدرّة نادرة. قـوس قزح في الليل! نعم في الليـل. فمع وقت زيارتنا تصادف أن هناك يومـين لا يتكرران إلا كل عام كامل في مواصفات جوية معينة، عند اكتمال البدر، ذهبت مع جمع من السياح القادمين من كل أنحاء الدنيا الشمالية، وجُسنا خلال الغابة المحيطة بالشلالات، يملؤنا الهدير ويغرقنـا مطر الـرذاذ والخوف من الحيوانات المختبئة في الظلمة. كنا محاطين بحراس الغابـة من أبناء زيمبابوي السرد الطيبين المسلحين بالكشافات والبنادق والكلمات المطمئنة. وعند نقطة الاطلال الأولى على حافة الشلال الوحشي مكثنا ننتظر بزوغ القمر.
جمرة، جمرة حمراء قـرمزية صعـدت من وراء حـافة الشـلال المظلمة؟ بـرغم أعمـدة الضبـاب البيضـاء، الصاعـدة في قلب السواد. ولم نصدق أبدا أنه القمر، لكنه كان القمر، تحول من جمرة إلى نصف دائرة ذهبية، وارتفع فكـان بدرا من فضة صافية تضئ. وفي ضوء القمر صعد من قلب الجرف العميق للشلالات الهادرة قوس قزح.. قوس قزح دقيق، مدمج الألوان كأنه من ذهب وفضـة، ارتكز بطرفيه على ضفتي الجرف ثم راح يواصل الصعـود والاتساع في سماء إفريقيا الطيبة، فلم أتمالك نفسي عن شدة الافتتان.. هتفت: الله. الله. الله.