إطلالة على ناقد كبير مندور.. ومتغيراته النقدية

إطلالة على ناقد كبير مندور.. ومتغيراته النقدية

أوراق أدبية

كان مندور بحق واحدا من أشهر النقاد العرب. فقد تجاوز بحسه الكثير من آفاق النقد الأدبي التقليدية وقدم إبداعه الخاص.

كانت السنوات العشر التي أعقبت عودة محمد مندور (1907 ـ 1965) من بعثته إلى فرنسا عام 1939 سنوات خصبة بكل معنى من المعاني, ففي هذه السنوات أصدر مندور مجموعة من الأعمال جعلته ـ بحق ـ واحداً من أبرز نقاد جيل التحول. الذي حاول تجاوز الإطار الليبرالي على المستوى السياسي, وتجاوز الإطار الرومانتيكي على مستوى الابداع, وتجاوز الإطار التقليدي لنظرية التعبير على مستوى النقد الأدبي. حسبي أن أشير إلى كتبه التي صدرت في هذه السنوات العشر, مثل (في الميزان الجديد) و(نماذج بشرية) و(النقد المنهجي عند العرب) و (في الأدب والنقد), أو إلى ما ترجمه من (دفاع عن الأدب) و(منهج البحث في الأدب واللغة) ـ لندرك خصوبة الإنجاز المتميز الذي قدمه مندور خلال تلك السنوات العشر التي اعقبت عودته من فرنسا.

والذي يثير الدهشة أن هذا الإنجاز النقدي المتميز ـ وقد حاولت أن أعرض مقولاته الأساسية في نقد الشعر في المثالين السابقين ـ تم وسط دوامة عنيفة من أحداث ومواقف خاضها مندور. ففي هذه السنوات العشر فحسب, كتب مندور رسالته التي حصل بها على درجة الدكتوراه, وتنقل أستاذا محاضرا ما بين جامعتي القاهرة والإسكندرية, واستقال من الجامعة عام 1944, وتفرغ للكتابة والتأليف بل المحاماة. وتنقل ما بين مجلتي (الثقافة) و(الرسالة) ثم (الأهرام) و(المصري) و(الوفد المصري) المسائية, وأصد مجلة (البعث) الأسبوعية, وتولى تحرير (صوت الأمة) بعد سقوط صدقي, وافتتح مكتبا للمحاماة ورشح للبرلمان, وفي ثنايا ذلك كله دخل الحبس الاحتياطي أكثر من عشرين مرة, وسجن في زنزانة منفردة لمدة ستة وأربعين يوما بتهمة الشيوعية. أضف إلى ذلك الخصومات السياسية الحادة والقضايا التي رفعها على الخصوم, والمعارك الفكرية والنقدية, ومواجهة إغلاق أكثر من مجلة وجريدة كتب فيها أو رأس تحريرها. دوامة من حياة عاصفة, تمتد عبر عشر سنوات قصيرة في عمر الزمن, لكنها تساوى زمنا كاملا بكثافة ما فيها. ورغم هذا كله أصدر مندور في هذه السنوات مجموعة من الكتب الأساسية في تاريخ نقدنا الحديث, وترجم كتابين لهما أثرهما في تحديد منهجية البحث الأدبي.

الشعر العربي ومشاكله

ولقد كان عام 1949 ـ وهو العام الذي فرغ فيه من كتابه (في الأدب والنقد) ـ خاتمة لهذه الفترة الخصبة من حياته. ففي صيف ذلك العام نشرت مجلة (الأديب) البيروتية مقالا لمحمود أمين العالم بعنوان (مستقبل الشعر العربي) الجزء الثامن/22 نقد فيه واقع الشعر العربي, وأشار إلى عيوبه, مؤكدا أن مشكلة الشعر العربي هي مشكلة صياغة, وأن شعرنا مازال تجربة لغوية, وأن ما حققه الشعراء المحدثون إن هو إلا لعبة ألفاظ تلعب بها اللباقة الذهنية والمصادفة دورا كبيرا, وأن الغنائية البحتة مازالت هي وحدة العمل الشعري, فالمعنى البيتي لا يزال هو السند القوي للحكم على قيمة العمل الشعري. وفي مقابل هذا يؤكد محمود أمين العالم أن الشعر الجيد (هو الذي يجعل من تركيباته واقعا إنسانيا) ويقدم الحل الذي يريده لأزمة الشعر العربي عبر التخلص من البينية المقفلة, إما بالخلاص النهائي من القافية مع فتح البيت الشعري, وجعله يفضي إلى الأبيات الأخرى اقتفاء تركيبيا ولغويا, أو الإبقاء على القافية, لا كنهاية للترتيب اللغوي للبيت بل كجرس موسيقى). ويقرر العالم بأن هذا الذي يدعو إليه إنما هو عملية شكلية بحتة, ولكنه يرى ـ كما مر بنا ـ أن مجرد هذا التغيير الشكلي سيكون له أثر بالغ. ويختم مقاله بأن الاتجاه إلى الشعر الحر ـ ويقصد به هنا المصطلح الغربي ـ لا يزال سابقا لأوانه بالنسبة إلى الشعر العربي, ويمكن أن يعتبر بالنسبة إلى الشعر هدفا أخيرا يسعى إليه عن طريق تطوير حقيقي لوسائلنا التعبيرية. ومن الواضح أن الآراء التي قدمها (محمود أمين العالم) في هذا المقال هي أكثر نضجا وتكاملا مما احتوته مقدمة (شظايا ورماد) وربما كان ذلك ناجما عن أن العالم ـ على عكس ذلك ـ يتبنى منهجا واضحا هو المنهج الماركسي, فهو أقرب إلى فهم متكامل للعمل الشعري ووظيفته الحضارية, على الرغم من أنه اعتبر تجديد الشكل كفيلا بأن يوصل إلى تطور في طبيعة الشعر العربي حيث يلتقي هنا بشكل ما مع نازك الملائكة. إن العالم حين ينص على أن قيمة الشعر, هي بمقدار ما يأخذ عن الحياة ويعطي لها, فهو إنما يعبر عن فهم جدلي لمنطق الحضارة وقوانينها ولا نبالغ حين ندعي أن العالم ـ من بين النقاد العرب ـ أول من طرح في مقاله, وفي مرحلة مبكرة قضية الدلالات التي يحتويها العمل الفني وقضية تحويل الحدث الشخصي إلى حدث إنساني, والإشكال الجزئي إلى إشكال كلي, خلال الصياغة الفنية, وأنه كان أكثر النقاد توفيقا في تشخيص واقع الشعر العربي, وتأكيده على صفة الغنائية فيه وطابع الإنجاز اللغوي والبلاغي. وحين أشرت إلى خاتمة تلك الفترة الخصبة من حياة مندور بعام 1949 كنت أقصد أنه يحدد بداية فترة من الانقطاع عن ممارسة النقد. وفي هذه الفترة أصيب مندور بمرضه الذي لم تفارقه آثاره بعد ذلك, وتغير الواقع الاجتماعي في مصر بقيام ثورة يوليو 1952, ونزوعها شيئا فشيئا إلى الاشتراكية, وتطبيقها لما نادى به مندور في أوائل الأربعينيات, ولما سجن بسببه أكثر من مرة في عهد صدقي. وأتيحت لمندور ـ مع الثورة ـ فرصة التعرف الفعلي على العالم الاشتراكي ومعايشته في زيارات صححت له مفهومه عن الواقعية نسبيا, وجعلته يعيد النظر في منهجه السابق, حتى انتهى قبيل موته إلى الدعوة لنوع جديد من النقد أسماه (النقد الأيديولوجي).

محاولة نقدية متقدمة

ومع الثورة ـ أيضا ـ انتقل مندور إلى مرحلة أخرى من نقد الشعر, ركز فيها على دراسة الشعر المصري الحديث, ابتداء من ولي الدين يكن, وانتهاء بروافد (أبوللو) وحركة الشعر الحر. وذلك من خلال محاضراته التي ألقاها في معهد الدراسات العربية منذ إنشائه عام 1953. ولقد قدم في هذه المحاضرات محاولة لتأريخ الشعر العربي الحديث في مصر, والتمييز بين مراحله التاريخية واتجاهاته الفنية. وتبلورت هذه المحاولة في كتابه (الشعر المصري بعد شوقي) بحلقاته الثلاث التي فرغ من آخرها عام 1958. وهي محاولة متقدمة إذا قيست بغيرها من المحاولات التي سبقتها, لأن مندور حاول أن يعرض فيها المراحل الثلاث لتطور الشعر المصري الحديث (مرحلة البعث أو الإحياء ـ المرحلة الرومانتيكية بروافدها خاصة أبوللو ـ مرحلة الشعر الحر أو الواقعية كما أسماها مندور) مستندا إلى نوع من الوعي بالأصول الفكرية والاجتماعية لهذه المراحل. كما لاحظ أن الشعر العربي الحديث سار عبر مراحله الثلاث من التطور في خط بياني وثيق الصلة بتغير المجتمع نفسه. وهي ملاحظة أكدت عنده (أن تطور مفاهيم الشعر وأهدافه في بلادنا قد كان تطورا طبيعيا, وأنه إذا كان قد تأثر إلى حد ما بتيارات الفكر العالمي واتجاهاته, فإنه في حقيقته العميقة قد تم مجاراة لحلقات حياتنا العامة, وحياتنا الفنية المتتابعة, وكان كل اتجاه رد فعل طبيعيا للإسراف أو الانحراف بالاتجاه الذي سبقه على نحو ما تتطور الحياة كلها نتيجة لما يعتمل فيها من متناقضات), بل إن التخطيط الذي قدمه مندور في هذه المحاولة مازال معترفا به لدى الكثير من الدارسين الذين جاءوا بعده, والذين تابعوه في تصنيفه وتخطيطه ومنهجه على السواء. كما أن مندور أفرد ـ داخل هذه المحاولة ـ مجموعة من الشعراء بدراسات خاصة تتناول إنجازهم المؤثر داخل المراحل التاريخية التي أسهموا فيها, فعل ذلك في كتابه عن خليل مطران (1954) وإبراهيم عبدالقادر المازني (1954) وولي الدين يكن (1955) وإسماعيل صبري (1955). وبقدر ما طرحت هذه المحاولة طموح التخطيط للمراحل التاريخية والاتجاهات الفنية, طرحت سبيلا متميزا للنقد العربي الذي يتصدى للشعراء في أسلوب (يهدف إلى الوصف والتحليل والتعريف والتثقيف أكثر مما يهدف إلى التوجيه).

ومن الواضح أن تركيز مندور في أوائل الستينيات على المسرح, مع ما صاحب هذا التركيز من حوار مع الاشتراكيين والجماليين من النقاد, والتأثر بالتطورات الاجتماعية في مصر خلال هذه السنوات ـ كان يقوده إلى الواقعية الاشتراكية, وإلى الإيمان بأن للأدب بوجه عام وظيفة سياسية, متصلة باستخلاص القيم المحركة التي تكمن خلف مظاهر التطور الاقتصادي والاجتماعي والكشف عنها, مما يحوّل هذه القيم إلى قوة إيجابية فعّالة, تتجاوز بالفرد واقعه المتخلف, عندما تثري وعي المتلقي بالواقع, وتدفعه إلى تطويره وتغييره إلى واقع آخر, يقترب من نموذج التطبيق الاشتراكي الذي تصاعدت أعلامه في الستينيات الأولى.

وعندما يُطبّق مثل هذا الفهم لوظيفة الأدب بوجه عام على الشعر بوجه خاص, فإن التحليل النقدي لن يتوقف عند الصياغة التي تثير فينا بفضل خصائصها استجابات فنية وعاطفية, ندركها عن طريق الذوق, كما كان يفعل مندور في الأربعينيات, وإنما يمتد التحليل ليلمح أثر المضمون الكامن وراء هذه الصياغة, ومدى ما فيه من إيجابية الهدف التي تدعم حركة الفرد والمجتمع إلى الأمام, والمقصود بالهدف - في هذه المرحلة - ليس مجرد العلة الغائبة, أو مجرد التعبير عن المشاعر أو الفهم الوجداني للحياة, وإنما الهدف التقدمي الأبعد من الحاضر نحو العدل والخير والرخاء والسعادة للبشر أجمعين, بحيث يصبح الشعر الذي لا هدف له سوى الحاضر من قبيل الأدب الصدى (أي الأدب الذي يكتفي بتلقي أصداء الحاضر وتصويرها وتجسيدها, بينما يسمى الأدب الهادف بالأدب القائد, أي الأدب الذي يسعى إلى قيادة الإنسان والمجتمع نحو غايات أبعد من الحاضر, سواء أكان ذلك بتغير هذا الحاضر أو تحطيمه, أو بحث الخطى في الشوط الذي دخل فيه الإنسان أو المجتمع عند إيمان الكاتب بسلامة اتجاه هذا الشوط وجدواه في مزيد من السعادة والرخاء والخبر).

الوظيفة الاجتماعية للأدب

ويتصاعد هذا التركيز على الوظيفة الاجتماعية للأدب شيئاً فشيئاً, في تناسب طردي مع خطى المجتمع المصري في مجال التطبيق الاشتراكي الذي أصبح شعاراً رسمياً للقيادة السياسية, حتى يصل هذا التركيز إلى أقصى درجة من القوة والوضوح في أواخر أيام مندور, فيحدد لمنهجه النقدي اسماً جديداً مرتبطاً بالدور الأيديولوجي التقدمي الذي يمكن أن يقوم به الأديب - بوجه عام - في حياة المجتمع, بحيث نواجه إلى جانب مقولة (التعبير) التي سادت الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مقولة جديدة هي (الانعكاس), ويشي الاعتماد على المقولة الجديدة وإبرازها بمحاولة مندور استيعاب النظرات الجمالية للفلسفة الاشتراكية في الفن, والإفادة منها في تعديل مفهومه ومنهجه تعديلاً يتناسب مع خطى الواقع الاجتماعي والسياسي المتغير في مصر. وتهدف المقولة الجديدة إلى تآكيد (أن الأدب انعكاس لواقع الحياة وتطورها, ولكنه ليس انعكاساً سلبياً وإنما هو انعكاس إيجابي, فهو يرتد ثانية إلى تلك الحياة ليحث خطاها ويدفعها نحو مزيد من التطور والتقدم, وبذلك يأخذ من الحياة ثم يعطيها أكثر مما أخذ. وهذا هو المفهوم الديالكتيكي للفلسفة التشاركية بالنسبة للأدب, وهو يختلف عن المفهوم الميكانيكي للاشتراكية, الذي يعتقد أن التطور المادي للحياة هو الذي يطوّر الفكر, في حين أن الفكر لا يمهّد لهذا التطور ولا يسبقه, فهو يضع الفكر في موضع الذَنَب لا الرأس, بينما المفهوم الديالكتيكي يجعل للفكرة قوة فعّالة نحو التطور والتقدم, لا مجرد انعكاس آلي لذلك التطور).

مثل هذا الفهم للأدب ينقلنا من جانب إلى جانب آخر, أو من مرحلة إلى مرحلة أخرى. أعني أنه ينقلنا من جماليات التحليل اللغوي للقصيدة على أساس من الذوق, وبربط القصيدة بالحياة ربطاً ليس واضحاً كل الوضوح, إلى مشارف (نظرية الانعكاس) التي تتعامل مع الأدب باعتباره صياغة جمالية لموقف محدد يتخذه الشاعر من قضية الصراع الطبقي في المرحلة الأولى, كان مندور يناقش الصياغة الشعرية على أساس من الذوق فحسب, فيلاحظ ما في القصيدة من علاقات لها قدرة على إثارة وجدان المتلقي, إثارة يمكن الاختلاف فيها, لأن الذوق - وإن كان تاريخياً - ليس معياراً صارماً في الحكم, وليس أساساً موضوعياً تماماً في التفسير, فضلاَ عن أن هذا التركيز على الصياغة كان يقود - بوعي أو دون وعي - إلى التسليم بثانوية المعنى في الشعر وإلى الإعلاء من شأن الصياغة على حساب المضمون. أما في المرحلة الثانية, فإن المعنى - عند مندور - يصبح مرادفاً للموقف الذي يتخذه الفنان, وبالتالي يصبح هو أحد وجهي القيمة في القـصيـدة, أي أن الكشف عنه لا يمكن إلا أن يكون من خلال صياغة أو شكل. فلا وجود لموقف في القصيدة إلا في صياغة, هي ثاني الوجهين للقيمة التي لا تنفصل أو تنقسم في القصيدة, بعبارة أخرى, فالمصطلحات القديمة عن الألفاظ والمعاني والوجدان والانفعالات تغدو غامضة تماماً إزاء أي معيار نقدي يستند إلى نظرية الانعكاس, بل إن مصطلح الحياة نفسه يبدو موهماً تماماً, فتلك الحياة التي وصفها مندور في مرحلته الأولى بأنها سيل ذو اتجاه واحد تصبح تبسيطاً مخلاً للمعضلة النقدية التي تنتج عن علاقة الشعر بالواقع الاجتماعي. وما قاله مندور - من قبل - من أنه ليس هناك مناهج خاصة لحل كل شيء. وما أعلنه من كراهية للنقد النظري في الشعر, أو لكلمة Poetics, يبدو في تلك المرحلة الجديدة مناقضاً تماماً لمفهوم الانعكاس, إذ مادام الشعر صياغة لموقف محدد في الواقع الاجتماعي, فلابد أن يستند المنهج النقدي إلى نظرية شاملة للواقع الاجتماعي وللصياغة الجمالية في الوقت نفسه, بحيث يدرك كلاهما في ضوء قانون أساسي يصل ما بينهما, وفي ضوء قانون فرعي يميز الصياغة الجمالية عن جذرها الذي نشأت منه, ويبرز خصوصيتها المتميزة التي لا تجعلها مجرد انعكاس آلي لعلاقات الانتاج وأنماطه. وبذلك, فإن أي محاولة للنقد الفقهي أو اللغوي أو المنهجي أو باقي التسميات التي استخدمها مندور في الأربعـينيات, تغدو لا قيمة لها دون الاستناد إلى نظرية أساسية تفسّر علاقة الشعر بالواقع, واستقلاله عنه في الوقت نفسه, فتحدد للشعر وظيفة اجتماعية أولاً, وماهية تترتب على هذه الوظيفة ثانياً, وتبحث عن تحقق هذين الجانبين في أي قصيدة - على مستوى التطبيق - من خلال علاقاتها اللغوية, فتهدي بذلك - أي النظرية - خطى الناقد, وتساعد الفن على تحقيق مهمته وتطوير أداته, وتحمي الناقد والمتذوق من تقلبات الذوق التي يمكن أن تؤدي إلى أحكام متناقضة لا تثري وعي المتلقي بالفن, وبالتالي وعيه بالواقع.

الاشتراكية وصورتها الرسمية

وأغلب الظن أن محمد مندور لم يتمثل تمثلاً كافياً الأساس الديالكتيكي لنظرية الانعكاس, ذلك على الرغم من كل ما قام به من زيارات للعالم الاشتراكي, وما بذله - مخلصاً - في تعديل مفهومه للشعر ومنهجه النقدي تعديلاً يوائم الواقع المتغير الذي رحّب به وتعاطف مع قيادته بشكل أو بآخر, خاصة بعد أن حقق له هذا الواقع المتغير الكثير من أحلامه القديمة في الإصلاح, ومكّنه من الاطلاع على تجارب اشتراكية لم يكن متاحاً له من قبل الاطلاع عليها. إن مندور لم يتعرف من الواقعية الاشتراكية إلا على الصورة الرسمية التي نقلها إليه سيمينوف أو أوحت بها كتابات جوركي في الاتحاد السوفييتي, أما الصورة الأخرى الأكثر ثراء, والتي يمثلها شعر إيسينين وماياكوفسكي وباسترناك وروايات إيليا أهرنبورج وجهود جماعات الفنون التشكيلية داخل الاتحاد السوفييتي, وكتابات فيشر ولوكاش وجارودي وغيرهم خارج الاتحاد السوفييتي, فمن الواضح أن محمد مندور لم يعرف عنها - أو عن غيرها - شيئا ذا بال, وظلت الواقعية الاشتراكية - عنده - قرينة تفاؤل ساذج أو تشاؤم ساذج. وكأنه يكفي لكي يكون الشاعر واقعياً ألا يبحث في ذاته عن سر سعادته أو شقائه, بل يبحث عنهما في مجتمعه الفاسد, (وكأن هذا المجتمع الفاسد - يقول مندور - قد كان هو الصليب الذي شُدّ فوقه الشاعر, فخاطبه شاعرنا الشاب صلاح الدين عبدالصبور.. عندما قال:

يا لاهثا فوق الصليب يكاد يسألك الصليب
لم مت من دون الصليب

وهذا الفساد السياسي والاجتماعي ونور الإصلاح الذي أخذ يبدد ظلماته الخانقة هو ما نحس بانعكاساته عند براعمنا الشعرية حزينة شاكية حيناً, ومشرقة متهللة حيـناً آخر). ولا قيمة لمثل هذا التفاؤل أو التشاؤم بأي معيار واقعي أصيل. فالقضية في الواقعية الاشتراكية ليست قضية تفاؤل أو تشاؤم وإنما هي قضية وعي, قضية تصوّر أعمق لموقف المبدع من واقعه وكيفية صياغته لهذا الواقع جمالياً. وليس الموقف - من زاوية الواقعية الحقة - شيئاً مفارقاً للقصيدة, بل هو القصيدة نفسها, وكل ما نقوله عن المضمون أو الشكل إنما هو من قبيل التسبيط فحسب, بل ربما كان من الأجدر - في تقديري على الأقل - أن نكفّ عن استخدام هذين المصطلحين الموهمين.

الواقعية والالتزام

وتتجلى بساطة مفهوم مندور للفلسفة الاشتراكية للفن من زاوية أخرى, عندما يضع مندور كل نتاج الشعر الحر في سلة (الواقعية الاشتراكية), وعندما يفهم الواقعية الاشتراكية على أنها محض التزام برأي وتعبير عنه. قد نسأل ما هذا الرأي وما محتواه الاجتماعي الذي تحدد صياغته موقف الشاعر فيستحق نتاجه الانتساب إلى الواقعية الاشتراكية? هنا لا يجيب مندور بشيء محدد. سوى نوع من (الاجتماعية) الغامضة, و (هذه الاجتماعية لا تريد للشاعر أن يظل تابعاً منساقاً وراء الأحداث, بل تطالبه بأن يصبح مبشّراً بالمصير, وهادياً إليه, مستلخصاً سبيل المستقبل من اتجاهات الحاضر بعد أن استقامت تلك الاتجاهات إلى الطريق السوي). وبذلك تصبح الواقعية الاشتراكية من قبيل الارتباط بأحداث المجتمع, مع إضافة هيّنة مؤداها أن الواقعية الاشتراكية (لا تريد للشاعر أن يقتصر دوره على التعليق على أحداثنا الكبرى أو تسجيلها دون الالتزام برأي محدد فيها, بل تريد منه أن يصبح رائداً وقائداً نحو أهدافنا الكبرى التي حددتها فلسفة ثورتنا الجديدة. وهي تطالبه بأن يلتزم برأيه في شجاعة ولا ترى له عذراً في الهروب من مسئوليته). هذه الأهداف الكبرى التي يطلب مندور من الشاعر أن يصبح رائداً لها تتحول في التطبيق العملي إلى شيء فضفاض لا علاقة له بالواقعية الاشتراكية من قريب. حسب الشاعر - عند مندور - أن يتصدى لأحداث المجتمع ملتزماً رأيا منها في ضوء الأهداف الكبرى للثورة. ولكن طالما ظلت هذه الأهداف نفسها شيئاً غامضاً فضفاضاً, فإن مجرد الالتزام برأي في أحداث المجتمع - أي رأي - يصبح من قبيل الواقعية الاشتراكية. والنتيجة الطبيعية لذلك هي التوفيق العجيب الذي تتساوى في داخله حركة الشعر الحر مع المدرسة التقليدية في إطار واحد هو إنكار الذات أو الموضوعية الاجتماعية, (فالدعوة الجديدة السائدة اليوم عند شعرائنا الشبان قد تسمى بالدعوة إلى الواقعية أو إلى الموضوعية أو إلى الواقعية الاشتراكية أو إلى إنكار الذات, ولكنها في الواقع لا تخرج عن أن تكون الدعوة إلى الاتجاه الذي كان سائداً عند التقليديين, وإن أفسدوه عند التطبيق, فدعوة شبابنا المحدثين من الشعر تعتبر... دعوة إلى الموضوعية الاجتماعية وإن اختلفت عن الاجتماعية التقليدية في أهدافها ووسائلها). ومجرد التسوية بين حركة الشعر الحر والمدرسة التقليدية, فضلاً عن رد نتاج حركة الشعر الحر إلى الواقعية الاشتراكية, لا يعني إلا التبسيط المخل لمفهوم الواقعية الاشتراكية نفسها.

وليست مهمتي هنا أن أعرض مفهوم الواقعية الاشتراكية, حسبي أن أقول إن عدم التمثل الكامل لذلك المفهوم أدى بمندور إلى عدم إدراك المفارقة التي ينطوي عليها موقفه النقدي في مرحلة ما بعد الثورة, إن التناقض حتمي بين التسليم بالمفهوم الواقعي والاستمرار في الإيمان بالمقولات النقدية القديمة, التي صدر عنها إنجاز مندور في نقد الشعر طوال الأربعينيات. وبعبارة أخرى, إن تبنّي مفهوم الواقعية والاقتراب من مقولة الانعكاس يقتضيان إعادة النظر في كل ما سبق أن أكّده مندور, أي مراجعة مقولات الذوق والنظرية والمحتوى الاجتماعي للقيمة على مستوى المنهج النقدي, ومراجعة مقولة التعبير وكل ما يتفرّع منها من الإلحاح على الانفعال, وغموض علاقة الشاعر بالحياة, على مستوى مفهوم الشعر.

 

جابر عصفور