عناق الأيدي فؤاد دوارة

عناق الأيدي

حين بزغت أطياف الفجر الأولى خافتة هادئة كالنغم الحزين.. كانت يده لاتزال تعانق يدها في وجد والتياع.. وكانت عيونهما شاخصة إلى بعيد ترقب الكون النائم أمامهما في دعة واستكانة.. وفي نفس كل منهما شحنة متأججة من المشاعر الدافئة لا تهدأ ولا تستقر، بل تحمل صاحبها إلى أغوار نفسه، يبحث عن حقيقته، وحقيقة صاحبه، وحقيقة تلك التجربة الجديدة التي جمعت بينهما.

ثاب أحمد من رحلته داخل ذاته، ليحس بيدها النحيلة الباردة مستسلمة في يده كالطير الأليف.. رفع عينيه إليها ليراها في ثوبها الأسود كحمامة وديعة منهكة بعد رحلة طويلة.. لم يدر ماذا يقول، وقد اجتاحه شوق جارف ليعرف حقيقة إحساسها نحوه بعدما كان بينهما الليلة..

وعادت مهجة هي الأخرى من رحلتها الداخلية الحائرة.. تطلعت إلى أحمد في حنان وفهم، أحست به قريبا إليها، حبيبا إلى نفسها، بصورة لم تستشعرها نحو إنسان قبله.. وعادا يتأملان معا موكب الأضواء الطالعة، تغمر الكون من حولهما، وقد بدأ يتثاءب ببطء، ويحرك قدميه وساقيه بكسل، كمن يهم بالاستيقاظ.. وشرعا في الوقت نفسه يستأنفان رحلتهما الداخلية المنقبة، مع إحساس واثق يداخل كلا منهما ويشيع في نفسه اطمئنانا إلى أن زميله يفهمه ويقدر مشاعره.. ويعتز بها.

لم يكن ذلك أول لقاء بينهما.. فما أكثر ما تقابلا في الحفلات والسهرات، وما أكثر ما تبادلا الأحاديث والمداعبات. كان يحترمها ويقدر ثقافتها واستقامة تفكيرها، وبعدها عن اصطناع الأنوثة المدللة في ملبسها وأحاديثها. ولكنه لم يتصورها قط أكثر من زميلة عادية كبقية الزملاء والزميلات الذين يلتقيهم في المنتديات والحفلات العامة، والخاصة. وكانت هي الأخرى تحترم ذكاءه وصدق أحكامه وموضوعيتها، وتعجب برزانته وإعراضه عن كل عبث وصخب مما يغرم به الكثير من الزملاء.. وكانت تحب بصفة خاصه أن تستمع إليه حين يتحدث عن بعض قضايا الأدب والفن بحماسة ملحوظة، وتبهرها آراؤه الصريحة الجريئة، ولكنها لم يخطر ببالها أبدا أن تتجاوز علاقتهما تلك الزمالة العادية والصداقة البريئة..

والليلة كان يعلم أنها قادمة، ولعله سر بذلك، ولكن سروره لم يبلغ أبدا درجة الشوق واللهفة.. وحين تأخرت، واعتقد الحاضرون أنها لن تأتي لم يداخله شيء من الضيق أو القنوط.

أخيرا جاءت بصحبة حسين، واعتذرت ضاحكة بأنه أصر على دعوتها لمشاهدة فيلم في آخر أيام عرضه. وكانوا جميعا يعلمون صداقتها القوية بحسين، ويعاملونهما كخطيبين، وإن لم تعلن خطبتهما..

وحين وقفت أمامه تصافحه حدث ذلك الشيء الغريب الذي لا يعرف له تفسيرا. فلأول مرة تبدو مهجة جميلة مثيرة في عينيه.. ولأول مرة يحس بالأنثى الرقيقة الحلوة الكامنة فيها.. وعبرت عيناه وشفتاه وأطراف أصابعه عن هذا الإحساس وهو يسلم عليها مرحبا.

وانتقلت كل مشاعره إليها كالتيار الكهربائي، وأحست بما انتابه من تغير مفاجئ تجاهها ووجدت للمسة يده ليدها طعما آخر جديدا.. فإذا بها تقبل عليه هي الأخرى بكل حواسها.. بالتماعة عينيها، باختلاجة شفتيها، بنبض يدها في يده.

كان الأصدقاء يحتفلون بعيد زواج إلهام.. وكانوا يمرحون ويهرجون.. وشاركهما مهجة وأحمد مرحهم بجهد كبير في البداية.. لكأنما تفجر داخل كل منهما ظمأ قاتل لا يرتوي إلا من نبع عذب لا يفيض إلا من كيان الآخر. تعلقت أنفاسها بشفتيه تتابع كل حرف يتفوه به. وأصاخت روحه إليها تلتقط كل همسة من شفتيها بلهفة واشتياق.

وشيئا فشيئا بدا يعرضان عن كل الحاضرين، وينصرف كل منهما بكيانه كله إلى زميله، بصورة ما لبثت أن استلفتت أنظار الحاضرين وأثارت دهشتهم وعجبهم. انتحى حسين بمهجه جانبا رأس في أذنها ببضع كلمات مغضبة، سمعتها بضيق، ولم ترد عليها بكلمة، بل عادت إلى مكانها بجوار أحمد، وكأن شيئا لم يحدث. وحين بدأ الرقص اعتذرت عن كل الدعوات التي وجهت إليها وهي التي كانت لا تكف عن الرقص في أمثال تلك السهرات.

ضاق أحمد بضجيج الراقصين وتهريجهم وصخب الموسيقى، فقام، وقامت مهجة وراءه كالمأخوذة. وفي شرفة الدار وجدا مقعدين جلسا عليهما. بعد قليل قال أحمد وهو يزفر:

- أخيرا أصبحنا وحدنا.

ابتسمت مهجة بسعادة وقالت.

- أنت الآخر كنت ضيقا بهم؟

- نعم، ولأول مرة.

- يخيل إلىّ أن أشياء كثيرة تحدث الليلة لأول مرة..

- نعم.. أليس هذا غريبا؟

همست مهجة كالحالمة:

- يبدو أن في نفوسنا أشياء غريبة كثيرة لا نعرفها.

- وهل عرفناها الليلة؟

- أنا أعرف شيئا واحدا.

- ما هو؟

- أنى سعيدة.

- وأنا كذلك.. ولكن إلى متى تدوم هذه السعادة؟

- لا أعلم، ولا يهمني أن أعلم..

فقد تعلمت أن ما يفسد على الناس سعادتهم هو كثرة تفكيرهم في استبقائها وخوفهم من ضياعها..

- تتفلسفين؟

أبدا.. ولكنها تجارب الحياة أحاول أن أستفيد منهما قدر ما أستطيع.

تردد أحمد قبل أن يسأل بشيء من التخابث:

- هل أفهم في ذلك أنك فتاة مجربة؟!

فلم تتردد مهجة قبل أن تجيبه:

- أكذب عليك إن قلت لا...

ضحك أحمد بسعادة وهو يقول: أتعلمين أنك أول فتاة أقابلها تعترف بأن لها تجارب...

- وأي تجارب؟.. المصيبة أنها جميعا فاشلة.. أنت لا تتصور....

اقتحم حسين عليهما الشرفة وهو يصيح:

- أخيرا وجدتكما.. سأرقص معك هذه الرقصة..

فأجابته مهجة بضيق واضح:

- قلت لك لا أريد الرقص الليلة.. وقد لا أرقص بعد ذلك أبداً..

تطلع حسين إليها بقلق، ثم التفت لأحمد قائلا:

- تسمح يا أحمد لحظة..

وقام أحمد معه وهو يعابثه:

- إذا كنت تريد أن ترقص معي...

في الطريق كان متسول أعمى يتوكأ على عصاه، ويزحف ببطء شديد كأنه يحمل أثقال الدنيا والآخرة فوق ظهره.. وبين الحين والآخر يصدر صرخة طويلة تقطر ألما وحزنا..

تأوهت مهجة وهي ترقبه من الشرفة وتاهت مع أفكارها.. أيكون أحمد هو الأمل الذي عاشت عمرها تنتظره.. قلبها يحدثها بأنه هو، وأنهما لن يفترقا بعد ذلك أبدا.. لكن لماذا لم يبدأ ذلك قبل الليلة... ولهما الآن ثلاث سنوات يلتقيان ويتحادثان.. ثمة إحساس غريب يقلقها ويثير الحيرة والشك في نفسها.. ولكنها سعيدة على أية حال، ولن تفسد سعادتها بيدها، فالحياة تعرف وجدها كيف تفسد كل شيء في الوقت المناسب... أفاقت على يد أحمد تداعب أذنها برقة وهو يتساءل هامسا:

- فيم كنت تفكرين؟

- فيك...

- ألي كل هذه الأهمية؟.. خمس دقائق أخرى معك وأصاب بغرور لا شفاء منه.

- لا تمزح... ماذا قال لك حسين؟

- قال إن الجميع يتحدثون عنا.. وقال كلاما كثيرا عنك وعن حبه لك، وطلب مني ألا أصدقك أو أنخدع بكلامك، لأنه من الواضح أن كل تصرفاتك الليلة لا هدف لها سوى إثارة غيرته و....

- وهل صدقته؟

- أبدا..

- هل تعتقد أنى أحبه؟

- لا أظن

- هل تعتقد أنى أحبك أنت؟

- لا أعرف بعد..

- ولا أنا.. وأنت هل تحبني؟

- لا أعرف أيضا.. كل ما أعرفه حتى الآن أنى لا أريد أن أفترق عنك أبدا..

- وهذا نفس إحساسي.. أحمد.. بهذه الصراحة يمكننا أن نهد الجبال.. هيا بنا..

في سيارة الأجرة أحس أحمد بدفء جسدها يسري في كيانه كله، فود لو ضمها إليه بقوة حتى يتحطم صدراهما ويختلط ما فيهما من أسرار ورغبات وآمال.. سألها:- إلى أين؟

- إلى أي مكان نستطيع أن نجلس فيه وجدنا لنتحدث حين نشاء ونصمت حين نشاء دون أن يزعجنا أحد..

- أخشى أن أدعوك إلى شقتي فتظني أنني..

فأسكتته لتقول:

- وماذا لو ظننت؟.. إنه بالفعل أنسب مكان لنا الآن.

وازدادت التصاقا به، فامتدت يده بلا تفكير تطوق خصرها، واستيقظت الشهوة في كيانه، تمنيه بليلة صاخبة مثل ليال أخرى كثيرة عاشها، فانزعج وصمت..

تنبهت مهجة في نفس اللحظة إلى أنها توشك أن تفقد شيئا ثمينا قبل أن تفوز به، فاعتدلت في جلستها، ونظرت من نافذة سيارة الأجرة المسرعة في طريق الهرم.. كانت عربات الخضر والفاكهة تجرها الخيول والبغال في طريقها الرتيب نحو المدينة النائمة كالغول الضخم.

في إصرار قررت مهجة ألا تفقد هذا الشيء النادر الثمين الذي لم تفز به بعد. إن أحمد مختلف عن حسين وعن وجيه وعن حسام.. وعن كل من عرفتهم من قبل. لقد استطاع بكلمات قليلة أن يحرك الليلة في نفسها مشاعر لم تعرفها من قبل.. أحست أنها إنسانة قبل أن تكون امرأة، وأن لها عقلا يستطيع أن يناقش ويتخذ القرارات بحرية كاملة. وباستطاعتها أن تتحدث بصدق وبساطة وهي واثقة أنه سيحسن فهمها ولن يسئ الظن بها.

لا، لن تكون معه كما كانت مع حسين، أو مع غيره ممن عرفتهم، لن تكون مجرد امرأة، لا تخاطب سوى جانب الرجل فيه، بل ستكون إنسانة صادقة فاهمة متجاوبة، تشاركه مختلف أحاسيسه ومشاكله.. وآماله.. ولن تتردد بعد ذلك في أن تمنحه كل ما يريد في الوقت الذي يريد وتريده هي.. ولكنها أبدا ومهما كلفها ذلك لن تضيع ذلك الشيء النادر الثمين بعد أن أوشكت على الفوز به.

***

في شقته الصغيرة تحررا من عيون الناس ومن أشياء أخرى كثيرة، وبدآ - ربما بحكم العادة - يندمجان في بعض المداعبات الحميمة التي تعبر عن شوقهما وعن اضطراب مشاعرهما، أكثر مما تعبر عن اشتهاء حقيقي .. لم تحاول أن تبتعد عنه، أو تبعده عنها، في محاولة اتخاذ مظهر العذراء الطاهرة.

أحسا بسعادة غامرة هادئة لم يعرفاها من قبل.. ومن الأريكة اللينة التي اتكآ عليها تطلعت عينا مهجة إلى الرفوف الكثيرة المحيطة بها والكتب المكدسة عليها، فإذا بها تعتدل في جلستها وتسأل أحمد:

- .. لماذا توقفت عن الكتابة؟

كان هذا آخر سؤال يتوقعه أحمد في تلك اللحظة بالذات، فابتعد عنها قليلا، وامتدت يده تشعل سيجارة بشيء من العصبية.. أعادت مهجة سؤالها، فقال أحمد بضيق حاول أن يخفيه:

- ألا يمكن أن نؤجل الحديث في هذا الموضوع إلى وقت آخر..؟.

وقفت مهجة وقالت بحدة:

- اسمع يا أحمد.. لن نتعامل أبدا بهذا الأسلوب.. لقد بدأنا ليلتنا بداية رائعة حقا.. فأرجوك لا تفسد ما بدأناه، لأني أحس أنه شيء كبير حقا..

- آسف يا مهجة.. الحق معك.. هل قرأت لي شيئا؟

- طبعا.. معظم كتاباتك.. وسمعت أنك توقفت نتيجة لأزمة عاطفية..

- هذا غير صحيح.. كل ما في الأمر أني ذات يوم أعدت قراءة معظم كتاباتي، فوجدتها عبثا لا قيمة له ولا فاعلية فقررت أن أتوقف، وقد كان...

ود لو استطاع أن يحدثها عن أشياء كثيرة تملأ نفسه ولا يدري كيف يعبر عنها.. ود لو حكى لها تفاصيل حياته منذ وعي.. ود لو يحدثها عن كل ما عاناه من صراعات نفسيه وفكرية وعاطفية.. ود لو يذكر لها قراءاته وحيرته بين المثل التي تعلمها من الكتب، والقيم التي تربى عليها، وتلك القيم الأخرى الغريبة التي تسيطر على حياة الناس من حوله.. ودلو يقول لها أشياء كثيرة تملأ صدره بالشجن والأسى، وتكاد تمزقه تمزيقا.. ولكن أنى له بالكلمات التي تعبر عن ذلك كله؟

قبل أن يتفوه أحمد بكلمة مما يعتمل في نفسه ويود لو يقوله لمهجة، كانت هي قد أشعلت سيجارة بدورها وبدأت تتحدث.

روت له تفصيلات حياتها بكل دقة وصراحة. حكت له عن فترات السعادة التي عاشتها، وفترات الشقاء والتأزم.. حدثته عن الصراع الناشب في وجدانها بين المثل التي تعتنقها والقيم المادية التي تفرضها عليها علاقاتها بالناس.

ظلت تتحدث وتتحدث، ولم تسكت إلا حين أفرغت كل ما في صدرها، وكأنها كانت تخشى ألا تتاح لها فرصة أخرى تتحدث فيها معه. استمع أحمد إليها بهدوء غريب. وفي فترات كثيرة كان صوتها يخفت ويكاد يتلاشى، ويخيل إليه أن صوته هو الذي يرتفع ويتحدث ويعبر عما في نفسه. وفي لحظات أخرى كانت تبدأ هي الجملة، فيجد بقيتها مرسومة في عقلة بوضوح.

لم يقاطعها، ولم يعلق بكلمة على كل ما قالته، بل ظل صامتا حتى انتهت تماما. بعد ذلك لم يجد صعوبة في أن يتحدث بدوره بنفس الأسلوب ليفرغ كل ما في صدره وكأنه يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع.

حين انتهى في حديثه أحس براحة هائلة تملأ صدره، ونظر إلى مهجة القابعة على أريكته المريحة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وتنبه إلى أنه لم يكد يمسها برغم انفرادهما في شقة خالية إلا منهما كل ذلك الوقت، وخشي أن تعتبر ذلك إهانة منه لجمالها وأنوثتها، فاقترب منها، وحاول إصلاح ما تصور أنه خطؤه. ولكنه لم يستطع، بعد كل هذا الجهد النفسي الذي أنفقه في الاستماع إليها، ثم في الحديث معها، حتى لقد أحس أنها تحولت إلى إنسانة شديدة القرب من نفسه، لا يستطيع أن يقربها أو يشتهيها، على الأقل في تلك الليلة.

أحس بشيء من الحرج، واحتدم في نفسه صراع غريب بين إعزازه لها ورغبته في إرضاء الأنثى فيها، فاقترح عليها أن يخرجا إلى شرفته ليرقبا منها مشرق الشمس.

***

وقفا صامتين يرقبان أطياف الفجر الأولى خافتة هادئة كالنغم الحزين، والكون من حولهما نائم في دعة واستكانة، وفي نفس كل منهما شحنة متأججة من المشاعر الدافئة لا تهدأ أو تستقر.. وأخيرا استطاع أحمد أن يسألها:

- هل تحسين بالندم؟..

وفهمت مهجة ما يعنيه، فابتسمت وهي تجيبه:

- صدقني يا أحمد.. هذه أسعد ليلة في حياتي.. فما أسهل أن نلهو وأن نستمتع، ولكن ما أصعب أن نفكر ونحس ونكتشف أنفسنا خلال شخص آخر..

وحين أضاءت الشمس البازغة المنظر البديع المحيط بهما كانت أيديهما لا تزال متعانقة وعيونهما شاخصة إلى بعيد.. وفي قلب كل منهما فهم عميق وود صادق وعاطفة جديدة جارفة نحو الآخر.

 

فؤاد دوارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات