الإنسان.. ما أظلمه لنفسه! محمد الرميحي

الإنسان.. ما أظلمه لنفسه!

حديث الشهر
نعم.. ما أظلم الإنسان لنفسه! فأمامي الآن ثلاث قضـايا تعبر عن هذا الظلم للنفس وهي مجرد أمثلة مما يدور من حولنا، بينما الإنسانية تجتـاز النصف الأول من العقـد الأخـير للقرن العشرين باتجاه القرن الواحد والعشرين.

لقد نظرت في حوادث سنة مضت واخترت منها ثلاثا، بشكل عشوائي، ووجدت أن هناك خيطا يربطها جميعا برغم أنها تبدو في ظاهرها منفصلة، لكن عند سبر أغوارها نجدها متصلة، ودعوني أذكرها لكم على التوالي، فهي: جائزة نوبل للسلام، والسخونة الكونية أو ظاهرة التسخين الكروي، والحرب الأهلية في أفغانستان. ثلاث قضايا بعضها أصوله قديمة نسبيا وبعضها يبدو جديد الأصول. وعندما نستعرض ما نعنيه بهذه القضايا سيتبين لنا كم هي متداخلة الجذور والفروع والنتائج!.

المثير في عالمنا اليوم ليس حدوثه فقـط، ولكن أيضا فرصتنا غير المسبوقة للمتأمل والتفكير بهذه الحدوث، "إنها الأفكار، إنها الأفكار التي تحكم العالم، كما أعلن الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" قبل أكثر من قرن مضى، وتاريخ العالم هو تاريخ الأفكار؟ ولا يوجد قبلنا جيل وجد نفسه يتعامل مع أفكار بهذه الكمية والنوعية. فإن لم نخرج بالنتائج الحقيقية والواضحة من كم الأفكار الهائل حولنا ف!ن فرصة ذهبية أخرى ستذهب - أمام نواظرنا - سدى. وسوف نجد - بعد أن نستعرض القضايا الثلاث المختارة في نهاية أيام هذا العام - أننا أمام مجموعة من الأفكار المستخلصة لا بد أن نتوقع أن يكون بها بعض الدروس.

جائزة السلام

أعلنت جائزة نوبل للسلام في أكتوبر الماضي، بالعاصمة النرويجية أوسلو، وكان من المتوقع أن تذهب هذه الجائزة إلى أسماء كبيرة عملت من أجل ذهبت جائزة السلام مناصفة إلى رجل أكاديمي مغمور وإلى ندوة دائمة لمجموعة من العلماء، وكلاهما - الرجل والندوة - ضد السلاح النووي. السلام الدولي، ولكنها - مفاجأة لكل المراقبين - ذهبت مناصفة إلى عالم بريطاني من أصل بولندي هو "جوزيف روتبلات Josef Roteblat وإلى ندوة "بوجواش" للعلوم والشئون الدولية، وكلاهما - الرجل والمؤسسة - من النشطين في معارضة استخدام السلاح النووي. تزامن هذا التكريم الدولي مع حدثين، الأول هو احتفال العالم، أو على وجه الدقة تذكر العالم للمرة الخمسين لإسقاط القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيميا ونجازاكي اليابانيتن، والحدث الثاني هو بدء سلسلة التجارب النووية الفرنسية تحت الأرض في جزر "موروروا" بالمحيط الهادي. والحدثان كان لهما ضجة إعلامية وسياسية واسعة. ولم تخف لجنة الجائزة سبب قرارها هذا، بل قالت في تصريح رسمي نقل عنها إنها فعلت ذلك نوعا من الاحتجاج على استمرار التجارب النووية في العالم.. والإشارة واضحة بالطبع سواء إلى التجربة النووية الصينية الأخيرة أو التجارب النووية الفرنسية التي تتابعت أخيرا.

ودعونا نتصفح تاريخ "جوزيف روتبلات" الرجل الذي كان حتى أشهر خلت غير معروف إلا لقلة محدودة من المهتمين بنشاطه في العالم، أما اسم "بوجواش" فإنه يثير الابتسام والعجب لو أوردته وكالات الأنباء في وقت سابق دون أن نعرفه، وهو اسم أطلق على تلك الندوة العلمية الدائمة منذ أربعة عقود وهو مأخوذ من القرية الإسكتلندية التي عقدت فيها الندوة لأول مرة عام 1957م. إنها مجموعة ضاغطة من العلماء عملت لكل هذه الفترة بهدوء ومن خلف الكواليس لمعرفتها اليقينية ماذا يمكن أن تفعله حرب نووية بهذا العالم القلق.

"جوزيف روتبلات" البالغ من العمر ستة وثمانين عاما، والذي يبدو أصغر من سنه، رجل نشيط، بل يصفه معارفه بأنه دائم الحركة في درجة القفز من مقعده وهو يتحدث، وليس لديه الوقت للدخول في نقاش إن لم يكن ذلك النقاش مباشرا وصريحا، وبرغم أن لـه تاريخا طويلا وناجحا كرجل أكاديمي إلا أن الرجل ظل معلقا بفكرة واحدة - كرس جل وقته لها - وهي نزع السلاح النووي، حلمه القديم الذي بدا مستحيلا في وقت من الأوقات.

يتكلم الإنجليزية بلكنة بولندية، مهندم ومبتسم، مليء بالفخر الذاتي والاعتزاز بالنفس برغم أن قليلين هم الذين كانوا يقدرون دوافعه وأهدافه الواضحة، في أن يرى عالما نظيفا من هذا السلاح المدمر. وكان البعض يصف أهدافه قبل إنهاء الحرب الباردة بأنها خيالية، ومن كل العلماء البريطانيين الذين ساروا على هذا الدرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية كان هو الوحيد الذي صمد فيه حتى يومنا هذا.

وإن عدنا في حياته السابقة واطلعنا عليها في شتاء 47 - 1948 فسوف نجده في قطاره الذري المشهور الذي طاف به معظم محطات القطارات البريطانية، مع زملائه من العلماء، يشرح للجمهور البريطاني في مدنه وأريافه محاسن ومساوئ هذا الجني الذي أطلقـه الإنسان من قمقمه. لقد عمل وزيف روتبلات أكثر من زملائه لجعل فكرة هذا القطار حقيقة برغم معارضة قاسية تبدأ من مجلس الوزراء البريطاني وحتى الصحف المحافظة، وكان هدفه إشاعة وعي بين الجمهور والعامة للعصر الجديد الذي تدخله الإنسانية، وبيدها تحويل هذه الطاقـة إلى نفع مأمول أو كارثة ماحقة.

مشاهدو القطار النووي كانوا يتعرفون ومن خلال روتبلات نفسه على إمكان الاستخـدام السلمي لهذه الطاقة الجديدة في توليد الكهرباء والمعالجة الطبية، كما كانوا ينبهون إلى أن هذه الطاقة نفسها يمكن أن تستخدم في التدمير، وكانت الأسئلة الأخيرة في كل عرض تتركز حول: أي الاتجاهات سوف يستخدم الإنسان فيها هذه الطاقة الجبارة؟.

لقد استفاد هذا العالم من هامش الديمقراطية لخلق وعي واضح ومحدد بالمخاطر التي يمكن أن يجرها الإنسان على نفسه.

جرعات من الكوكتيل الذري

وعندما ننتقل إلى الخمسينيات نجد روتبلات يحاضر في التلفـزيـون البريطاني عن جدل الإشعاع - استكمالا لفكرة القطار في خلق وعي جديد - إلى درجة أنه كان يخاطر بشرب جرعات من مياه معالجة إشعاعيا، وكـانت الصحافـة الشعبية وقتها تسميها (الكوكتيل الذري)، ليؤكد للمشاهدين أن الإشعاع الذري ليس ضارا إن أخذ بكميات معتدلة وليس مصدرا للخوف أو القلق.

وبعد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان (قضيتنا الثالثة) وعندما كانت العلاقة بين الشرق والغرب في حالة قريبة من التجمد، نظم وزيف روتبلات لقاءات بين علماء الشرق والغرب من خلال ندوة "بوجواش" للعلوم والشئون الدولية. في هذه الملتقيات تحدث علماء الطبيعة والذرة من المعسكرين الشرقي والغربي معا وحددوا بوضوح الأخطار المحتملة على البشرية إن استخدم نتاج عملهم العلمي في التدمير، في الوقت الذي رفضت فيه حكوماتهم تبادل الحديث في هذا الشأن الخطير. كان ذلك عمل حياة بالنسبة لروتبلات، هـدفه تجسير الفجوة بين التقدم العلمي والوعي الشعبي والسياسي لهذا التقدم والذي يخلق في النهـاية ضغـوطا لاتخاذ قرارات سياسية لتقنين التسابق على تخزين أو استخدام هذه المواد الفتاكة.

نقطة البداية لجوزيف روتبلات كانت في سنة 1945 عندما عمل لثمانية أشهر واحدا من الفريق البريطاني العلمي في مصنع أمريكي لإنتاج القنبلة الذرية في "لوس آلاموس" في نيو مكسيكـو، الذي كان يعرف بمشروع مانهاتن (وهناك صنعت أولى القنابل الذرية الأمريكية). ولم يكن أول عالم يعرف على وجه اليقين تأثير هذا السلاح الفتاك، ولكنه الوحيد من بين أعضاء الفريق الذي اتخذ موقفا شجاعا.

ويقول بصوت واضح عندما عرف بنيله جائزة السلام، معلقا على الفترة التي قضاها في مشروع مانهاتن:

"لقد قمت بالمشاركة في صنع القنبلة الذرية، بالتحديد حتى لا تستخدم، ولقد كنت مرعوبا من فكرة توصل العلماء الألمان - وقتها - لصناعة القنبلة. فإن هم فعلوا ذلك فلم يكن لدي أدنى شـك في أن هتلر سوف يستخدمها". تلك وجهة نظر. ولكنه يضيف: "لم أكن أتوقع أن يستخدم هذا السلاح الفتاك على كل حال دون إنذار مسبق أو يستخدم ضد الأهالي العزل لقد شعرت بالاشمئزاز والقرف عندما استخدمت في هيررشيميا ونجازاكي وشعرت بالغضب أكثر من شعوري بالذنب واستبد بي القلق والخوف على الحضارة التي نعيشها".. ويضيف: "كنت أعرف مبكرا ومنذ أغسطس 1945 أن قنبلة قدرتها أكبر آلاف المرات من تلك التي أسقطت على هيروشيما كان ممكنا صناعتها، وكنت أعرف أيضا أن الاتحاد السوفييتي يستخدم كل الوسائل لبناء قنبلة.. لقد توقعنا سباق التسلح منذ وقت بعيد".

ولد روتبلات في وارسو في الرابع من نوفمبر 1908، وكان واحدا من أبناء بولندا الأذكياء والمبرزين في العلوم الطبيعية، وانتقل إلى بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية بتهليل في مشروع دراسي وبحثي لعام واحد، وبعد أشهر من مغادرته لوطنه سقطت بولندا في قبضة الجيش النازي الألماني ولم ير بعدها زوجته مرة ثانية، فقد قتلت مع ملايين آخرين من البولنديين على يد القوات النازية.

لقد فهم القدرة الكامنة للانشطار النووي عندما كان يعمل في معمل الإشعاع النووي في وارسو، وفي بحوث لاحقة له في جامعة ليفربول البريطانية عام 1939، وكتب في وقت لاحق - 1985 - عن تلك الملاحظات: "أول ردة فعل لي لاكتشاف هذه القدرة الهائلة من الطاقة أني حاولت مسح كل هذه الأفكار من دماغي، مثلي مثل شخص يريد أن يتجاهل العوارض الأولى لمرض فتاك، ويضيف: "ولكن الخوف بدأ يزداد في داخلي، وكان كل خوفي أن شخصا ما سوف يحول هذه الأفكار العلمية إلى شيء عملي.. ولم أكن أفكر في أن أحاول أنا ذلك".

خلال الحرب التحق روتبلات بالفريق العلمي البريطاني في مشروع مانهاتن ولكنه لم يستمر طويلا كما أسلفنا، حيث إنه استمع وهو هناك إلى ملاحظة وبالمصادفة تفوه بها ضابط أمريكي كبير يعمل في المشروع، فقد سمعه يقول: "إن الاستخدام الحقيقي للقنبلـة المزمع إنتاجها هو لتخـويف الاتحاد السوفييتي والتخفيف من خطره أكثر من تخويف ألمانيا الهتلرية"، عندها قرر أن يترك المشروع فقـد كانت طائفة من النشطين في الغرب تعتقد أن الخطر الحقيقي هو من ألمانيا النازية. مديره في مشروع مانهاتن في لوس آلاموس اتهمه بالخيانة وبأنـه جاسوس إلا أن روتبلات أقنع رؤساءه آنذاك بأن هـذه التهمة ليست حقيقية، وأنه يترك المشروع لسبب مبدئي، ووافقت الإدارة على أن يترك المشروع بشرط واحد ألا يتحدث مطلقا عن أسباب تركه له، وكان السبب الرسمي الذي فسر به تركه العمل أنه يريد أن يعود في أوربا للبحث عن زوجته! ومنع من الاتصال بزملائه السابقين ووضع على لائحـة المنع من دخول الولايات المتحدة حتى سنة 1964.

شقاء ضمير العلماء

بعد أشهر من ترك "روتبلات" مشروع مانهاتن أسقطت القنبلتان الذريتان على اليابان، وكان من بين الأشياء العديدة التي لم تعد كسابقاتها بعد إسقاط القنبلتين: العلاقة بين الدولة والعلماء. فهذا سلاح فكر فيه وطوره علماء، وفى وقت قصير غير التوازن السياسي للعالم، وبالتالي كان من بين الأسئلة التي حيرت ضمير العديد من علماء الطبيعة: هل كان من الضروري أن يخترع هذا السلاح؟ وهل كان من الضروري أن يلقى على العزل؟ ثم ماذا سوف يحدث للعالم بعد ذلك؟

تلك أسئلة أشقت ضمير نخبة من العلماء على رأسهم صاحبنا جوزيف روتبلات. ويبدو أن العلماء فقط - وليس العسكريين أو السياسيين - هم الذين يعرفون على وجه الدقة إجابات مثل تلك الأسئلة، لكن للسياسيين وجهة نظر أخرى.

في هذه الأجواء أسس روتبلات مع علماء آخرين رابطة العلماء النوويين وهدفها تنوير الجمهور البريطاني بكنه الاستخدامات السلمية لهذه الطاقة النووية والتحذير من مخاطرها العسكـريـة، وعلى أمل وضع حد لسباق التسلح فقد أيدت هذه الرابطـة وضع الصناعة النووية تحت مـراقبـة الأمم المتحدة.

هيروشيميا أيضا غيرت حياته العملية، ترك العلوم النووية إلى الفيزياء الطبيـة، واستقر في بريطـانيا وأصبح مواطنا بريطانيـا سنة 1946 وهو الآن أستاذ العلوم الطبيعية في أحد أكبر مستشفيات لندن (براثيوم). لقد اختار هذا الطريق الطبي كما يقول: "لأنني أردت أن أقرر بنفسي كيف تستخدم نتائج أبحاثي ".

روتبلات هو أحد العلماء البارزين من أمثال ألبرت أينشتاين ولينوس بولنج Linus Paulingلذين وقعوا إعلان برتراند راسل واينشتاين للسلام عام 1955 الذي قالوا فيه: "علينا أن نتعلم كيف نفكر بطريقة جديدة.. وهنا المشكلة التي نقدمها لكم عارية صارخة مفزعة وبغيضة ولا يستطيع أحد الهروب منها، هل نضع نهاية للبشرية عن طريق الحرب النووية أو نقوم كبشر بإدانة الحروب؟".

لقد كانت هذه صرخة في واد عميق، فالحرب الباردة تتصاعد وكذلك خوف أهل الضمائر من محو العالم كله يزداد قربا من الحقيقة. بولنج حصل على جائزة السلام في وقت لاحق لحملته الدولية لوقف التجارب النووية فوق الأرض، ولكن مع تصاعد الحرب الباردة فشلت حملة راسل / أينشتاين. وقرر روتبلات أن يتوجه توجها جديدا وكان ذلك في بوجواش بدءا من عام 1957.

كانت فكرة بوجواش بسيطة وواضحة، اجتماع دوري لعلماء في الحقل المعني (الذرة) بعيـدا عن المدن الكبرى وبعيدا عن الصحافة والإثارة ثم ينشر ملخص لما دار في اجتماع العلماء. ولكن التقرير الأساسي السري يوزع على رؤساء الدول ورؤساء الحكومات وهو يحمل تحذيرات علمية خالية من الغرض الأيديولوجي والسياسي للمخاطر المحتملة من استخدام هذا السلاح. ولم يكن لـلاجتماعات أن تستمر خلال سنوات فترة الحرب الباردة لو لم تكن هادفـة وبعيدة عن الإثارة.

وكانت هذه الاجتماعات تنتقد من الغرب والشرق على السواء، ولكنها تركت الأبواب مفتوحة للحوار وتبادل المعلومات، في الوقت الذي لم يكن هناك مكان آخر لتبادل هذا الحوار. وكانت هذه الاجتماعات هي التي وضعت أسس مجموعة من اتفاقيات نزع السلاح النووي، واتفاقيات الحد من الصواريخ العابرة للقارات.

وبتواضع شديد عندما عرف جوزيف روتبلات بخبر حصوله على جائزة السلام قال: "إنها ليست لي بل لمجموعة صغيرة من العلماء ظلوا يعملون لمدة أربعين عاما لتجنب كارثة عظمى يمكن أن تقع على رءوسنا جميعا، فلأول مرة في التاريخ أصبح بالإمكان أن يمحو الإنسان نفسه من على الأرض".

قصة الجائزة إذن هي قصة رجل، وقصة فكرة، وقصة تصميـم على ما اعتقد أنه الحق، ونيله وندوته الجائزة ليس نهاية الطريق، فالعالم لا يزال مهددا بهذا السلاح الذي ازدادت خطورته بوقوعه تحت أيد لا تقدر المسئولية، فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي والمعضلات السياسية التي واجهت ما بقي منه أصبح احتمال وقوع هذا السلاح الخطير في أيد غير مسئولة احتمالا قائما. كما أن هناك محاولات عديـدة من دول عالم ثالثيه، بعضها يفتقد الحد الأدنى من المسئولية السياسية، لشراء أو تصنيع هذا السلاح. وأصبح العالم على أبواب تهديد أكثر خطورة مما كان في السابق.

حرارة العالم

تبدو هذه القضية - أي ارتفاع درجة حرارة مناخ الأرض- بكل ما تعنيه من تدمير لبعض ما نعرفه من حياة، لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بالقضية الأولى، فقد بدأ الاهتمام بالبيئة منذ زمن طويل. وهي - أي البيئـة - مثلها مثل السلاح النووي، ليست وطنية ولا قومية ولا حتى إقليمية، بل دولية، وإنسانية عامة، تهم البشر بأي لون كانت جلودهم وبأية لغة نطقت بها ألسنتهم.

في الدول الكبرى أصبح للبيئة هيئاتها، وقلدتها الدول الأخرى، وعقدت لها مؤتمرات دولية كمؤتمر "ستوكهولم" عام 1972 ومؤتمر قمة الأرض في البرازيل عام 1992، كما وضعت المنـاهج في المدارس والجامعات تشرح أهميـة البيئة. إلا أن العالم اليوم أمام مشكلة هي ارتفاع درجة حرارة جو الأرض. هذا الصيف عانت عواصـم عديدة حتى في الشمال من صيف حار، سكـان لندن وباريس ونيويورك عانوا من ظاهرة ارتفاع الحرارة، لقد حدث أخيرا ما توقعه العلماء منذ فترة وهو أن الطقس العالمي يتغـير ويتغير إلى الأسوأ. العالم كله يسخن - العلماء يؤكدون ذلك - وهي رسالة أخرى مخيفة للبشرية ومعظم اللوم يقع على التلوث الذي يسببه الإنسان!.

العلماء أيضا يجمعـون على أن تسخـين الأرض سوف تكـون له نتائـج كارثية، ويمكن أن يتعاظم هذا التسخين ليخرج عن حدود قدرة الإنسان على التحكـم به أو ضبطه.

حتى لو قامت الحكومات - وهو افتراض غير واقعي - بمحاولة ضبط التلوث وكبح تصاعد الغازات المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض، فإن الطقس سوف يستمر في ارتفاع درجة الحرارة، والبحار سوف تستمر في ارتفاع مستوى مياهها لعدة قرون قادمة. هذه هي الرسالة العلمية الموجعة التي لا فكاك منها لأن الإنسان لم يستبصر بوقوعها كما ينبغي.

في وقت سابق كـان البعض من علماء الطقس حذرين ومترددين في تأكيد تـوجـه درجـة الحرارة نحو هذا الارتفاع، وكـان بعضهم يعزو الأخيرة- خاصة الصادرة عن المؤسسـات الحكـومية الغربيـة المعنية بالأمر - المهتمة بالسخونة العـالمية فقد وضعت حدا للنقـاش المتشكك في الأمر.. العالم يسخن يسخن.

لقد التقت وجهة نظر ألفين من العاملين والدارسين للأرصاد الجوية الذين ساهموا في دراسة أخيرة على أن الأمراض الاستوائية سوف تنتشر خارج حلقـة ما عرف عنهـا تقليديا، وأن الجفاف والتصحر والفيضانات سوف تزداد وتيرتها في العالم، وأن الغـابات سـوف تموت أشجارهـا وأن المحاصيل الزراعية في الدول الفقيرة سوف تنخفض إنتاجيتها، كـما يحذر العلماء من أن بلاد الشمال لن تنجـو من ذلك. فـبرغم فترات الحرارة وجفـاف الصيف واعتدال الشتـاء في السنـوات الأخـيرة، فقد اشتكى البريطانيون هذا العـام - على سبيل المثال - من أطول فترة جفاف تصيبهم بسبب انحباس الأمطار.

وتقول التقارير الموثقة إن العـالم تحول إلى السخونة أكثر من القرن الماضي وذلك بسبب النشـاط البشري الصنـاعي المفرط وإحـراق المزيد من مصـادر الطاقة، الأحفورية خاصة، كالنفط والفحم والأخشاب.

آلاف من العلماء وصلوا إلى اتفاق- قليلا ما يصـل العلماء إليه - حول هذه النتيجـة المخيفة، كان بعضهم إلى وقت قصير يقول: "يجب أن ننتظر إلى نهاية القرن حتى نتأكـد أن التلوث هو السبـب الحقيقي لسخونة الجو ولكن بمساعدة تقنيات جـديدة وجدوا أن هناك شواهد كافيـة حتى الآن لإثبات: ذلك".

فوضى مناخية بسبب التسخين

خلال العام الماضي أكدت الدراسات العلميـة أن الزهور والحشائش أخذت تنمو وتنتشر بسرعة في شمال القارة القطبيـة الجنوبية، وأن العـديد من الدروع المتجمدة للقارة بدأت تذوب وأن البحار بدأ منسوبها يرتفع بسرعة أكثر مما كـان متوقعا، كـما أن هـنـاك شواهد واضحـة على التغيرات الطقسية في شمال الأطلسي تؤثر في التيارات الهوائية الشمالية. إن هـذا القرن - الذي يكاد ينصرم - هو أسخن قرن منـذ بدأ نظام تسجيل درجات الحرارة. لقـد زادت درجة حرارة الأرض بين ثلاثة وستة أعشار الـدرجة منذ تسعينيات القرن الماضي، ومعظم هذه الزيادة ظهر في العقود الأربعة الأخـيرة من القرن الحالي.

أمطار الشتـاء زادت في كميـاتها التي تسقط على روسيا وأوربـا وشمال القـارة الأمريكيـة، فيما الثلوج التي عادة ما تغطي شمال الكرة الأرضيـة قلت عشرة في المائة خلال العقدين الماضين وحـدهما، كل هذه شواهـد - وإن اختلف مظهرها - تـؤكد ارتفاع درجـة حرارة العالم. ولقـد تزود العلماء بـواقعة عملية، فقد لاحظوا انقطاعا قصيرا في ارتفاع درجة الحرارة بعد انفجـار بركان بناتـوبـو Pinatubo في الفلبين سنة 1991. لقد شاهد العالم على شـاشات التلفزيون هذا الانفجار الذي قذف عشرين مليون طن من الغبار الكبريتي في الفضاء الأعلى، وقد حجب شيئـا من أشعة الشمس، وجعل درجـة الحرارة الكونيـة تنخفض قليلا حتى سنة 1993، ولكـن ما إن ترسب هذا الغبار على الأرض حتى ارتفعت درجة الحرارة من جديد. هـذه الظاهرة عززت من يقين العلماء بوجـود ظاهـره التسخين الكروي أو العالمي (إشارة إلى ارتفاع درجـة حرارة جـو الكرة الأرضيـة)، فهـي - أي ظاهرة التسخين - تظهر أن الطقس يستجيب جزئيا للتغيرات في طبقات الجو العليا. الأمراض الاستوائية، مثل الملاريا والحمى الصفراء، بدأت بالفعل تخرج من نطاقهـا الجغرافي التقليدي لتصل إلى مناطق مجاورة، وكلما ارتفعت درجـة الحرارة زادت التـوقعات بأن تشيع الإصـابـة بمثل هـذه الأمراض.

في اجتماع قمـة لأرض في البرازيل عام 1992. وافقـت الدول الغنيـة على تقنين وتخفيض إطلاق ثـاني أكسيد الكـربـون في الفضـاء بنهايـة القرن الحالي. ولكن الدراسات تشير إلى أن ذلك لن يكون كـافيا- حتى لو تم- لأن الكثير من غازات الصوبة أو الدفيئة - كـما تسمى - موجودة في الجو أكثر من مائة عام. لقد أصبح هناك قصور ذاتي في العملية الطبيعية للنظام الكوني تقود في أن الطقس سوف يسير باتجاه السخونة.

وليس الأمر هنا أمر وعي فقط، وإنما اتخاذ خطوات حـاسمة يبـدو - حتى الآن - أن العالم ليس مقبلا عليها.

أفغانستان.. تدمير الذات.

قد يقـول قائل: وما علاقة السلاح النووي- كمدمر للأرض- وبين السخونة الكونية - كمدمر للحياة - بموضوع أفغانستان؟ وللإجابة عن ذلك فإن أفغانستان، مجرد مثال واحد. في السياق للتدليل على ان الإنسان يـدمر عالمه ويـدمر بيئته، وكـذلك يدمـر بلده ومدنه. وهنا الربط بين القضـايا الثلاث. في أفغـانستان تدور منذ خمسة عشر عاما رحى حـرب مدمرة، وصراع دام، خارجي أولا ثم داخلي دائما، وخـروج القـوات السوفييتية السـابقة من هناك لم يقلل المعاناة التي يتحملهـا هذا الشعب وهذه الأرض، فقد دخل المتصارعون المحليـون في اقتتال دائم بين أنفسهم للحصول على مساحة أكبر من الأرض ومن النفوذ، ولكنها أرض محروقـة ونفوذ محدود. أفغانستان في مكان متوسط من القارة الآسيوية ومدخل أساسي لدول وسط آسيا، بلد غني بالتاريخ والثقافة، ومن أهم البلـدان المنتجة للخشخاش في العالم! شعبـه بسيط، صلب، وعنيف أيضا، وعنـدما يكون هناك تهديد من الخارج فالأفغان يحاربون متحدين، أما غير ذلك فإن الحروب التقليدية القبلية هي الطـريقـة التي تجعل المحاربين مشغـولين ببعضهم بعضا. لم تستعمر أفغانستان في العصر الحديث، برغم محاولات قوتين عظميين هما بريطانيا ثم لاتحاد السـوفييتي لاحتلال هذا البلد، والهزيمة المنكرة للبريطانيين على يد الأفغان التي جعلتهم لا يكررون محاولاتهم لاختراقها من جديد يبدو أنها فشلت في ردع السوفييت الذين أدخلوا قواتهم في أفغانستان سنـة 1979 تحت ذريعة مناصرة طرف أفغاني طلب العون، ويـدين بالـولاء لموسكو، إلا أن حـرب العصابات التي تلت وبتأييـد من قوى إقليمه ودولية أجبـرت السـوفييت في النهايـة علي الانسحـاب وربما عجلت، كـما يعتقـد البعض، بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه.

نجـاح أفغانستـان في رد السـوفييت كان محل فخـار لكل من سـاهم في تحقيق تلك النتيجة: المحاربون الأفغان، والمخططون الباكستانيـون، ودعم الدول الإسلامية والعربية، وحتى الولايات المتحدة التي زودت الأطراف الأفغانية بالسلاح. إلا أن النجاح كان قصيرا، وبدأت سريعا حرب أهلية دمرت البقية الباقية من مدن أفغانستان التاريخية، هناك أكثر من اثنتي عشرة منظمة سياسية عسكرية كل منها تدعي أحقيتها في حكم البلاد، فأثناء الصراع مع السوفييت تكونت هذه المجموعات على أسس عرقية، أو مذهبية، أو محلية، وأُيّدت وسلحت هذه المجموعات من قوى خارجية مؤيدة لأفكارها، ثم تشابكت بعد ذلك تحالفات وتحالفات مضادة، تتفكك هـنا لتلتحم هناك، في سلسلة صراعات استمرت حتى يومنا هذا. خلال عام 1994 دخل فريق جديد هو "حركة طالبان" "لإحلال تطبيق الشريعة في البلاد"، وهذا نفس ما تكرره جميع الفرق المتحاربة في أفغانستان، وزادت الأمور تعقيدا في هذا البلد الذي لا تبدو لصراعاته الأهلية نهاية.

أفغانستان حالة واحدة من حالات عديدة في العالم- كالصومال وبوروندي وغيرها - اختار أهلهـا الصراع والحرب بينهم، بينمـا العالم يقف متفرجا أو شبه متفرج، سواء محتارا أو مرغما على ذلك، والنزيف الإنساني مستمر لأن أسبابه محلية والقائمين عليه لم يتوافر لهم بعد النظر بعد للوقوف على بشاعة ما يفعلونه بوطنهم ويمكن أن يستمر نهر الدم وعبثية هدم المدن والمنازل دون هوادة حتى تخور قوى الجميع أو يهلكوا، وتهلك الأرض.

وهلاك الأرض هنا ليس تعبيرا مجازيا، بل تعبير واقعي تماما تفضحه الحرائق وسحب الدمار والغبار التي يسببها قصف مدافع وصواريخ الإخوة الأعداء المقتتلين على الخرائب في أفغانستان. كما أدى خبراء البيئة يشيرون إلى تضرر التربة التي تدور عليها المعارك من جراء هرس المجنزرات لمحتوياتها العفوية الداخلية ولالتهابها بنيران القذائف، فهي أرض تحترق فعليا، إنسانيا وبيئيا، وهي بالتالي مثال وثيق بأمثلة تدمير الإنسان لنفسه عبر تدمير الحياة والبيئة والمجتمعات، سواء بالتهديد النووي، أو بالجشع الصناعي الذي يلوث البيئة ويرفع حرارة مناخ الأرض، أو باقتتال الفرقاء شبه الحفاة على فتات متاع الدنيا الأدنى: النفوذ والتسلط!

إنها ثلاثة أمثلة من ظلم الإنسان لنفسه، يقترفها بينما هذا القرن يوشك على التسرب، مخلفا أحلاما كبيرة، وآلاما تكبر. فهل يدرك الإنسان مدى بشاعة وفداحة ظلمه لنفسه. لعله يدخل إلى عام جديد، وقرن جديد، بأفق جديد؟ وهل نملك إلا التمني؟!

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جوزيف روتبلات