قراءة نقدية في.. الريح تهزها الأشجار عبدالكريم المقداد

قراءة نقدية في.. الريح تهزها الأشجار

مجموعة قصصية لوليد الرجيب
هذا هو الكتاب الرابع للقاص الكويتي وليد الرجيب بعد مجموعتيه القصصيتين "تعلق نقطة.. تسقط.. طق" و "إرادة المعبود في حالة أبي جاسم ذي الدخل المحدود" وروايته الشهيرة "بدرية". تأتي هذه المجموعة القصصية الجديدة لتبلور ملامح الأدوات الفنية لدى الكاتب على مستوى الرؤية وأسلوب السرد.

إن أول ما يشد الانتباه في هذه المجموعة هو العنوان، الذي استثمره القاص في إثارة تساؤلات القارئ وإغرائه في الدخول إلى فلكه القصصي. فالأشجار تعصف، والريح تهتز..!!، ولا بد إذن من الوقوف على أسرار هذا التبادل التأثيري المقلوب. فهذا الاشتغال على خاصية التناقض الظاهري ( Paradox) من شأنه إثارة اهتمام المتلقي، ودفع أنفه - بالتالي- لاشتمام ما هو خلف العنوان، وهذا بحد ذاته ملمح إيجابي يحسب للكاتب.

وما يشكل ملمحاً أساسياً في هذه المجموعة، هو الميل الظاهر إلى ضغط زمن الخطاب، وتسريع وتيرة السرد. وقد اعتمد الكاتب لذلك تقنيتي الحذف والتلخيص، مسقطاً حلقات كاملة من الزمن الحكائي أحياناً، وملخصاً لحلقات حكائية طويلة أحياناً أخرى. ولملاحظة ذلك نحيل إلى القصص: (رسم البحر) و (دموع وزغاريد) و (قصص تلغرافية).

(رسم البحر) تبدو كبريق خاطف، مركز السطوع، ينير حيزاً مكتظا بالتحريضات، ثم ينسحب مسرعا، تاركاً لدواخل القارئ أن تمتص هذه التحريضات ببطء. وليس بخافٍ ما لهذا البطء من فعالية عالية، ناتجة عن إطالة فترة تمركز الأثر في دخيلة القارئ. فقد اشتغل الكاتب على تقنية الحذف بحيث جعل نصه غير مكتمل دون القارئ، وغير قابل للاستغناء عن أي جملة فيه. فحين يقول الراوي مثلا: "في الطريق يحتاجني وعصاه لإرشاده، بينما في البحر يرتكن في اتجاهاته إلى شيء لا أعرفه"، نشعر أن هناك شيئا محذوفاً. فهل الرجل أعمى؟. وهل تنفتح بصيرته في البحر؟. وما سر كل هذا الولع بالسباحة، برغم معرفته بأن (وايد دسم في البحر)؟. ثم ما هي الصلة المعقودة بين الراوي وهذا الرجل؟. وكذا الأمر مع تقنية التلخيص، حيث السرد الموجز: "يسبح بعيدا... ثم يعود، يقترب، يخرج من البحر، ويعصر طرف إزاره، ويضع سبابته وإبهامه على أرنبتي أنفه ويتمخط ثم يقول: وايد دسم في البحر".

الجميل في الأمر أن هذا الأسلوب لم يدع مجالاً للضغط على الراوي، أو على الشخصية الرئيسية في القصة. فالرجيب لم ينصب من نفسه موجهاً أو شارحاً أو واعظاً، بل.. ترك الراوي على سجيته ليسرد ما رأى وسمع، دون تحميله أية انزياحات. فالراوي، كما يبدو، شاب بسيط مؤهل لقول الكثير، غير هذا الذي روى. إنما، يكمن الانزياح هنا في اقتطاع هذه الفسحة الروائية من مجمل الكثير، مما يمكن للراوي قوله. واقتطاع الكاتب لهذه اللحظات السردية دون غيرها، هو قيمة الانزياح الذي ارتآه الكاتب، وظني أنه وفق إليه.

في حين آثر الكاتب في قصته الثانية (دموع وزغاريد) مواضعات الماضي القريب، تسجيل لقطة احتفالية من مواضعات الماضي القريب، والاكتفاء بتأطيرها على ما كانت عليه، دون الانفتاح بالنص على أكثر من مستوى التسجيل والتأطير. ونحن لا ننكر أنها (القصة) التقاط دقيق لمشهد الختان التقليدي، بحميمية أجوائه النافرة من قلوب أفراد الأسرة، وبسذاجة ودهشة الشخص المعني، وغير المدرك لما ينتظره، لكننا ننكر على الكاتب وقوفه بهذه الالتقاطة عند حدود النسخ، وعدم توظيفها فنياً بشكل يولد في النص طاقة إيحائية، مكثفة ومعمقة للتواصل ولذا قعد النص عن تجييش الدوائر والهالات من حوله مؤثرا الخمول والسكينة، برغم قدرة الكاتب على غير ذلك. فقد كان بإمكانه الاستفادة من الأسلوب السردي، البرقي والموجز، المتبع هنا، في أن يقول و.. لا يقول. بمعنى أن يتخطى بنصه المستوى المباشر، إلى مستويات انزياحية إيحائية أخرى، فيفتح النص على طاقات جمالية أكثر. أما وقد اكتفى باستحضار حرّيف لطقس (الختان) بتقليديته وأجوائه وهالاته الشعورية المصاحبة، فله حق اعترافنا بإجادته في ذلك، ولنا أن نطمع عليه بالتجويد أكثر. وأكثر ما تتبدى تقنية ضغط الخطاب وإيجازه، جلاء، في (قصص تلغرافية) ، التي يتطابق عنوانها تماماً مع الأسلوب السردي المتبع فيها. فالراوي على عجلة من أمره، يريد إلقاء خطابه في أقصر فترة زمنية ممكنة، وبأقل عدد من الكلمات والجمل. الأمر الذي يضطره إلى الإيجاز، والتكثيف، والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل ذات الطاقة الإيصالية الأكبر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن في الإيحاء طاقة إيصالية كبرى.

وعليه، فالأسلوب هنا، يعتمد اعتماداً كلياً على الحذف والاختزال. فنرى أيام الحكاية، وسنواتها أحياناً، تنثني في بضع كلمات من الخطاب ليس إلا: "يأتي الليل مرة أخرى، وتشرق الشمس، ويأتي الليل وتشرق الشمس، والآخرون منهمكون في عد بقية أعمارهم". أو كما نرى في (طقوس الفك والارتباط) حيث:

"قبل عشر سنوات: كان كل شيء جميلاً بعينيه فتزوج أمس:

كانت قهوة الصباح مرة فطلق زوجته".

هذا الحذف المتعمد لحلقات برمتها من زمن الحكاية، هو ما يفجر الطاقة الإيحائية للنص. إذ يترك الكثير من الفراغات التي يمكن للنص أن يكتمل دون تعبئتها. وما دام الكاتب تعمد تقديم نصه. مبقيا على هذه الفجوات، فالأدعى بالقارئ محاولة تعبئتها، وإتمام النص. وبهذا يكون الكاتب حفظ حق قارئه في الإنتاج، وأشركه معه في عملية الإبداع. ولما كان للقراءة مستويات، ولكل قارئ طريقته في إملاء هذه الفجوات، فقد ضمن الكاتب لنصه، إذن، العديد من المستويات.

لكن.. بما ان القصة القصيرة، بطبيعتها، مبنية على أبعاد مصغرة، مركزة ومكثفة، فالقصة القصيرة جداً أكثر تركيزاً وكثافة، وأكثر خطورة في ذات الوقت. وإذا كانت الأولى تحتمل بعض التوسع النسبي في وحدة البناء، فلا يمكن للثانية أن تحتمل ذلك، بل... يتوجب التأكيد الشديد على تصفيح وحدة بنائها ضد أبسط تسريب. وإلا تبعثرت - على صغرها - بسرعة مؤدية إلى سرعة اضطراب وحدة الأثر (الانطباع). وقد فطن الرجيب إلى ذلك، فأجاد في خمسٍ من قصصه التلغرافية: (صراف البنك)، (الضم والجيب)، (الوجه الآخر)، (طقوس الفك والارتباط)، (لعبة الكوت). في حين أخفق في قصته السادسة (الدورة) التي - وبرغم قصرها الشديد - تبدو كقصتين غير متسقتين، حُشرتا عنوة في نص واحد، فأودتا بوحدة بنائه، وشتتتا محصلته الانطباعية لدى القارئ. ففي الجزء الأول يعرض النص سؤال الطفل لأبيه:

"- ما الفرق بينك وبين آكل لحوم البشر؟

أجاب الأب وهو يمضغ ملفات العمل:

- لكل منا ميزة.. فهو نظيف الملابس وسخ القلب. وأنا نظيف المعدة وسخ الملابس".

ثم يتابع الكاتب مباشرة: "يأتي الليل: فينقلب الحليقون على أسرتهم نشوة ويتقلب الآخرون على أسرتهم أرقاً.

يبزغ الفجر:

فيذهب السادة الحليقون إلى أسرتهم منهكين، ويستيقظ الآخرون من النوم منهكين..."

وهنا إما أن نعتبر الجزء الأول مجرد إضافة غير مبررة، فنحذفه من النص بشكل كامل، لتعاد له حيويته واتساقه، أو أن نفصل الجزء الأول عن الثاني، ونسمي كلاً منهما قصة قصيرة جداً مستقلة بذاتها. ولو جربنا أي الخيارين لتأكدنا أن الكاتب جانبه الحظ في الجمع بينهما في نص واحد.

السرد والرؤية

الملمح الثاني في هذه المجموعة هو غلبة طريقة السرد الذاتي. حيث الراوي شخصية مشاركة في بناء الحدث، ساردة له من الداخل. وكل ما نراه في القصة، إنما نراه بعيون هذه الشخصية (الراوي) فهي من يروي وهي من يرى. وبالتالي هي متجانسة مع المسرود تماماً.

وحضور الراوي كشخصية محورية أحياناً في الحدث، وثانوية في أحيان أخرى، ساعد الكاتب على اعتناق طريقة (الرؤية المصاحبة) أو (الرؤية مع). ذلك أن الراوي تماهى مع الشخصية القصصية إلى حد التطابق، فالتزم مداركها ومعارفها، ولم يقفز فوقها أو يتعالى عليها. الأمر الذي دعم مصداقية السرد، ووسع دائرة انتاجية القارئ من خلال الإيحاءات العفوية، وغير المباشرة. فالراوي في (دسم البحر) شخصية ثانوية، تشارك في بناء الحدث من خلال توصيلها اليومي لبطل القصة إلى البحر. وهي في نفس الوقت الشاهد المحايد، الذي يروي ما سمع ورأى. فالبطل في كل يوم، وكلما همَّ بنزع ملابسه للسباحة في البحر، يسأل الراوي: "أكو دِسم في البحر..؟". وعندما ينتهي من السباحة، يضع سبابته وإبهامه على أرنبتي أنفه، ويتمخط قائلاً: "وايد دِسم في البحر". وكذا الراوي في قصة (دموع وزغاريد)، وهو الشخصية الرئيسية، حيث يروي ما حدث له باستغراب. فكل طلباته في ذلك اليوم كانت مجابة، ولم يستطع إدراك المظاهر الاحتفالية حوله، حتى بعد أن مط المطهر: "الجلدة بين فخذي، صرخت جزعاً، وسالت دموعي، وارتفعت زغاريد، وسمعت صوتا يقول: غدا الشر".

غير أن الأمر يختلف قليلاً في قصة (روائح) إذ نشعر في إحدى فقراتها بشيء من الخلخلة، نتيجة سهو الكاتب وانزياحه عن نمطية السرد المتبعة. فالراوي هو الشخصية الرئيسية في القصة، وهو العدسة التي نرى من خلالها كل الشخوص الأخرى. والأهم من ذلك أنه يتبع في سرده طريقة (الرؤية المصاحبة)، والتزامن مع الحدث. بمعنى أنه لا يستطيع هنا، إلا أن يروي ما يرى ويسمع، ولا يستقيم له الانتقال من راوٍ لا يعرف إلا ما تعرفه الشخصية، إلى راوٍ كلي العلم.

لكننا نفاجأ بالراوي، بعد أن بدأ قصته بـ"نزلت في المصعد... أدرت محرك سيارتي ودمدم عادمها محاكيا عوادم سيارات الجيران الذين جلسوا خلف عجلات القيادة ببلادة و...". نفاجأ به وقد انتقل إلى مستوى سردي آخر إذ يقول: "وما إن توجه الأزواج والزوجات إلى أعمالهم كل بسيارته، حتى انطلقت الخادمات إلى جهاز الهاتف، وتقلبن بابتذال على أسرة مخدوميهن.. ورنت هواتف السيارات تحمل أصوات العشيقات والعشاق في الجانب الآخر". فكيف تحول إلى راوٍ كلي العلم؟. وكيف انتقل من طريقة الرؤية المصاحبة، إلى طريقة (الرؤية الخلفية)؟.

لكن سرعان ما يعود الكاتب في متتاليته القصصية (ذاتان وحب) إلى التزام التجانس في سرده، والاحتفاظ برؤيته السردية المصاحبة، إنما بشكل أكثر عمقاً وتطوراً. فالمتتالية تشتمل على سبعة مشاهد، يتعاقب على سردها راويان (ذكر وأنثى) انعقدت بينهما علاقة حب. ويتخذ شكل السرد عند كلا الراويين شكل المنولوج الداخلي، الذي هو كما نعلم أقرب أشكال الرؤية السردية المصاحبة. لكن المتتالية، في بعض مشاهدها، لا ترتكن إلى السرد بطريقة المنولوج الداخلي فقط، بل تمازج بين المنولوج الداخلي (كحضور صامت غير معلن)، وتقنية الحوار (الحضور المعلن) المتزامن في حضوره مع حضور المنولوج. فالراوي يتوزع في سرده على محورين: محور الحوار الراهن المعلن، ومحور التداعيات الذاتية، الصامتة، والمغلفة بالغياب عن الحوار الراهن. مع التذكير بأن كلا المحورين يتواشجان معاً، ويتدفقان في زمن واحد. حيث الراوي يسرد ما يجري، بينما شاشة لاوعيه مفتوحة على تداعياته الذاتية الخالصة. وهذا ما يتيح لقارئ النص الجمع بين الحضور (الحوار) والغياب (التداعيات) من خلال مراقبته لما يجري، وتفرجه على ما يعتمل على شاشة لا وعي الراوي.

جلياً يبدو ذلك في المشهد الأول، من المتتالية القصصية، الموسوم بـ (الفراشة واللهب) حيث نقرأ: "ما للحوار الذكي والسجائر تخرج من ألفتها؟! ويصبح صوتك هو الألفة.. من ساقية الحوار تصبين على روحي وحدي.. من خلف نوافذ الصمت تقبلني ضحكتك على وجنتي وحدي.. وحدي المكبل بالسؤال.. محاطاً بسكين الاحتمال:

- ما هي الخطوة العملية؟ فالوطن لا ينتظر أحلاماً فقط.

من غمدي أطعن فيك.. وفي العيون التي تسبح في دخان نهرك الغارق فيه.. أنا الغريق وانتشالي منك فيك و: تفضل..."

ويتأكد لنا ذلك أكثر، لو حاولنا فك التواشج بين تقنيتي المنولوج والحوار، فنقرأ المنولوج دون الحوار، أو نقرأ الحوار دفعة واحدة، بعد نزع المنولوج. وعليه يصبح الحوار، مثلاً، على الشكل التالي:

- ما رأيك؟

- أظن ..

- .. يجب استكشاف الأمور أولا

- أنا أتفق تماماً..

- لكن يجب التحرك بجرأة أكبر...."

أما في مشاهد أخرى من (المتتالية)، فيتوحد الراوي، أو الراوية، مع المنولوج الداخلي بشكل خالص. لكن يجب الانتباه إلى أن هذا المنولوج يعتمد في تدفقه على أفعال قام، أو يقوم، بها الراوي/ الراوية. فنكتشف أن المنولوج يحيل بشكل غير مباشر- كما فعلت تقنية الحوار- إلى أفعال ذات صلة وثيقة بالقصة. من حيث إنها تلقي الضوء على حقيقة موقع كلتا الشخصيتين، الراوي والراوية، وتتوسع في استحضار خلفيتيهما اللتين سيكون لهما دور فاعل وبارز في بناء القصة، وأثرها أيضاً.

ففي مشهد (نجمتاك وشهابي) نقرأ : "لأجلس إلى مكتبي وأكتب: - أيها الشعب الأبي.. المنشور / قصيدة، وموسيقى التصوير صمت أخرس، لم أقل لرفاقي إني استحضرتك كي أكتب..".

و"أدسك في جيبي وأخرج مراوغاً البحلقة مدفوعة الأجر".

و"الرفاق منتظرون وأنا قادم لأسلمهم عشق البارخة"

وكذا الحال أيضاً في المشاهد: (بين يدي السراب) و(عيناك وراياتي) و (الريح تهزها الأشجار).

تحت نفس راية الرؤية المصاحبة، والسرد الذاتي، تنضوي قصة (الديك). حيث الراوي/المتكلم/ الشخصية الرئيسية في القصة/ يبدو شخصية مرتبكة، ومترددة، وضعيفة الثقة بنفسها. هذه الشخصية تقود السرد على طريقة السيرة الذاتية، معددة الكثير من المواقف التي بدت فيها مهشمة، وغير ملتفت إليها. وقد اشتملت (الديك) على ثلاثة عناوين، كان بإمكان كل منها أن يستقل كقصة متكاملة. لكن تعاقب هذه العناوين (القصص) ضمن قصة واحدة، لا يعني أن الكاتب خرج عن إطار القصة، برغم تعدد الأحداث المتضمنة.

والتكرار هنا يحمل أكثر من معنى. فهو التأكيد من جهة، والتدليل من جهة أخرى على أن ما حدث للشخصية، وما صادفها من مواقف، لم يكن عابراً، وإنما يحمل صفة التواصل والاعتياد شبه الطبيعي. وهو (التكرار) من منظار آخر تعزيز للبعد الكوميدي للنص، من خلال الانزياح عن مألوفات الأمور، والطبيعيات من ردود الأفعال.

تجدر الإشارة، قبل إقفال هذا المحور، إلى أن الأسلوب السردي، وطريقة الرؤية، المشار إليهما هنا، لم يكونا المسار الأوحد لكل قصص المجموعة، وإن غلبا على القسم الأكبر من النصوص. ذلك اننا نجد اعتماد (الرؤية الخلفية)، والسرد بضمير المخاطب، في قصة (الزئبق يرتفع.. ينخفض) حيث الراوي غير مشارك في الحكاية فعلياً، وغير متجانس مع مسروده، لكنه كلي العلم، لا يتوانى عن كشف السرائر والأفكار. الأمر الذي مكَّن الكاتب من التعامل مع الأبعاد النفسية، والاطلاع على العقل الباطن لشخوصه. في حين اعتمد أسلوب (الرؤية من الخارج) في قصة (الدم الجاف) ، فكان الراوي، السارد بضمير الغائب، وغير المشارك في الحدث، يلاحق سلوك الشخصيات، ويصف بيئتهم وأوضاعهم، محاولاً تقديم الحكاية من خلال الوصف والحوار، دون التدخل في مسارها.

البساطة والتحديث

يتبقى لدينا ملمح بارز على صعيد الحكاية في هذه المجموعة. ذلك أن الملاحظ في معظم القصص أن الكاتب قد تخفف من ثقل الحكاية وتعقيداتها، وآثر التعامل مع البسيط المألوف منها. فلم نر في حكاياه غرائبية، أو حبكات غارقة في الدوائر. كما ابتعد بنصوصه عن ثقل الذهنية، وحرص من الإغراق فيها. فكان له عدم الوقوع تحت سطوة الحكي، ووجد أمامه متسعا كافيا لإعطاء الأبعاد الفنية حقها، وارتقى بجماليته الفنية نحو التجريب والتحديث.

وبناءً على ما تبيَّناه في هذه الدراسة الموجزة لمجموعة (الريح تهزها الأشجار) ، نلاحظ نزوعاً واضحاً عند الرجيب لاختراع مسارب تحديثية جديدة في فلكه القصصي. والواقع أن هذا ما درج عليه الكاتب، سواء في هذه المجموعة، أو في ما سبقها له من أعمال، في محاولة لتجاوز تقليدية الجنس القصصي، والسير فلك المغامرة، مستأنساً بخبرة غير قليلة في مجال القص. وهذا ما رأيناه واضحاً في (الريح تهزها الأشجار)، مثلما رأيناه سابقاً في (طلقة في صدر الشمال) على وجه الخصوص.

 

عبدالكريم المقداد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات