إعادة صياغة مفهوم التقدم طه عبدالعليم

إعادة صياغة مفهوم التقدم

إن مفهوم التقدم الشامل بصياغته الجديدة يرتكز على الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتطور الديمقراطي والأمن القومي والهوية الثقافية وهي ركائز أبعد من أن تكون موجودة بصورتها الصحيحة في الوطن العربي، وبالتالي فإن هناك فجوة هائلة تفصلنا عن التقدم بصورته الشاملة.

إن التقدم في تقديرنا هو ركيـزة مجابهة أهم التحديات التي تواجه الوطن العربي. وبعبارة أخرى، نرى أن التأخر هو المصدر الرئيسي لأخطر التهديدات التي تجابه هذا الوطن.

وبرغم أن التقدم مفهوم تاريخي، يتطور للمجتمع المعادن مع تغير الزمن، ويختلف بين مجتمع وآخر في زمن معطى، فقد تعددت التصورات بأن ثمة نهاية له، تقاس بما بلغه مجتمع محدد، أو ما تتصوره رؤية معينة. وهكذا، على سبيل المثال، فإن نهاية التطور التاريخي في تصور الليبراليين هي النموذج النظري للمجتمع الرأسمالي، أو المجتمع كما يتجلى على الصورة الليبراليـة الغربية، أو الأمريكية بوجه خاص. وأما نهاية الارتقاء الاجتماعي في تصـور الماركسيين فهي النموذج النظـري للمجتمع الشيوعي أو المجتمع كما تجسد في بناء النمط الاشتراكي، أو السوفييتي بوجه خاص. ويرى القوميون المتعصبون أو الشوفينيون التقدم من منظور أوهام التفوق القومي ودعاوى السيادة العرقية، التي جسدت مجتمعات النازية والفاشية أفظع تجلياتها المتطرفة. ويتخندق الأصوليون الدينيون أو السلفيون عند تصور للتقدم لا يتخطى فهمهم الذاتي الجامد للنص الديني ونموذج المجتمع كما يزعمون تحققه لدى السلف الصالح.

وفي إعادة صياغة منظومة قيم التقدم لمجتمع معـين أو مجتمعات معينـة، تـبرز معضلة الوحـدة والتنوع، أو العـالمية والخصوصية، في مضمون القيم، وتبقى إشكالية الثابت والمتغـير، أو العـامل المحدد والعـوامل التـابعة، في تـرتيب القيم، كـما تتفاقم صعـوبة خيـار آليات التقدم بسبب حالة "اللا أدرية" أو عدم التأكـد في فترة الانتقـال التـاريخي الجذري الراهنـة. إذ تتـداعى التصـورات الجامـدة مثل فكرة الاشتراكيـة الماركسية، لكن قيمـة العـدل الاجتماعي تظـل ثـابتة. وتتهافت الوصفـات الجاهزة مثل دعـوة الليبرالية الغـربية، لكن أفضلية اقتصاد السوق تتأكد حقيقتهـا وتثمر الأصولية الـدينيـة نظم طغيـان وحركـات إرهاب لكن سماحـة المبادئ الدينية تبقى خالدة. وتبرز وحشية الصراعات الاثنية كـما في البوسنة الأوربية وافريقيـا السوداء، لكن الهوية الثقـافية والانتماء القومي والأصل العرقي وغيرها من مظـاهـر الاثنيـة لا تنفي حقيقـة المصير المشترك للإنسانية.. إلخ.

وفي تقـديرنـا، أن منظمة قيم التقدم، في شمولها وتطورها، لا بد أن تتجـاوز قصور جميع التصـورات السابقة، وهو القصور الناجم أساسا عن نظرة أحادية جامدة لمنظـومة القيم الإنسانية. والأمـر أن هذه النظرة تجعل أصحابها يعلون إحـدى تلك القيم مثل الحرية أو العدل أو الهويـة.. إلخ. وينكرون أو يتجـاهلـون أو يهونون مـن شأن ما عداهـا من قيم التقـدم. وإذا كان يمكن تفهم المبررات التـاريخية، الموضوعية والـذاتية، لمثل تلك النظرة الواحدية للتقدم، فإنه لا ينبغي في رأينا تجاهل ضرورة إعادة صياغة مفهوم التقدم في ظل المعطيات القائمة والمتغيرات الجديدة.

منطق التقدم الشامل

إن مفهوم التقدم بعد إعادة صياغته هو منظومة قيم التقدم الشامل، وقد ارتقى مضمونها، بحيث تجسد ما هو عام من الخبرة الإنسانية، وما هو خاص من الخصوصية المجتمعية. وتستبعد هذه الصيغة للمفهوم مثالب أحادية النظرة للتقدم باعتباره ارتقاء لأي من هذه الأبعاد المترابطة للتقدم، كما تنطلق إعادة صياغة المفهوم من التسليم بقصور نظرية العوامل التي تتصور التقدم نتاج الارتقاء بأحد عوامله. بيد أن منطق التقدم يكشف تاريخيا ويؤكد نظريا أمرين أساسيين، أولهما: أن ثمة علاقة سببية متبادلة بين مختلف أبعاد التقدم بمعنى أن كلا منها سبب ونتيجة لغيره في آن واحد، وثانيهما: أن ثمة ضرورة موضوعية لتحديد العامل المحدد أو الرافعة الرئيسية في عملية التقدم.

ولا شك في تبدل أولويات وآليات التقدم عبر الزمان والمكان. ويعني هذا بالضرورة قبول التكلفة أو التضحية المترتبة على خيارات المجتمع المعني أو المجتمعات المعنية. وفي ظل رؤية نظرية شاملة، فإن الانطلاق من المعطيات الواقعية والمقتضيات العملية ومبادئ الرشادة يمثل شرط تنفيذ سياسات وبرامج التقدم بأقل تكلفة وأعلى عائد وأسرع وقت. وعلى الرغم من سقوط أوهام الوصفات الجاهزة التي توهم أصحابها صلاحيتها لجميع المجتمعات، وعلى الرغم من حقيقة تمايز البلدان العربية مجموعات وفرادى، فإننا نفترض تحقيق التقدم العربي الشامل وفق منطق عام.

ويتلخص هذا المنطق - كما سنفصل - في ترتيب للأولويات ينطلق من: أن التقدم الاقتصادي وارتقاء الإنتاجية والقدرة التنافسية، مقدمات للتقدم الاجتماعي إذا أريد تخطي ما سمي بحق "اشتراكية توزيع الفقر". وفي تقديرنا أن التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية ركيزتا ارتقاء الديمقراطية والتقدم السياسي وضمانتان لجوهر التطور الديمقراطي، أي سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة. وبغير ما سبق يستحيل تعظيم القدرة الشاملة اللازمة لحماية الأمن القومي على مستوياته المحلية والإقليمية والعالمية، كما يصعب ازدهار الهوية الثقافية للامه المعنية بوجهها الإنساني الحضاري. وفي البلدان العربية وغيرها من "البلدان النامية" فإن العامل المحدد القائد والحاكم لصيرورة التقدم هو- في رأينا - التقدم الاقتصادي، وذلك انطلاقا من افتراضنا السابق بأن التأخر الاقتصادي، بمعناه الواسع، هو سبب الأسباب وراء التهديدات الاجتماعية والسياسية والأمنية والحضارية وغيرها مما يجابه تلك البلدان.

مقياس التقدم الاقتصادي

يكشف تحليل مستويات التقدم الاقتصادي وعلاقات القوة الاقتصادية على الخريطة العالمية عن حقيقة أن القدرة الاقتصادية لم تعد رهنا بمجرد كمية ونوعية الموارد الاقتصادية التي في حوزة أو تحت سيطرة الدولة أو الأمة. والأمر أن التنمية الاقتصادية والقدوة الاقتصادية متغيرات لم تعد مقيدة بضخ المزيد من المدخلات التي تتسم بالندرة النسبية من التكنولوجيا والعمالة والمواد الأولية اللازمة لإنتاج السلع والخدمات. إذ يتراجع، وإن نسبيا، أثر تعظيم الاستثمار، أو التنمية الأفقية، ويتزايد دور الارتقاء بالكفاءة الاقتصادية ورفع إنتاجية العمل والإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج في بلوغ التقدم الاقتصادي. ويتوقف على ما سبق تحقيق طموح الأمة للمنافسة الظافرة في السوق العالمي وتجاوز قيود السوق المحلي الضيق وان نسبيا، وبناء أسس التكافؤ في علاقات الاعتماد الدولي المتبادل، وإقامة ركائز النمو المتواصل والرفاهية المتعاظمة، وتجاوز مأزق نضوب الموارد وما قد توفره من رفاهية ربعيه، متناقصة ومتآكلة.

وكما تؤكـد خبرة السقـوط المدوي للقـوة العظمى السـوفييتيـة وواقـع التـدهـور النسبي للقـوة العظمى الأمريكية وقصة النجاح الاقتصادي في شرق "آسيا، فإن الارتقاء المتواصل بإنتاجية العمل لبلوغ أعلى مستوياتها العـالميـة، يمثل الحلقـة المركـزيـة لتسريع التنميـة الاقتصادية وتعظيم القدرة الاقتصادية بمضاعفة معدل النمـو الاقتصادي والفـائض المتاح للاستثمار. ويمثل ارتفاع الإنتاجية سببا ونتيجة لعدم التأخر عن الموجات الأحدث للثورة الصنـاعية التكنولوجيـة والثورة العلمية التكنولوجية، بل والمشاركة في قيادتها والارتقاء بها. وقد يتوجب أن نشير هنا إلى أن تحقيق هذه الأهداف يقتضي وضع وتنفيذ سيـاسات وبرامج وطنيـة، وربما خطوات على طريق التكامل الإقليمي، فضلا عن الانفتاح على العالم الصنـاعي المتقـدم وتطوير آليات التعـاون معه، وذلك لتطوير محددات ورفع مستويات الإنتاجية.

وبين محددات الارتقـاء بإنتاجية العمل وغيره من عوامل الإنتاج تبرز ضرورات مضاعفة الاستثمار لا استيعاب وتطـوير المنجزات الأحدث للثـورة العلمية- التكنولوجية والثورة التكنولوجية - الصناعيـة، وتطوير برامج قـومية للنهـوض بـالتعليم والتـدريب والبحث العلمي - التكنولوجي، وتغيير آليات تسيير الاقتصاد بما يقلص التكلفـة ويعظم العـائد على أسـاس التخصيص الأمثل للمـوارد، وتحديث أسـاليب إدارة المشروع وتنظيم العمل، وتـوسيع السوق المتاح لتمويل التـوسع في الإنتاج إلى جانب تـوسيع أسواق تصريف السلع والخدمـات، وتنـويع الموارد عبر التكـامل الإقليمي على أسس التـدرج وتبادل المنـافع، وتطوير هيكل الإنتاج للارتقاء بالتخصص الإنتاجي الدولي، وإعلاء قيمة العمل المنتج بـاعتبارها أساسـا للانضباط والكفاءة.. إلخ. وفي رأينـا أنـه في ضوء تنفيـذ هـذه السياسات والبرامج ومؤشرات الأداء الاقتصادي ينبغي تقييم وتعديل مـا تشهده الاقتصاديات العربية وغيرها من تحول في اقتصاد السوق وبرامج للخصخصة وتحرير للتجـارة وغيرها من مكـونات الإصلاح الاقتصـادي الليبرالي وتغيير الـدور الاقتصـادي للـدولـة والتـوجـه الخارجي للتنمية.

التنمية البشرية

جوهر العدالة لقد انقسم العـالم حتى إعلان الهزيمة السـوفييتية في الحرب الباردة في معسكـرين ونظـامين متنـاقضين ومتصارعين. ومع أو ضد فكـرة الاشتراكية خـاصة في طبعتها الماركسية انقسم العالم، بدءا من تولي البلاشفة للسلطة في روسيا وأطرافها الإمبراطورية في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية. أزاد الانقسام حدة والصراع ضراوة مع تـوسع الامبرطوريـة الاشتراكية السـوفييتية في شرق أوربا، في أعقـاب الحرب العالمية الثـانية والانتصـار التاريخي السوفييتي على ألمانيا النازية فضلا عن انتصار الثورات الشيوعية، أو التي تحولت إلى ثورات شيوعية، في الصـين وفيتنام وكوبا وغيرها. وأضاف وقودا إلى أتون الصراع الأيديولوجي بين فكـرة الاشتراكيـة وفكـرة الرأسماليـة ما شهـده العالم من "تـوجه اشتراكـي" لعدد متزايد من حركات التحرر الوطني وبلدان العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي الذي انتزعته أو نالته.

بيد أن سقوط النظم الاشتراكية الشيـوعية، وخاصة في الاتحاد السوفييتي دولـة الاشتراكية الأولى والعظمى، لم يكن في رأينا مجرد نتيجـة للهزيمـة في الحرب الباردة، بل إن هـذا نفسه كـان محصلـة للهزيمة الاستراتيجية الأشمل في معركـة التقدم الشـامل، وهي الهزيمة التي طـالت نظم ما سمي بـالتـوجـه الاشتراكي بما في ذلك الطبعات العربية لـلاشتراكية النـاصرية وغـيرهـا. وقد نسلم بأن الضرورات التـاريخية، الموضـوعية والـذاتية، تبرر قيـام هذه النظم في الأطراف التي ذاقت ويـلات التخلف والتبعيـة والفقـر والنهب في زمـن صعـود الرأسمالية وتوسع الاستعمار، تماما كـما ندرك أن إنجازات هـذه النظم تفسر بقـاءها الـذي امتـد عقـودا. لكن مـواصلـة تلك الإنجازات صـارت مستحيلـة بسبب استحالة استمرار تحمل تكلفتهـا الإنسانية والاقتصادية الباهظة. ونتيجـة تصلب الشرايين الذي أصابها وخنق إمكانات تدفق دمـاء التقدم وانتشـار ثمار التحديث. والاهم أنه إذا كـانت الرأسماليـة في مراكـزها الصنـاعية المتقدمـة والجديدة قد استطاعت تجديـد نفسها بفضل تحررها من الجمود النظري وتحليها بالروح العملية، فإن الاشتراكية خاصة في طبعتهـا الماركسية قد أفلست نظريا وتقوضت مبرراتها حـين سقطت في معركـة التقدم نظريا وتاريخيا.

ومـا يهمنا هنـا هو تأكيـد أن دعوة وضرورة العـدل الاجتماعي لم تقض نحبهـا بسقـوط الماركسيـة. لكن تحقيق هـذا العدل الاجتماعي، أو التقـدم الاجتماعي، صار يعني في جوهره بناء وارتقاء الاقتصـاد والمجتمع والنظام بما يؤمن الإشباع المتزايد للحاجـات الأساسية والاجتماعية المتنامية. وهنا يتسم بالأولوية إعلاء مفهوم التنمية البشرية، أي "عملية توسيع اختيارات الناس" بإشباع الحاجات في الطعام والشراب والسكن والتعليم والصحـة والبيئة النظيفة والمشـاركة في اتخاذ القرار.. إلخ. وفي هذا السياق فان معيار تقييم برامج الاستقرار الاقتصادي والتكيف الهيكلي أو الإصلاح الاقتصادي والتحـول الليبرالي، ليس مجرد تعظيـم الكفـاءة الاقتصـادية، وإنما أيضا تحقيـق العدالـة الاجتماعيـة، بمراعاة التـوجه الاجتماعـي والوجـه الإنساني للتنمية الاقتصادية، مادام الإنسان ليس فقط وسيلـة للتنمية وإنما غايتهـا الأساسية.

سيادة القانون أساس الديمقراطية

يـؤكـد التحليل التاريخي أن بنـاء نظـام سياسي ديمقراطي لم يتحقـق يوما بمجـرد فعل إرادي مهما يكن للـدفاع عن الحريـات والحقوق الديمقراطيـة من تأثير حـاسم في التقدم صـوب إقرار النظـام السيـاسي الاجتماعي لهذه الحريات والحقوق. وقد يكفـي للبرهـنة على هذا التأكيـد أن نشير في تاريخ حرمان الطبقـة العاملة من حرياتها وحقوقهـا الديمقراطية والنقابية طوال عقود وقرون من تطـور النظام السياسي للرأسمالية الأوربية، التي انتصرت في معـركتهـا ضـد النظـام الإقطاعي على أسـاس شعـارات الحريـة والإخاء والمساواة. وقد نشير - إلى النظم السيـاسيـة للإدارة الاستعماريـة للـرأسمالية الأوروبية، التي قـامت على أساس القهر السـافر لشعـوب المستعمـرات وأشباه المستعمـرات، ناهيك عن الاستعباد والاسترقاق والطرد الجماعي في ظل نظم الاستعمار الاستيطاني.

كـما قـد نشير في انتكـاسات الـديمقراطية في ظل الفاشيـة والنازية التي قضت نحبها بثمن باهظ دفعته الإنسانية قبل خمسـة عقـود فقط، وعودة التهديد للديمقراطية ليطل من جـديد في القارة الأوربية آخذا الصورة الوحشيـة للإبادة الجـماعية في البـوسنة والهرسك أو شكل التهديد بـالفاشية الشوفينيـة في روسيا، فضلا عن تيارات العنصرية القومية والنازية الجديدة في غرب أوربا. ونرصـد أيضا تأخـر التقـدم على طريق تأكيـد الحقـوق الديمقـراطيـة، الاقتصادية والاجتماعية، في غالبيـة البلدان الصنـاعية المتقـدمة، إلى جـانب النظم السياسية العسكرية اللا ديمقراطية التي حكمت العديد من البلدان الصناعية الجديدة. أضف في هذا، حرمان الزنـوج الأمريكيين من ممـارسـة الحقـوق والحريـات السيـاسية حتى حركة الحقوق المدنية في الستينيـات، وذلك في ظل أكمل الـدسـاتير ديمقراطية، كـما يسلم فقهـاء القانون الدستوري.

وفي رأينـا أن الديمقراطية السيـاسية التامة، التي تؤمن التطـور الديمقـراطي للمجتمع وتحمي الحقوق السياسية للإنسان، تنهض على ركيزتـين أساسيتين، هما: توفير ضمانات سيادة القـانون وخـاصة الدستور باعتباره قـانون القوانين، من جانب، وضمانات تداول السلطة باعتبارها تأكيدا لحق الشعب في اختيار وإعادة اختيار الحكـومة، من جانب آخر. وإذا كانت شروط هـذه الديمقراطيـة الكاملـة تتكـون بالتناسب مع التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فإن هذا لا ينتقص التقـدم الذي تشهده بعض البلـدان العربية على طريق توفير ضمانات حرية التعبير والتعـدديـة السيـاسيـة، وارتقاء منظمات المجتمع المدني والمشـاركة في اتخاذ القـرار، ومنع انتهاك الحريات وتجريم التعذيب، وغير ذلك من الخطـوات نحـو الديمقراطية الكاملة.

والأهم، في سيـاق مـا نكتب عنه، هو أن ارتقاء تأمـين التطور الديموقراطي للمجتمع وحماية الحقوق السياسية للإنسان يمثل شرطا جوهريا لتأمين الكفـاءة الاقتصـاديـة ومراعاة العـدالة الاجتماعية وغير ذلـك من مكونات منظـومة قيـم التقدم الشـامل. وعلى ذلك فإن التقـدم الشامل يتناقص مع مصادرة الديمقراطية السياسية بعد استخدامها وسيلة للاستيـلاء على السلطة كـما تكشف خبرة نظم الاشتراكيـة الماركسيـة والفـاشيـة القـوميـة والأصولية الـدينيـة تحت دعاوي العدل أو الهويـة أو الإيمان وغير ذلك من مقولات حق يراد بها باطل.

ركيزة الأمن القومي

يمثل توطيد أسباب الأمن القومي بمختلف أبعاده، خاصة الاقتصادية والتكنولوجية، بما يواجه التهديدات والتحديات التي يتعرض لها هـذا الأمن على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، نتيجة وسببا لبنـاء القدرة الشاملـة وتحقيق التقدم الشـامل. إذ لا يخفى أن الدول الأكثر تقدمـا اقتصاديـا وتكنـولوجيـا هي التي تتمتع بمستويـات أقل من التهـديد الأمني، في ظل معطى تبدل مفهـوم الأمن القومي حيث تتراجع أولـوية تعظيم القدرة العسكرية لصالح مضاعفة القدرة الاقتصادية. أضف إلى هـذا، أن البلـدان التي تملك مـرتكـزات التقدم، الاقتصادية والاجتماعية والسيـاسية والثقافية، هي البلـدان التي تتمتع بأسبـاب ارتقاء المكـانـة على الخريطـة العالمية والإقليمية بما يحقق أهدافهـا ويحمي مصالحها. وبمقدور هذه البلدان بـالذات مضـاعفة أسبـاب الأمن بتغليب الاتفـاق السيـاسي على الصـراع المسلح، والجمع بـين عنـاصر القـوة المادية والمعنـويـة، وتطـوير علاقات تـوازن المصـالح وتبـادل المنـافع في التفاعلات الدولية والإقليمية. ولعل الوطن العربي في أمس الحاجـة إلى إعادة صياغـة مفاهيم الأمن القـومي لبلدانه في ضوء ما سبق من مسلمات تؤكدها المتغيرات العالمية والإقليمية.

وهكذا، فقد استسلم الاتحاد السـوفييتي السابق في الحرب البـاردة برغم امتـلاكـه إحـدى أعظم ترسـانتين للأسلحة التقليدية فضـلا عن الأسلحة النووية وغيرها من أسلحـة الـدمار الشـامل، وذلك حين بدا لـه أن احتفاظه بالتفوق في مجال القوة العسكـرية مستحيل أو عبثي، بالنظـر إلى تكاليف ومخاطر هذا التـوجه. وكان العامل الحاسم في هزيمة الاتحاد السـوفييتي في الحرب البـاردة، وبغير إنكار أثر مختلف الضغـوط الأمريكية والغربيـة، هو تدهور قـوته الاقتصادية، ومن ثم قـوته الشاملـة، من جـانب، نتيجة عجـز آليات اقتصاد الأوامر عن توفير الأساليب الأحدث التكنـولـوجية والتنظيميـة والإدارية... إلخ، التـي تـؤمن تسريع التنمية ورفع الإنتاجية وتحقيق الرفاهية فضلا عن تغطية أعباء وتوفير مدخلات سباق التسلح. ومن جانب آخر بسبب منحـه الأولوية في تخصيص الموارد العلميـة والتكنـولوجيـة والمالية والبشريـة وغـيرهـا للاغ راض العسكـرية على حسـاب حـاجـات الاقتصاد. وكـان انتهاك النظـام الشمولي السـوفييتي لحقـوق الإنسان وتورطه في حرب أفغانستان غير العادلة عوامل مهمة في تقويض مصداقيـة المثـال الاشتراكـي السوفييتي لدى الرأي العام العالمي. ومع ثورة "الجلاسنوست" تدهورت هيبة "الدولة الشمـوليـة"، وتفكك الجهاز السيـاسي والأمني للدولـة، وأدى البعث. القومي إلى تفكـك البناء الإمبراطوري للدولة السوفييتية. وفي المحصلة تدهورت القدرة والمكـانة النسبية للاتحاد السوفييتي على الخريطة العـالمية عشية انهيـاره، وصار معضـلا أمنيـا برغم مـا بحوزته من ترسانة نورية هائلة.

وقد كـانت القدرة الاقتصـادية والشـاملة للـولايات المتحـدة، ركيزة تحقيق الانتصارات الكـبرى للسيـاسـة الخارجية الأمريكية، وأهمهـا الانتصار في الحرب الباردة وتوسيع التحـولات الاقتصادية الليبرالية، على الصعيد العـالمي، وقيادة حرب تحرير الكـويت وبناء السلام العـربي الإسرائيلي، في الشرق الأوسط. ولا جـدال أن القوة الاقتصاديـة، قد تضافرت مع القـوة المعنوية التي وفرها تفوق النموذج الليبرالي الأمريكي، بحيث تمكنت الـولايات المتحـدة بقوتها الشاملة من "جعل الآخـرين يفعلون ما تريد"، فضلا عن "جعل الآخرين يريدون ما تريد". بيد أن القوة المالية والمعنوية للـولايات المتحدة قد تآكلت بسبب تكلفة الحرب الباردة ومأزق الليبرالية المحـافظة. وقـد أضحى تـدهـور القوة الاقتصاديـة الأمريكية تهديدا لقدرتها على مواصلة الانفـراد بوضع القـوة العظمى حتـى بعـد اختفـاء القـوة العظمى السوفييتية. وبين أسباب هذا التدهور، كـما أكد خطاب الليبرالية الاجتماعية الـذي عبر عنه كلينتـون، ترصـد تـراجع الإنفاق على البحث العلمـي والتكنـولـوجي، والتآخـر النسبي في إنتاج وتطبيق وتسـويق المنتجـات الأحدث للثورة الصنـاعية التكنـولـوجيـة، وتـراجع معـدلات نمـو الإنتاجية والضعـف النسبي للقـدرة التنـافسية. أضف إلى هذا، تـدهـور المثال الأمريكي للتقدم الشـامل نتيجة سياسات "الليبرالية المحـافظة" التي تبنتها إدارتا ريجان وبوش وقادت إلى تفاقم التوزيع غير العادل للثروة، فضـلا عن عجزها حتى عن تحقيق الهدف التقليدي للتيار الليبرالي المحافظ الـذي يجسدهم الحزب الجمهـوري وهو زيادة حجم الثروة. وأما شمعون بيريز، مهنـدس عملية أوسلـو للسلام، فيشير بحق إلى تقلص مغزى "العمق الاستراتيجي" موضحا أن تنافس مختلف الأمم والبلدان والدول للاستيلاء أو السيطرة على الموارد الماديـة للقوة مثل الرقعـة الجغـرافية، والثـروات الطبيعيـة، والموقع... إلخ، قـاد إلى حـروب حقق المنتصر فيهـا سيطرة على تلك الموارد، لكن ما بـدا لـه بلـوغـا لأهداف المنتصر، لم يكـن سوى تمهيـد لـدورة جديدة من الصراع. ومع نهاية القرن العشرين أضحت عناصـر القوة هي امتلاك ناصية التقدم التكنـولوجي، وسرعة الاتصـال، وأساليب جمع المعلومـات، والارتقاء بـالتعليم، وخلق بيئـة سـلام تكفل الرخـاء، وقبـول الآخرين، وتحول الاهتمام من تعظيم القدرة العسكـرية إلى تعظيم القـدرة الاقتصادية. ثم يخلـص بيريز إلى أن القـوة العسكـريـة يمكن لها بقـوة الفتح كسب الموارد المادية للقـوة، لكنها تعجـز عن كسب الموارد المعنـوية للقـوة. وفضـلا عـن أن إخضاع الأولى لا يقـود إلى السلام، فإنها لم تعد ذات قيمة من زاوية الأمن في البيئة العالمية الجديدة.

إنسانية الهوية

ان وحدة وتنـوع المجتمعـات الإنسانية حقيقـة تاريخية. وتتأكـد هذه الحقيقة مع تعمق أسباب التعاون والتناقض في شتى ميـادين الحيـاة الإنسانية، وتعـدد مظـاهر التأثير المتبـادل إيجابا وسلبا بين شتى البلدان مهما يكن حظهـا من التفوق والقدرة، وتعـاظم عوامل التفاعل بين مختلف المجتمعات أيا ما كان تباين انتماءاتها الثقافية والحضارية. وفي إدارة التناقضات المتجددة في العملية الجاريـة والمتسـارعـة لإعادة تشكيل النظـام العـالمي، يتوجب إدراك انه بين أخطر ما يهدد الأمن القومي، على مستـوياتـه المحلية والإقليمية والعـالمية، وفي جميع أرجـاء المعمـورة، تـبرز معضـلات إدارة التناقضات الجديـدة القـديمة التي تتـولـد عن معطى تعددية وتنوع الحضـارات والثقافـات الإنسانية. وفي وطننا العربي - خاصـة في لحظة التحول العالمي الراهن- تتعاظم ضرورة إدراك أن التقدم الإنسـاني يشترط الدفاع عن حـق جميع الشعوب في تقـرير مصيرها والـدفاع عن هويتها الثقافية، ولكن في سياق تسامح أو انفتاح على حضارة وثقافة إنسانـة تجسد الوحدة وتسلم بالتنوع. والأمـر أن إدارة التفـاعل بـين ثقـافـات وحضـارات متنوعة قد تضاعف مكـاسب "التعايش" إذا مـا جرى إعلاء وجه السماحـة وروح الحوار ونزعة التعلم، وقـد تفاقـم خسائر "الصدام" في حـال ابراز وجـه التعصب وروح التعـالي ونـزعة القهر. ومن منظـور التكـوين الاثنى، أي تمايز السكان على أساس اللغة أو العرق أو الـديـن أو المذهب أو الأصل القومي، يمثل الـوطن العربي واحدا من أكثر أقـاليم العالم تجانسا. إذ يتقاسم حوالي 80% من سكانه نفس الخصائص الاثنية.

وتزيد هذه النسبة إذا اخذنا بعـين الاعتبار تلك الجـماعات التي تختلف في أحد المتغيرات لكنها تعتبره هامشيا في تعريف هويتهـا.

وبرغـم هذا، فإنـه من المفـارقـات المؤلمة أن الوطن العربي، قد دفـع ثمنا باهظا، إنسانيا وماديا، في صراعاته الاثنية الداخلية، يفوق إجمالي خسائره في جميع الحروب العربية- الإسرائيلية، وذلك طـوال العقـود التالية لحصول بلدانه على الاستقلال السياسي.

ولا جدال في أن ظاهرة الصراعـات الاثنية الداخلية ليست مـلازمـة أو لصيقـة بـالعـرب أو المسلمين دون غيرهم من الجماعات الإنسانية. وقد نشير تـاريخيا إلى دور الحضارة العربية الإسلامية الناصع في هذا الصدد. وقد يكـفـي حين ننظر في العالم الغـربي من حـولنا، أن نشير إلى أحـداث العنف الاثني- لا نقول في البـوسنـة "الأوربية" والشيشـان "الروسيـة" - بل "لوس انجلوس" أي لا الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت أعلى مستويات التقدم على الصعيـد العالمي. لكننـا نسجل، بوجه خاص، ها يصم الحضارة الغربية بالعار جراء هـا يـرتكب مـن فظـائع "التطهـير العرقي، التي يمارسها الصرب في البوسنة الاوربية، بكل مـا تتضمنه من دمار هـائل وتقتيل بشع ودموية وحشية، تتناقض ودعوة الخرب إلى اعلاء حقوق الإنسان.

والواقـع أن العـام بـين أسباب تفجـر الصراعـات الـداخلية، الأثنيـة وغير الاثنيـة، في البلـدان العربيـة وغيرهـا من البلـدان العربية ذلك المتقـدمة اقتصـاديـا، يكمن في عدم بلوغ مستوى التقدم الشامل، الذي يوفر شروط وحـوافز الاتحاد الطـوعي بين السكـان. بيد أنـه يتـوجب ان نشدد على أنـه لا توجد وصفة واحـدة ولا طـريق سهل ومستقيم لبلـوغ هـذا التقـدم، بل على العكس، فـان التنـاقضات الاثنيـة شـأن غيرهـا من التناقضات الإنسانية العامة، قد تتجدد. وأما الخاص لا الوطـن العربي من ذات المنظـور فهو اتسـاع الفجوة التي تفصلـه عن التقدم الشامل، الذي يهمن شروط تقليص وضبط التنـاقضـات والصراعات الـداخليـة الاثنية، ويضفـي الطابع الإنساني على الهوية الثقافية ويؤكد قيم التسامح والتفاهم والتعايش مع الآخر

 

طه عبدالعليم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات