الشعر والشجن جابر عصفور

الشعر والشجن

أوراق أدبية
"أرض وبار" و "وادي عبقر مكانان هما موطن الجن في المعتقدات البدائية العربية. وقد ارتبط كلاهما بالإبداع وأسرار المعرفة التي يتلقاها المخصوصون من بني الإنسان عن كائنات الجن التي زعم العرب أنها تظهر لخواصهم في أنواع شتى من الصور.

لم تكتف المعتقدات المروية في كتب التراث بالحديث عن شياطين الشعراء وأصناف الجن التي أعانتهم على القول، وتمييز الجن على الجن في التراتب الذي ينطقه الشعر الذي نسب إلى الجن، وإنما أضافت إلى ذلك ما شاع بين القدماء من معتقدات عن أماكن الجن وأصنافها، فسمعنا عن جبل الجن، وهو أطيب منزل وأخفه فيما روى ابن الأعرابي، وعن عبقر التي تنتسب إليها عبقرية الإبداع، وهي أرض تسكنها الجن فيما زعموا، وتتميز بخصب أرضها وبرودة مائها. وسمعنا عن أرض وبار التي كانت من أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا.

وقد جاء في معجم ما استعجم أن وبار بلاد بالدهناء، بها إبل حوشية، ونخل كثير لا أحد يأبره، كأنه الوجه النباتي من الإبل الوحشية التي هي مجلى آخر من مجالى الجن التي تتصور على هيئاتها. وقد زعموا أن الغول (من الجن) حيوان شاذ مشوه لم تحكمه الطبيعة، وأنه لما خرج مفردا لم يستأنس وتوحش، وهو يناسب الإنسان والبهيمة، وأنه يتراءى لمن يسافر وحده في الليالي وأوقات الخلوات. وفي معجم البلدان، أن الله تعالى لما أهلك عادا وثمودا أسكن الجن في منازلهم، وهي أرض وبار، فحمتها من كل من يريدها، فإذا دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثوا في وجهه التراب، وإن أبى إلا الدخول خيلوه وربما قتلوه.

وغير بعيد عن ذلك ما نطالعه، عن السعالى من إناث الجن (أو الغيلان) التي تتلون في كل وقت والعلاقة بين السعالي وعزيف الجن هي العلاقة بين فتنة البشر التي تتم مرة بواسطة العين، في حالة السعالي، وأخرى بواسطة الأذن، في حالة عزيف الجن. وهي الفتنة التي تنطلق دائما من مكان ظاهر الخصوبة، كثير الثمار، ينطوي على معنى البكارة الوحشية التي لا تكف عن اجتذاب البشر وإخافتهم في آن. هذا الشعور الملتبس يتخذ أشكالا متعددة، تبدأ بلقاء يشبه ذلك اللقاء الذي وصفه شمر بن الحارث الضبي بقوله:

ونار قد حضأت بعيد هدو

بدار لا أريد بها مقاما

سوى تحليل راحلة وعين

أكالئها مخافة أن تناما

أتوانارى فقلت: منون؟ فقالوا

سراة الجن. قلت: عموا ظلاما

فقلت إلى الطعام فقال منهم

زعيم: نحسد الإنس الطعاما

وينتهي بزواج الجن والإنس الذي تحدثت عنه الحكايات، ومن أشهرها أشعار الجن، ومنها ذلك الجني الذي عشق إنسية، فيما يروي القزويني في عجائب المخلوقات، وظل يطاردها، محاولا استردادها من البطل الفحل الذي أنقذها منه، وهو يقول:

زعيم: نحسد الإنس الطعاما

ولم يبل مني إذ بلى جسدي وحدي

عليك سلام الله يا دعد ما جرت

رياح الصبا في الغور يوما إلى نجد

وقد نقل الجاحظ أن نظرة الجني العاشق إلى المرأة الإنسية، من طريق العجب بها، أشد عليها من حمى أيام، لأن عين الجن أشد من عين الإنسان.

وقد أخبرنا الجاحظ وغيره بالحكايات الدالة عن قبائل الجن التي جمعت بين بني الشيصبان والشنقناق والزوابع. وقيل إن الزوابع أصحاب الرهج والقتام، بنو زوبعة الجني الذي صنع لسليمان صرحا ممهدا في قوارير. أما الشنقناق والشيصبان اللذان ذكرهما أبو النجم العجلي في رجزه فهما رئيسان للجن، ومن آباء القبائل. وقد ذكر بشار الجني الأول بقوله:

دعاني شنقناق إلى خلف بكرة

فقلت: اتركني فالتفرد أحمد

أما بنو الشيصبان فقد جاء ذكرهم في حكاية الاختبار الذي عقدته السعادة لحسان بن ثابت، قبل أن تسمح له بقول الشعر في الجاهلية. وتقول الحكاية إن السعلاة لقيت حسانا في بعض طرقات المدينة، وهو غلام، قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت له: أنت الذي يأمل قومك أن تكون شاعرهم؟ والله لا ينجيك مني إلاّ أن تقول ثلاثة أبيات على روي واحد، فقال حسان:

إذا ما ترعرع فينا الغلام

فما إن يقال له من هوه

إذا لم يسد قبل شدِّ الإزار

فذلك فينا الذي لا هوه

ولي صاحب من بني الشيصبان

فطورا أقول وطورا هوه

ومن اليسير أن نرى في هذه الحكاية وأمثالها نوعا من القص التعليلي الذي تفسر به المخيلة البدائية وجود ظاهرة استثنائية مثل ظاهرة الشعر، فتنسبها إلى قوى علوية أو كائنات خرافية تجاوز قدراتها قدرات البشر العاديين، أولئك الذين تميز عنهم الشاعر منذ أن شعر بما لا يشعر به غيره، فقال ما لا يستطيع غيره أن يقوله..

ويمكن أن نغامر بالتفسير فنرى أن كل نوع من أنواع هذه الكائنات الخرافية ينفرد بدلالة لغوية تميزه عن غيره، إلى جانب الدلالات العامة التي تصله بالآخرين، فالشياطين تنفرد بالدلالة اللغوية على المخالفة في النية والوجهة والفعل والقدرة، من قولهم شطن شطنا أي خالفه عن نيته ووجهته، وشطن في الأرض دخل واختفى، وشطنت الدار بعدت. وفي الحديث: كل هوى شاطن في النار. والشاطن: البعيد عن الحق. وقد ذهب الطبري إلى أن المتمرد من كل شيء شيطان لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله. وتعني هذه الدلالة أن اقتران الشعراء بالشياطين يفسر مفارقة إنجازهم الشعري بقدرتهم على الفعل المباين كل المباينة لأفعال سائر جنسهم من البشر.

الدلالة اللغوية

أما دلالة "الجن" اللغوية فقرينه الستر والخفاء حيث المعنى الذي يصل الشعر بالوحدة التي تستر صاحبها عن غيره، وتقرن الإبداع بالظلمة التي تفصل المبدع عن الآخرين، كأنها اللاوعي الذي يوازيه باطن الأرض، رمزيا، في دلالة الاستتار. وفي لسان العرب جن الشيء: ستره. وجن الليل: شدة ظلمته. وفي القرآن الكريم فلما جن عليه الليل رأى كوكبا أي أظلم عليه الليل حتى ستره بظلمته. وفي الحديث جن عليه الليل: ستره. ومنه سمي الجنين في بطن أمه. الجنن بالفتح هو القبر لستره الميت، وهو الكفن. والجنان بالفتح القلب لاستتاره في الصدر. والمجن: الوشاح. والجنة بالضم: ما واراك عن السلاح. ومنه سمى الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار. وتلك دلالة ثرية الترابطات، تتقلب ما بين باطن الأرض - الرحم، وتصل الموت بالولادة، والنبات بالحيوان، والذكورة بالأنوثة، وتغير الأحوال الذي لا يفارق معنى الشدة بالجنون، فيقال جن (بالكسر) الشباب أوله وجدته ونشاطه، وجن النبات جنونا إذا ترعرع، وجنت الأرض إذا قاءت (ألقت) بشيء معجب. وحين تصل المعتقدات البدوية بين الجن والشاعر فإنها تصل، على المستوى الرمزي للا شعور الجمعي، بين القدرة المتفجرة للإبداع الإنساني والرموز الطبيعية (الحيوانية والنباتية) للولادة الجديدة، في اندفاعها العارم الذي يجعل من النشاط المتفجر للإبداع الإنساني، في علاقته بالطبيعة التي هي مرآته، وجها آخر من الشياطين المرد (الفتية) التي ردت إليها رواية الثعالبي الشعر الجيد.

ما دلالة "الغيلان" فقرينة التلون والتحول والتغير والتبدل. يقال تغولت المرأة إذا تلونت. وتغول الأمر: تناكر وتشابه. والتغول تقلب الأحوال. والغول اسم لكل شيء عن الجن يعرض للسفار، فيما يقول الجاحظ، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى، إلا أن أكثر كلامهم على أنه أنثى تتلون لتفتن من تتجه إليه، وتغير عقله، فتداخله. ومنها السعلاة، وهي الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول لتفتن المسافرين، وتغير عقولهم بأن تداخلها. ويبدو أن هذه المداخلة هي التي وصلت غولة الغول بدلالة السكر، كما وصلت بين الخمرة واغتيال العقل، فقيل: غالت الخمر العقل أي أحالته عن حاله، والغول كل شيء يذهب بالعقل. وتلك دلالة تفسر حالة المداخلة التي تنتج عنها القصيدة من رحم اللا شعور، وهي حالة أشبه بأحوال الجذب التي يغيب فيها اللا وعي، وتتلبس الشاعر غيبوبة الاستحضار، أو الغولة التي تنطق فيها شياطين الجن على لسانه، بعد أن تغتال عقله الذي يشاركه فيه غيره.

الجن والجنون

ليست مصادفة أن تقترن دوال الكلمات الثلاث للشياطين والجن والغيلان بالإشارة إلى ذهاب العقل، أو الجنون الذي لم ينفصل يوما عن الإبداع بمعنى أو بآخر. والعلاقة الدلالية بين الجن والجنون أوضح من أن نكرر فيها، فالأهم أن نلفت الانتباه إلى العلاقة بين الجنة بالكسر (وهي الجنون) ووسوسة الشياطين وهمزاتها، خاصة حين نضع في اعتبارنا الشيطان الذي وسوس لآدم وحواء ليبدي لهما ما ووري عنهما(سورة الأعراف) و .. الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس(سورة الناس). وقد قيل إن الجنة بالكسر هي الجنون، اعتمادا على ما جاء في سورة الأعراف أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ومثلها في سورتي (المؤمنين) و (سبأ) كما قيل إن الجنة جمع جني، وإن الإشارة إلى مجاورة "الجنة والناس" إشارة إلى شياطين الجن والإنس، في سياق كان يقال فيه شيطان الإنس أشد على الناس من شيطان الجن.

ويعني ذلك أن دوال الكائنات الثلاثة للشياطين والجن والغيلان تلتقي في مدلولات عامة، تشير إلى القدرة الاستثنائية على الفعل الذي ليس في طاقة البشر العاديين، ولا يستطيعه الشاعر إلا بعد أن يتلقى العون من كائنات غيبية. هذه القدرة الاستثنائية، بدورها، تقترن بالمعرفة التي ينفرد الشاعر بالوصول إليها، منذ أن اقترنت دلالة الشعر بالشعور، وقد قيل إن الجن إذا ألفت إنسانا وتعطفت عليه أخبرته بالأخبار التي يجدها يحسه، ويراها بخياله، أو يعينه عليها رئى من الجن. والعلاقة بين الجن التي من هذا النوع والشياطين التي استرقت السمع لتعرف أسرار السماوات هي العلاقة نفسها التي شكلت بها المخيلة الجمعية، في عصور البداوة، نماذج "المخدومين" من البشر الذين تحدث الجاحظ، في (الحيوان)، عن طاعة الشياطين والأرواح والعمار لهم، وكيف تستجيب الجن إلى ما يريدون إنجازه من فعل أو تحصيله من علم.

ويؤكد هذا البعد الحكاية التي يرويها ياقوت، في (معجم البلدان)، عن رجل أطلقت عليه المرويات اسم دعيميص الرمل، وكان له قطيع من الإبل، فبينما هو ذات ليلة، إذ أتاه بعير أزهر فتي، كأنه قرطاس، ضرب في إبله فنتجت قلاصا زهرا كالنجوم، لم يذلل منها إلاّ ناقة واحدة اقتعدها، فلما مضت عليه ثلاثة أحوال إذا هو ليلة بالفحل نفسه يهدر في إبله، ثم انكفأ مرتدا في الوجه الذي أقبل منه، فلم يبق من نجله شيء إلا تبعه، ما عدا النويقة التي اقتعدها، فأسف وقال: لأموتن أو لأعلمن علمها، وحمل معه زادا، وتبع أثر الفحل والإبل حتى انتهى إلى أرض وبار، فهتف به هاتف: انصرف فإنها ليست لك، إنها نجل فحلنا، ولك الناقة التي تحتك لحرمتك منا، واختر أن تكون أشعر العرب أو أنسبهم أو أدلهم فإنك تكون كما تختار، فاختار أن يكون أدل العرب.

والحكاية في رمزيتها اللافتة تتضمن لوازم الجن المعروفة في علاقتها بالشعراء، فهناك الفحل الذي ينطوي على معنى الخصوبة، ويشير إليها في انتصابه اللافت كالقرطاس. وهناك دلالة الليل الذي يبرز فيه الفحل الجنى، حيث يقترن معنى الجن بالستر والخفاءة في ظلمة الليل، وحيث الظلمة التي توازي الرحم أو اللاوعي في الإيذان بالولادة المادية أو المعنوية. أضف إلى ذلك قدرة الجن على التلون في صورة الحيوان أو الإنسان، وقد لونته الحكاية في صورة البعير الأزهر. وهي القدرة التي أشار إليها القزويني، في عجائب المخلوقات، حين نقل ما تزعمه العرب من أن الجن حيوان ناري من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة. والنار رمز متكرر في اللاوعى الجمعي من حيث دلالته على القوة الحيوية للإبداع وعلى المعرفة في الوقت نفسه. وغير بعيد عن هذه الدلالة النارية رغبة الإنسي (دعيميص) المتلهبة في أن يتعرف، أو يعلم علم ما حدث أو يحدث، واندفاعه مع الرغبة إلى التخوم التي تصل بين عالم الإنسان وعالم الجن. وكان ناتج هذه الرغبة معرفة جديدة استثنائية ما كانت تتم لولا الصلة التي تكونت بالجن، والتي تمثلت في الناقة الأنثى التي نتجت عن فحل الجن، فجعلت لدعيميص حرمة بينها. وقد رجع دعيميص سالما بهذه الناقة التي امتطاها في طريقه إلى أرض الجن، وقد اختار أن يكون أدل العرب، ليبلو ما لم يكن يعرف من أسرار الأرض، فإنه اختار نوعا من المعرفة لا يبعد كثيرا عن العلم بالشعر في المخيلة الأسطورية، فالأرض هي الأم الكبرى التي تحتضن الإنسان كالجنين، وتجود به، كأرض الجن الخصبة التي لا تفارق الشعر.

الجن والأفاعي

وأما عن العلاقة التي يتصل فيها الشيطان من الجن بالشيطان من الأفاعي (وهو حية له عرف قبيح المنزل) والشيطان من الإبل (وهو سمة من سمات الإبل، أو وسم يكون في أعلى الورك منتصبا على الفخذ). فهو نفسه التجاوب الذي يتصل فيه الشيطان من الأفاعي بالجان، وهو ضرب من الحيات أكحل العينين، يضرب إلى الصفرة، لا يؤذي، وهو كثير في بيوت الناس. والعلاقة بين الحية والغواية علاقة لافتة في الترابطات الدلالية للغول التي تفتن السفار، وتتعشق المخصوصين من الإنس، والتي تشبه المرأة الغاوية، أو تشبهها المرأة الفاتنة التي تكاد تجن من الحسن. وهي نفسها العلاقة التي وصلت الحية بالشيطان في فعل الغواية الأصلي الذي اقترنت فيه الحية بإبليس ونابت عنه كأنها إياه. أعني أن كل هذه الترابطات تعود بنا إلى الأصل الأول للغواية، حين كانت الحية أحيل جميع حيوان البرية فيما وصفها سفر التكوين الذي يروي الكيفية التي أغوت بها حواء، قبل آدم، فأخرجتهما من الجنة. هذه الحية هي البختية (الناقة الطويلة العنق) التي كانت أحسن خلق الله قبل أن تدخل الشيطان إبليس إلى جوفها، كي يتسلل بها إلى الجنة ويوسوس لآدم وحواء ليخرجهما مما كانا فيه، على نحو ما جاء في المرويات التفسيرية المنسوبة إلى وهب بن منبه وابن عباس رضي الله عنهما. وأحسب أن هذه الترابطات الدلالية للغواية تلفتنا إلى مسارها الدائري الذي يبدأ من نقطة يتباعد عنها ليعود إليها، كما تبدأ دلالة الأفعى الغاوية من الغول التي تتلون لتفتن السفار، أو العكس، وتنتهي بالشيطان من الإبل الذي يذكرنا بصورة الناقة البختية التي كانت عليها الأفعى قبل أن يحل فيها الشيطان إبليس، ليمارس فيها وبها فعل الغواية الأول للإنسان.

والدلالة الملازمة لهذه العلاقة، ما بين النموذج الأصلي للشاعر والشياطين والجن والغيلان، في سياق هذه الترابطات، هي دلالة الخصوبة التي تنطوي على رمزية الجنس. أعني الرمزية التي تصل، على مستوى المشابهة، بين تحول الغول وتلون الأنثى الغاوية، كما تصل بين دوال كل من الشيطان والجن والغول ومدلول الأفعى التي دخلها إبليس، فأغوت حواء الأنثى التي أغوت بدورها آدم الذكر. وتصل هذه الرمزية، على مستوى مواز، بين الشاعر (الذكر) والفحل من الحيوان (الكريم المنجب)، وتصل فحولة الفحل (من الحيوان في دلالته على فحولة الشاعر) والقيمة الموجبة التي قرنت الشعر الأجود بالشيطان الأمرد أو بالجني الذي اسمه الهوبر في المعتقدات نفسها، فردت الشيطان " الأمرد" إلى يفاعة الذكورة الإنسانية والحيوانية كما ردت الشيطان الهوبر إلى توثب الفهد أو القرد الكثيف الشعر، حيث المعنى المتكرر لجن الشباب الذي يعني أوله وحدته ونشاطه. هذه الدلالة نفسها هي التي تصل بين عالم النبات والإنسان، بعد أن وصلت بين عالم الحيوان والإنسان، في فعل ملامسة شياطين الشعر.

ظواهر الجن

وليس المهم أن نتشكك تشكك المعتزلة فالأكثر أهمية أن نلاحظ العلاقات الرمزية التي وصلت، في المعتقدات البدائية البدوية، بين طوائف الجن التي تخامر المخصوصين من البشر وجنون النبات حين تجود الأرض بالثمر، أو تجن، في فعل استثنائي من أفعال الإخصاب، كأنه الفعل الذي تستجيب به الطبيعة إلى غبار الطلع، أو اللقاح الذي تحمله الريح التي اقترنت بالزوابع أصحاب الرهج والقتام من الشياطين التي تنزلت على الشعراء، ونسبت بعضهم إلى زوبعة الشيطان الذي أشار إليه الراجز بقوله:

إن الشياطين أتونى أربعة

في غبش الليل وفيهم زوبعة

والزوبعة هي الريح التي تدور في الأرض لا تقصد وجها واحدا، تحمل الغبار، وترتفع إلى السماء كأنها عمود. وقد رأت العرب في هذه الظاهرة الطبيعية الصاعدة إلى السماء جنيا أسمته زوبعة، وجمعته على زوابع، وجعلت منه أحد النفر التسعة أو السبعة الذين قرنتهم بعض التفسيرات بمعنى الآية الكريمة وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن. ولم تفصل التصورات الاعتقادية، في المخيلة البدوية، بين هذا الجني والرهج الذي هو الغبار أو السحاب الرقيق كأنه الغبار، فقيل أرهجت السماء إرهاجا: إذا همت بالمطر، ونوء مرهج: كثير المطر. وللمطر دلالته الأسطورية الرامزة الدالة على الخصب، في أنشودة المطر المقترنة بإبداع الطبيعية والإنسان. وغير بعيد عن هذا السياق الدلالي، في تجاوب عناصره، العلاقة التي قرنت الجن بوادي عبقر، مصدر العبقرية الإنسانية للشعر، وقرنت سكان وادي عبقر بسكان أرض وبار حيث خصوبة الأرض وطيب النبت علامة موازية، تقرن أداء الشعر بأداء الشعيرة الطقسية لخصوبة النبات، في دورة تجدد الطبيعة والكون.

وحضور الشاعر، في هذا السياق من العلاقات، قرين المبدأ الفاعل للخلق الذي تتجدد به عناصر الكون، كأنه الجانب الذكري الذي يتصل بالجانب الأنثوي، في الفعل الأزلي للخلق المتجدد في الطبيعة. وسواء كنا نتحدث عن (الشياطين) التي تقترن بالحضور الذكرى للشاعر الذي يتميز عن غيره تميز الفحل على الحقاق من الإبل، أو عن "الجن" التي ترتبط بالحضور الأنثوي للطبيعة، فإن المجال الدلالي للاثنين يظل واحدا في تأكيد الثنائية التي تتم بها دورة الخلق، على مستوى الإنسان والحيوان والنبات. وهي الثنائية التي مايزت المعتقدات الأسطورية العربية عن غيرها في المنطقة الدلالية التي تصل بين معاني الفاعلية والمفعولية في فعل الإبداع.

هذه الثنائية، من ناحية أخرى، هي المسئولة عن العلاقة الجنسية التي وصلت بين الشاعر (الفحل) والسعلاة (الأنثى) في المعتقدات البدائية العربية، وذلك على المستوى الرمزي الذي يؤدي فيه الاثنان الشعيرة الطقسية لأسطورة التجدد التي تنطوي على معنى نزو الفحل على الحقاق، وولوج غبار الطلع في النبات، وحراب المطر في رحم الأرض، فزواج الشاعر الذكر (الإنسان) بالغول الأنثى (الشيطان - الجن) هو الاحتفاء الرمزي بتجدد الطبيعة وتخلق الإبداع. ومن طريف ما يرويه الجاحظ، في ذلك، قصيدة الحكم بن عمرو البهراني، وكان مكفوفا ودهريا عد مليا، خاصة الأبيات التي تقول:

وتزوجت في الشبيبة غولا

بغزال وصدقتى زق خمر

ثيب إن هويت ذلك منها

ومتى شئت لم أجد غير بكر

ولها خطة بأرض وبار

مسحوها فكان لي نصف شطر

وهي أبيات تتحدث عن الغول التي تتخذ أية هيئة شاءت، متنقلة، متقلبة، متلونة، متحولة ما بين صورة البكر والثيب كما يهوى صاحبها "المخدوم" الذي تزوجها في شبيبته، حين كان قريبا من صفة الفحل - الأمرد، وجنون الشباب الذي هو جدته ونشاطه، وجنون النبات الذي هو غلظه وفتونه وكثافته. وكان الصداق، في هذا العرس الأسطوري، غزالا وزق خمر، أما الخمرة فلطيب رائحتها ودلالتها على ما يخامر العقل، أو يغيب به عن أحوال الخلق، فتعود بنا إلى الجنون الذي هو لازمة دلالية من لوازم الجن. وأما الغزال فلكي تجعل منه الغول مركبا، لأن الظباء من مراكب الجن المفضلة فيما يحكي الجاحظ عن معتقدات الأعراب، ولبنها المسحور الذي لا يخلو من زهومة إذا كرعه الإنسان كان أشعر قومه فيما حكى أبو الخطاب القرشي، في الفصل الذي عقده عن قول الجن الشعر على ألسنة العرب. وأما مكان هذه الغول (الأنثى) الغاوية فهو أرض وبار الخصبة التي عرفت بالجن، وعرف بها الجن، حيث تملك هذه الغول أرضا اختطتها لنفسها، وأعطت نصفها لرفيقها الإنسى (الشاعر) الذي منحته بعض معرفتها وقدراتها حين أسلمته نفسها.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات