د. أنور عبدالعليم ورجب سعد السيد

  • استدعت الدراسة أن أغوص حتى 40 مترا
  • كنت أول من درس الغابات البحرية العملاقة
  • إذا اختفى الساحل فأنت في مياه الله
  • يجب أن يتشرب الطالب حب البحر
  • مياهنا البحرية أحد أنظمة الدفاع والأمن

بالرغم من سني عمره السبعين، ومتاعبه الصحية التي يقاومها ويجهد في إخفائها حتى عن المقربين إليه من تلاميذه وأصدقائه، رحب العالم العربي الدكتور أنور عبدالعليم بإجراء هذه المواجهة.

إنه واحد من أبرز الرواد، أنشطته البحثية غطت كل بحار ومحيطات العالم تقريبا، ودرجاته العلمية بدأت منذ تخرجه في جامعة القاهرة عام 1941، ثم حصوله على الماجستير من كلية العلوم جامعة الإسكندرية عام 1945، ثم درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم من جامعة لندن عام 1949، ثم توجت جهوده العلمية حين منحته جامعة لندن عام 1970 درجة الدكتوراة في العلوم عن مجمل أبحاثه ومجهوداته العلمية التي أدت إلى تقدم ملموس في مجال علوم البحار.

لا يكاد يوجد بحث علمي منشور، في المجالات العلمية المهتمة بعلم البحار، لم يعتمد صاحبه على أبحاث ومؤلفات الدكتور أنور عبدالعليم بشكل أساسي، لقد عمل الرجل أستاذا ثم رئيسا لقسم علم البحار في جامعة الإسكندرية، وأستاذا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وخبيرا لليونسكو في سيراليون، وأستاذا زائرا في جامعة جنوب كاليفورنيا، هذا بالإضافة إلى العديد من المشاركات في المؤتمرات العلمية والبعثات الاستكشافية، أجرى الحوار معه رجب سعد السيد الباحث بمعهد علم البحار.

في مدخل مسكنه بمنطقة ( وابور المياه ) بالإسكندرية ، توقفت بعض الوقت أمام ما يشبه المتحف الصغير.. أدوات الغوص وأشياء تذكارية معلقة على حوائط المدخل، وشكل ذلك مدخلا طبيعيا للحوار..

عشق الغوص

  • كنت قد قرأت في أحد أعداد " الهلال " التي صدرت في الخمسينيات، مقالا لكم تحت عنوان ( غصت في المحيط الهادي ) تصفون فيه تجربتكم عن رياضة الغوص بأبعادها العلمية.. هل نتخذ هذه التجربة مدخلا للحوار فتحدثنا عنها؟

- أنا رياضي سابق، مارست المصارعة وكرة القدم والسباحة الطويلة، لذلك، عندما دعتني إحدى الجامعات الأمريكية في بداية الخمسينيات، ضمن برنامج تبادل الأساتذة مع الجامعات المصرية، لم أفرط في فرصة نادرة أتيحت لي لتلقي دروس عملية في الغوص باستعمال أجهزة التنفس تحت الماء في معهد الثروة البحرية بكاليفورنيا، اجتزت كل الامتحانات ابتداء من اللياقة البدنية إلى اختبارات نفسية لدراسة السلوك في الظلام والأماكن المقفلة، ثم السباحة وحمل الأثقال في الماء والسباحة ضد التيار لمسافة مائة متر.

بعد ذلك استخدمت مهارة الغوص في دراسة طبائع بعض الكائنات التي تعيش تحت سطح المحيط، وقد استدعت هذه الدراسة أن أغوص مرارا، لأعماق وصلت إلى 40 مترا، وقد ضمنت نتائج هذه الدراسة في بحث ألقيته في مؤتمر علمي عقد بالنرويج في عام 1956.

وقد ساعدني الغوص أيضا في دراسة ظاهرة التتابع في نمو مجموعة الكائنات البحرية التي يطلق عليها اسم الحشف البحري، وأثبت وجود هذه الظاهرة في المياه العميقة أيضا، وكان المعتقد أنها تتم في المياه السطحية فقط، ثم قمت بدراسة جديدة لرصد تحركات الرمال على القاع، وتغيرها من الشتاء إلى الصيف، وكنت أول من قام بدراسة بيئة الغابات البحرية العملاقة والحيوانات التي تعيش فيها.

  • روى لي أحد تلاميذك، وكنت قد أشركته في رحلة علمية معك بمنطقة ( شرم الشيخ ) أنك قد أصررت على النزول بنفسك إلى مياه البحر لفحص الموقع وجمع العينات، وكنت مازلت تعاني من آثار إجراء جراحة مؤثرة في القلب، مما يؤكد حرصكم واهتمامكم بنقل الخبرة من الأستاذ لتلاميذه.. يدفعني هذا إلى سؤالكم عن الأجيال اللاحقة لكم.. أنتم جيل الرواد؟

- ثمة تلاميذ جيدون ومجتهدون، وإذا رأيت التلميذ غير مهتم فلا تلق عليه باللوم، بل كل اللوم يقع على الأستاذ، والتلاميذ امتداد طبيعي له.

لقد غبت عن مصر مدة طويلة. قبل أن أغادرها كان لدينا في كلية العلوم فريق بحثي متكامل له خطة واضحة، وكان من بنود هذه الخطة دراسة البيئة البحرية، وبيئة البحيرات الشمالية قبل بناء السد العالي، لكي يأتي من يعمل بعدنا ويبني على هذه الدراسة، وهكذا، كلفت أحد تلاميذي بدراسة الهائمات البحرية، وعهدت إلى آخر بدراسة الإنتاج العضوي للبحيرات، وآخرين غيرهما، وبعد بناء السد العالي، كانت هذه الدراسات أساس المقارنة لرصد التغيرات التي حدثت، وهي تغيرات عنيفة أثرت في البيئة الساحلية، لقد اختفت أسماك السردين، مثلا، بعد بناء السد العالي لاختفاء مياه الفيضان، وثمة علاقة وثيقة بين وجود السردين وبين توافر غذائه من البلانكتون الذي كان يزدهر نموه في موسم الفيضان لخصوبة المياه التي كان النيل يصبها في البحر.

حول بحيرة قارون

( حصل الدكتور أنور عبد العليم على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن مجموعة من الأبحاث المهمة استأثرت باهتمامه فترة طويلة من حياته العلمية، وكانت تدور حول موضوعين أساسيين: الأول هو الهجرة المتبادلة للأحياء البحرية في كل من البحرين الأحمر والمتوسط عبر قناة السويس، وقد فتحت أبحاثه في هذا المجال الطريق أمام أجيال متتالية من الباحثين، ولا يزال الموضوع محل الاهتمام حتى الآن، والموضوع الثاني هو دراسة المراعي البحرية في المحيط الهندي، وقد أنتج الدكتور أنور عبد العليم أبحاثه عن هذه المراعي من خلال عضويته للبعثة العلمية الدولية للمحيط الهندي في عام 1965، والتي استمرت ثلاثة شهور متصلة، مارس خلالها هوايته في الغوص حول جزر جنوب غرب المحيط الهندي ).

  • ضمن اهتماماتك العلمية المتنوعة، كان لك اهتمام خاص بالبيئة المصرية والعربية، ونعرف أن هناك بحثا تقدمت به لمؤتمر علمي سيعقد قريبا يدور حول المناخ الذي كان يسود منطقة بحيرة قارون منذ مائة ألف سنة، هل لنا أن نعرف المزيد؟

- لقد كانت البحيرة متصلة بالنيل في العصر الجيولوجي الحديث، ثم تقهقرت وأخذت تجف ولم يبق منها إلا بعض الآثار، هي التي تمثل بحيرة قارون الحالية، وبالطبع كانت هناك حياة حول البحيرة تختلف صورها عن الوضع الحالي، كما نتوقع أن المناخ السائد في ذلك الوقت كان مختلفا، وهذا ما أثبتناه في دراستنا، لقد درسنا الرسوبيات التي كانت تمثل قاع البحيرة القديمة، في مناطق تبعد 20 أو 30 كيلومترا جنوب وشرق البحيرة الحالية، وحاولنا إعادة رسم صورة للمناخ القديم، اعتمدنا في ذلك على تقدير النسبة بين عنصري الكالسيوم والمنجنيز المترسبين في أصداف الحيوانات الرخوية الموجودة في رسوبيات القاع، وأيضا على تقدير نسبة الأكسجين المشع في الكربونات، ومن هذه المعلومات يمكن تصور درجات حرارة المناخ قديما، وهذا علم جديد يسمى علم المناخ القديم أو ( Paleoclimatology )

تطور علوم البحار

  • من واقع اهتمامكم وحرصكم على متابعة أحدث اتجاهات البحث والتجريب، هل يمكن أن تلقي الضوء على مدى التطور الذي طرأ على علم البحار؟

- تطورت علوم البحار في العشرين سنة الماضية بشكل مذهل، التقدم العلمي في كل المجالات يتم بخطى متسارعة فنحن نكاد نجد في كل يوم جديدا، وحظنا من هذا التطور في مجال علوم البحار قليل، لأن علوم البحار من العلوم المكلفة، ولا تقدر عليها الدول النامية إلا إذا تعاونت في مجموعات، فلا داعي، مثلا لأن تكون لثلاث دول متجاورة سفن أبحاث كبيرة، لأن هذه السفن سوف تعمل في المياه نفسها تقريبا.. البيئة نفسها، وبالتالي ستكون الأبحاث مجرد تكرار غير مفيد، التعاون مطلوب هنا، تعاون في الخروج إلى البحر، تكامل في خطط الأبحاث للتركيز على دراسة مشاكل معينة، إن المياه ممتدة بلا حدود، الحدود صناعية، انظر إلى ابن ماجد يقول إن البحر ليس ملكا لأحد من الزنوج أو العرب، فإذا اختفى الساحل عن النظر، فأنت في مياه الله.. وبالمناسبة، فإن فكرة المياه الإقليمية هذه عجيبة، لقد تحددت المياه الإقليمية في البداية بالمدى الذي يتمكن فيه مدفع ساحلي من إصابة سفينة مغيرة، ومع مرور الزمن، ازدادت كفاءة المدافع، كما ازدادت كفاءة السفن، فاتسع مدى المياه الإقليمية عدة مرات.. هي إذن مسألة ليست ثابتة، وتحكمها متغيرات، وثمة دول تستفيد من هذا التجديد، ودول أخرى تضار، لذلك فإن قانون البحار الخاص بحماية ثروات المياه وقاع البحر في المياه الإقليمية لم يحظ بموافقة كل الدول.. اعترض البعض عليه.

وبالمناسبة، فقد شاركت في مؤتمر عقد في تونس عام 1984، لمناقشة قانون البحار للدول النامية والدول العربية.

العالم العربي دولة بحرية

  • وكان معنى إشارته الأخيرة أن له رأيا في علوم البحار العربية، استفسرت منه عن ذلك، قال:

- كم جامعة لدينا في الدول العربية؟ حوالي عشرين جامعة، كل جامعة تدرس علوم البحار بشكل أو بآخر، سواء في مرحلة البكالوريوس، أو كدراسات عليا، فما محصلة ذلك؟ هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة موضوعية، وتبدأ بالتأكيد على أن حرص جامعاتنا العربية على تدريس علوم البحار يعد ظاهرة صحية، إن ذلك ليس ترفا علميا، بل ضرورة تفرضها عدة أسباب:

أولا: يمكننا أن ننظر إلى العالم العربي على أنه دول بحرية، تاريخنا مع البحر ممتد إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، حيث نجد البعثات البحرية للملكة حتشبسوت والملك نخاو، من الأسرة السابعة والعشرين في مصر القديمة، وأنا عضو في الجمعية التاريخية للتراث البحري القديم في انجلترا، وأستقبل مطبوعات هذه الجمعية من حين لآخر، من هذه المطبوعات كتاب وصلني أخيرا كتبه ملاح سكندري في القرن الأول الميلادي، وأسماه ( المراحل البحرية للبحر الأحمر )، أو ( بريبولوس ماري روبرو )، ويصف الملاح السكندري القديم في كتابه رحلة بحرية اجتاز خلالها البحر الأحمر، ثم سار في المحيط الهندي حتى وصل إلى الهند، وقبل الإسلام، أبحرت السفن العربية إلى إفريقيا والهند، وفي عهد الدولة الأموية، وصلت سفن المسلمين إلى الصين.، أقام المسلمون علاقات تجارية مع الصينيين، وكان للمسلمين في (كانتون ) جالية عربية مسلمة قوامها مائة ألف شخص أو تزيد، كانوا يلقون أفضل معاملة، بأمر من إمبراطور الصين.

ولدينا تراث عربي قديم في مجال علم البحار، التسمية نفسها عربية، أما الاسم الأعجمي Oceanography، فلم يعرفه الأوربيون إلا أخيرا، في القرن التاسع عشر، بعد رحلة الاستكشاف البحرية تشالنجر)، التسمية العربية جاءت قبل ذلك بكثير، على يد (ابن ماجد)، عنوان كتابه الأول: ( القائد في أصول علم البحار والقواعد )، وعنوان الكتاب الثاني: ( حاوية الاختصار في أصول علم البحار ).. هو- إذن - صاحب التسمية العربية لهذا العلم.

كان من الطبيعي، إذن، أن يلتفت أجدادنا إلى البحر الذي يحيط بهم من كل صوب والذي هو وسيلة اتصال بالجيران القريبين والبعيدين، ومن الطبيعي، أيضا، أن يمتد هذا الاهتمام بالبحر إلينا نحن الأحفاد للسبب نفسه، ولأسباب أخرى استجدت.

بحار غنية ونتاج قليل

  • أعتقد أنه لا بد من وقفة عند هذه النقطة بعد استكمال عرض الأسباب التي تجعل من تدريس علم البحار في المعاهد العربية ضرورة؟

- سنتناول ذلك فيما هو آت، والسبب الثاني هو غنى مياهنا بالثروة الطبيعية، إننا محسودون على بحارنا التي تحتضن مصدرين عظيمين للثروة: النفط والأسماك، كل البحار العربية غنية بالأسماك وغيرها من المنتجات البحرية الاقتصادية، في بحر العرب مثلا، الإنتاج العضوي للمياه عظيم، نتيجة لغنى المياه بالأملاح الغذائية التي تجلبها التيارات المنبثقة، ولكي تتخيل مدى غنى هذه المياه، أقول لك إن قيمة الإنتاجية الشائعة للمياه البحرية في العالم لا تزيد على بضعة ملليجرامات، أما في بحر العرب فإن الرقم يقفز بد خمسة جرامات في المتر المربع في اليوم، رقم خرافي!، ولكي أترجم هذا الكلام إلى معنى ملموس للعامة، أقول إن ذلك يعني قدرة هذا البحر على إنتاج مليون طن من أسماك السردين فقط!.. تصور!.. كل هذه الإمكانات لدينا.. في مياهنا.. تحت أيدينا!، وفي الغرب توجد أمام مراكش وموريتانيا في بحر السنغال بالمحيط الأطلنطي بقعة من أخصب المياه وأغنى المصائد البحرية المتنوعة في العالم.

ولدينا سبب استراتيجي يدفعنا للاهتمام بمياهنا البحرية، إنها أحد أنظمة الدفاع والأمن لنا، ويجب أن نعرف كل خواصها لنتمكن من تحقيق السيادة الكاملة على مياهنا الإقليمية، وثمة اهتمام عالمي بالتطبيقات العسكرية للدراسات البيولوجية البحرية فعلى سبيل المثال، يمكن استغلال ظاهرة التوهج الحيوي لدى بعض الكائنات البحرية في تأمين السفن الحربية ضد الطائرات المغيرة، إن هذه الكائنات تضيء المياه، خصوصا في الليالي المظلمة، فتكشف السفن الحربية للطائرات، ويمكن دراسة سلوك هذه الكائنات وعمل خرائط لتوزيعها، لتتجنب السفن الوجود في المياه الغنية بهذه الكائنات.

وتستفيد البحرية الأمريكية من دراسة طبيعة المناطق البحرية التي يتم فيها التقاء تيار بحري بارد بآخر حار، في هذه المناطق تضلل الموجات الصوتية السارية في المياه، ويمكن أن تتخذها الغواصات أوكارا للاختباء فيها.

وكانت الغواصات تعاني من تداخل الموجات الصوتية الصادرة من الثدييات البحرية وغيرها من المخلوقات المائية مع ترددات الاتصالات فيما بينها، وقد أدت دراسة هذه الكائنات البحرية إلى عمل كتالوجات لأصواتها، بحيث يمكن فصل تردداتها عن ترددات الاتصالات البحرية العسكرية.

وفي الحرب العالمية الثانية، كانت الغواصات تدخل وتخرج من البحر المتوسط من خلال مضيق جبل طارق، مستغلة معرفة العلماء لوجود تيارين بحريين، أحدهما داخل إلى البحر تدخل معه الغواصات، وعند خروجها إلى المحيط، تبطل محركاتها، وتخرج مع تيار آخر عمقه 80 مترا، وكان ذلك يفيدها في تضليل وسائل التنصت.

لماذا نذهب إلى بعيد، وكلنا يعرف أن دراسة المد والجزر واتجاهات التيارات المائية كانت من أسس التجهيزات العلمية التي اعتمدت عليها الخطط العسكرية المصرية لعبور قناة السويس في أكتوبر 1973.

أخيرا،، يجب أن تكون عيوننا على بحارنا بصفة دائمة، لأن التلوث يزحف على البيئة الإنسانية في البحر والبر والجو، ومن الضروري أن توجد خطط بحثية مستمرة لرصد مستويات التلوث بمختلف أنواع الملوثات في البيئة البحرية، فهذه خطوة أساسية لحماية هذه البيئة الغنية التي وهبها الله لنا.

تعاملنا مع البحار بإهمال

  • هل نالت بحارنا منا الاهتمام الواجب؟

- مع الأسف، لا، ولكي أكون منصفا، ليس بالقدر الكافي، تشغلنا أشياء أخرى، أليس غريبا أن يكون لدينا في مصر أسطول للصيد في أعالي البحار، ثم نبيعه؟!، في سنة 1960، كنت عضوا، في اللجنة العليا للزراعة والري التي كانت تخطط للمصائد والزراعة، تقدمت بمذكرة للمسئولين قلت فيها إنه سيأتي يوم تقصر مواردنا من اللحوم الحمراء عن سد احتياجاتنا، وأوصت اللجنة بتكوين هذا الأسطول الكبير الذي أدى سوء الإدارة إلى بيعه، وكان لدينا بعض سفن الأبحاث الصغيرة مثل (بهنسي) و (فرس البحر) فقدناها للسبب نفسه، حتى السفينة (مباحث) وهي جزء من التاريخ العلمي العربي، غرقت في الميناء الشرقي بالإسكندرية.

كيف ندخل إلى عالم البحار؟

  • إذن فإنه من الضروري والمهم أن تقع المعاهد والمراكز المهتمة بتدريس علوم البحار في الوطن العربي، لتراجع نفسها وتنظر إلى برامجها بموضوعية، وإذا اتفقنا على أن هناك قصور في ذلك هل لنا أن نضع أيدينا على أسبابه؟

- كما سبق أن ذكرت، عظيم أن يدرس أولادنا علوم البحار، ولكن البرامج الدراسية ليست بالكفاءة المطلوبة، ثمة عيوب يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:

1- إن عالم البحار عبارة عن دراسات تطبيقية للعلوم الأساسية في البيئة البحرية، وهذا يتطلب أن يكون للطالب خلفية قوية من العلوم الأساسية، الأمر الذي لم يتحقق في أغلب الجامعات العربية حتى اليوم، الطالب في الجامعات الأوربية والأمريكية يأخذ قسطا من العلوم الأساسية ضعف ما يأخذه الطالب العربي.

2- أخشى أن يكون بعض أعضاء هيئة التدريس في بعض المعاهد والمراكز العربية المهتمة بعلوم البحار ليسوا بالكفاءة المطلوبة، بعض الجامعات تستقدم أساتذة يظلون بها سنوات طويلة دون أن يفعلوا شيئا أكثر من التدريس، لا أقصد أحدا معينا بكلامي هذا، بل هو ينطبق على بعض الأساتذة من الأجانب أيضا، وأتصور أن التدريس ليس إلا جزءا من مهمة الأستاذ، إذ إن عليه أن يقم بالأبحاث أيضا، ولا أستطيع أن أتصور معهدا أو قسما علميا لعلوم البحار يعمل لمدة عشر سنوات، وبه عشرون أستاذا وعدد من الطلاب الذين تخرجوا فيه طوال هذه المدة لا يزيد على عشرين طالبا.

نصرف ملايين الدولارات من أجل عدد محدود من طلاب الدرجة الجامعية الأولى، لذلك يجب أن تقوم هذه الجامعات بتقييم الأساتذة كل ثلاث سنوات على الأقل، وعلى أي حال، فأنا من أنصار تدريس علوم البحار في مرحلة الدراسات العليا فقط، وتبقى مرحلة البكالوريوس لدراسة العلوم الأساسية فحسب.

3- إن علم البحار تعتمد على الدراسة العملية والتدريب في البحر أكثر من المحاضرات النظرية، يجب أن يتشرب الطالب حب البحر، وحين كنت أعمل بجامعة الإسكندرية، كان لدينا قارب اسمه (الباحث) أنشأناه على مرحلتين، كانت المشكلة تتمثل في عدم وجود الاعتمادات المالية، أعطتنا الجامعة خمسمائة جنيه، فبنينا بها جسم القارب في ورشة بالأنفوشي، وفي السنة التالية، أعطتنا خمسمائة جنيه أخرى فاشترينا بها المحرك، وهكذا، بألف جنيه أصبح لدينا قاربنا، هذا القارب خدم العديد من طلاب الدراسات العليا في رحلات جمع عينات لأبحاثهم.

وبالمناسبة أذكر أن الإجراءات الأمنية تعطل أعمال علوم البحار، فنحن دول متجاورة، ومياهنا متداخلة وتشملها بيئة واحدة، ولكي تخرج سفينة علمية لتعمل في المياه بشكل علمي، عليها أن تحصل على تصاريح تتطلب تدخل وزارات الخارجية والدفاع والداخلية.. إلخ، وهذا تعطيل للعمل.

4 - انقطاع التعاون العلمي مع الهيئات المتقدمة في العالم، حتى على المستوى الإقليمي، لسنا متعاونين بالقدر الكافي، كل يعمل في جزيرة منعزلة، والتعاون مطلوب وضروري في كل العلوم.

5 - معظم البحوث المنشورة في مجال علوم البحار وصفية بسيطة، الإبداع والابتكار في أضيق الحدود، ومن الضروري أن نحاسب أنفسنا: ماذا أنتجنا مقابل ما أنفق من أموال على إجراء هذه البحوث المكلفة؟..هل تطورت مصائدنا البحرية، مثلا ؟ وأنا معجب بالتجربة الكويتية، ليس لديهم في الكويت قسم لعلوم البحار، ولكنهم أنجزوا أعمالا أفضل من دول عربية أخرى لديها كليات لعلوم البحار، لقد رأيت تجارب الاستزراع السمكي التي يجريها الدكتور محمد سيف في المركز الوطني للبحث العلمي، العاملون في هذا النشاط العلمي أفراد ليس لديهم العلوم الأساسية، وأحضروا الخبراء، وتعلموا منهم، وطرحوا إنتاجهم في الأسواق، رأيته بنفسي، إنه مستوى مشرف، هجنوا البلطي، وأنتجوا الهامور والربيان.

ابن ماجد وتراثنا العلمي

( كان يتحدث بحماس وغيرة واضحين، فالرجل، كما تعود تلاميذه منه، يريد للعمل أعلى درجة ممكنة من الكمال، ورأينا أن نخفف عنه تلك الحدة التي قادته إليها الغيرة على مجال وهبه عمره وحياته، وانتقلنا إلى موضوع أثير لديه: اهتمامه بالتاريخ العلمي العربي، فسألناه ):

  • كيف بدأت رحلتك مع التاريخ ؟

- أنا أهوى قراءة التراث، وفي عام 1961، كنت مبعوثا إلى الاتحاد السوفييتي، وفي ليننغراد، اطلعت على مخطوطات ابن ماجد، وعليها تعقيبات ضعيفة لأحد المستشرقين، قبل ذلك كنت قد عثرت على بحث. صغير بالفرنسية لكاتب اسمه (فيراند) وكان يعمل دبلوماسيا في الشرق، في العشرينيات من هذا القرن، كان البحث عن مخطوطات ابن ماجد الملاح.

وبدأت أتتبع تاريخ وحياة ابن ماجد، وأصدرت كتابي عنه ( ابن ماجد الملاح ) في سلسلة ( أعلام العرب )، كنت متشككا في أنه هو الذي أرشد الملاح البرتغالي فاسكو دي جاما، وفعلا، لم يكن هو مرشده، وإنما بحار هندي، وقد جاءت سيرة ابن ماجد في مؤلف لمؤرخ يمني، عنوانه: ( البرق اليماني في الفتح العثماني )، ثم جاء ربان تركي اسمه ( سيدي عاي حسين )، وكان قائدا لحملة بحرية مصرية فشلت في مواجهة البرتغاليين في الخليج، بقي الرجل لفترة في الخليج، حيث اطلع على مخطوطات ابن ماجد وألف كتابا اسمه ( مرآة البحار )، يقول فيه إن الملاحة بدون مخطوطات ابن ماجد جد متعسرة.

ولم يكن ابن ماجد مجرد ملاح، فقد درس بعض الظواهر الطبيعية في البحر مثل التيارات، ولون ماء البحر، كما وصف طبيعة القاع، ورصد بعض أنواع الحيوانات والطيور البحرية، ووضع أسماء ومصطلحات عربية علمية جميلة.

ولقد اتخذ اهتمامي بالتاريخ خطا متوازيا عندما اتجهت إلى دراسة الآثار الغارقة بالميناء الشرقي بالإسكندرية، ولي دراسات حول الزلازل القديمة، واختلاف نوع قاع البحر، وشكل الصخور، ولا أزال أذهب إلى موقع معين بالميناء، من حين لآخر.. فلدي ما أهتم به هناك.. سفينة لا تزال مجهولة.. إنها سري الخاص.