الشبكات العصبية آفاق جديدة للذكاء الاصطناعي بيهس فرعون

الشبكات العصبية آفاق جديدة للذكاء الاصطناعي

مع مطلع العقد الرابع من القرن الحالي بدأت أبحاث الذكاء الاصطناعي تطغى على اهتمام العلماء، وذلك بهدف إكساب الكمبيوتر القدرة على محاكاة النشاطات الفكرية البشرية والتصرف بطريقة يصعب تمييزها عن تصرف البشر . فإلى أين وصل هذا الاتجاه؟

أخذت أبحاث الذكاء الاصطناعي منذ نشأتها منحيين: الأول كان يطمح للوصول إلى الذكاء عن طريق فهم الطرق التي يستخدمها الإنسان في تفكيره ومحاكاته العقلية، وتحليلها تحليلا منطقيا ودقيقا، ثم برمجتها، وسميت هذه المدرسة بمدرسة الذكاء الاصطناعي التقليدي. أما المنحى الثاني فقد كان يرى أنه لا حاجة إلى برمجة النشاطات العقلية برمجة مباشرة، وإنما يكفي صنع كمبيوتر يماثل الشبكات العصبية للدماغ بنيويا وتشريحيا ووظيفيا وكهربائيا، أو محاكاتها برمجيا، ثم تعليمه وتلقينه ما يحتاج إليه من معلومات أساسية، لتصبح هذه الشبكة العصبية الاصطناعية قادرة على محاكاة نشاطات الدماغ، وأطلق على هذه المدرسة اسم مدرسة الشبكات العصبية -neu ral networks. وقد ظلت مدرسة الشبكات العصبية مهملة لسنوات طويلة، غير أن العلماء شرعوا أخيرا يولونها عناية خاصة، بعد أن اتضحت إمكاناتها الواسعة، لدرجة أن بعضهم ربط مستقبل الذكاء الاصطناعي بها. وترجم فكرة الشبكات العصبية إلى مبتكر علم التحكم الآلي Cybernetics البروفسور نوبرت واينر، الذي أجرى في الأربعينيات من هذا القرن دراسات خرج منها بنتيجة مفاداها أن هناك تشابها كبيرا بين أنظمة التحكم الآلي والجهاز العصبي عند الإنسان، وبالتالي من الممكن استخدام علم التحكم الآلي في محاكاة الدماغ البشري.. وقد حدت هذه الدراسات بالعديد من العلماء إلى محاولة محاكاة الذكاء البشري بهذه الطريقة. وكان أشهر هذه المحاولات وأبلغها أثرا الكمبيوتر المعروف باسم برسبترون Perceptron، اختصارا لعبارة الخلية العصبية المدركة Perceptive neuron، الذي صممه في عام 1960 العالم فرانك روز نبلات وكان البرسبترون هذا يتكون من 512 وحدة معالجة إلكترونية، تشبه الخلايا العصبية في عملها، تتصل مع 400 خلية كهرضوئية (الخلايا الكهرضوئية هي عناصر إلكترونية تحول الضوء إلى كهرباء)، إضافة إلى عدد من وحدات استجابة لإظهار نتائج المعالجة. ويستطيع البرسبترون أن يتعلم التمييز بين الأشكال المختلفة، كالحروف والأرقام مثلا، عن طريق عرض هذا الأشكال على الخلايا الكهرضوئية الحساسة، وتعديل بعض التوصيلات الكهربائية بين وحدات المعالجة، إلى أن يتم الحصول على النتائج المرجوة. وقد أعلن روز نبلات أن جهازه نواة لأجهزة أخرى مستقبلية بالغة التطور، من قبيل آلات تستطيع أن تقرأ وتسمع وتفهم ما تقرأ وتسمع، وروبوتات ذاتية الحركة والتوجيه، وآلات كاتبة تعمل بالأوامر الصوتية. إلا أن البرسبترون أخفق في تمييز بعض الحروف عندما تكون غير واضحة. وعلى الرغم من أن البرسبترون هو جهاز تجريبي، قد يفشل في تحقيق بعض وظائفه - سيما أن الإخفاق في التجارب الأولى هو أمر طبيعي وشائع في مجال البحث العلمي- فقد شن أنصار المدرسة التقليدية هجوما عنيفا على الشبكات العصبية مستغلين ذلك الفشل مبررا لانتقادهم، حيث قام العالمان مارفن مينسكي Marvin Minsky وسيمور بابرت Seymour Papert، وهما من أعلام المدرسة التقليدية، بإصدار كتاب في عام 1969، أسمياه البرسبترونات Perceptrons، انتقدا فيه نظرية الشبكات العصبية، وقدما أدلة رياضية على قصور البرسبترون وعدم جدواه. وقد كان لهذا الكتاب الأثر الكبير في إطفاء جذوة حماس علماء الشبكات العصبية، وتحويل التمويل الحكومي الذي كان مخصصا لأبحاثهم إلى أبحاث المدرسة التقليدية، الأمر الذي أدى إلى غلبة المدرسة التقليدية على أبحاث الذكاء الاصطناعي لأكثر من 15 عاما. بيد أن الشبكات العصبية عادت مرة أخرى إلى دائرة الضوء في الثمانينيات بعد أن حالفها النجاح في مجالات تعثر فيها الذكاء الاصطناعي التقليدي.

الشبكات والعصبية والدماغ

استوحى العلماء الخطوط العريضة لبنية الشبكات العصبية من الدماغ البشري، إذ يتكون الدماغ من خلايا عصبية neurons هي عناصر معالجة بسيطة، تأتيها الإشارات العصبية عن طريق زوائد شجرية dendrites ، وتخرج منها عبر المحاور العصبية axons ، وتسمى نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية نقاط الاشتباك العصبي synapses. وبالمثل تحتوي الشبكات العصبية الاصطناعية على وحدات معالجة بسيطة (تقابل الخلايا العصبية) ، لها وصلات دخل (تقابل الزوائد الشجرية) ، ووصلات خرج (تقابل المحاور العصبية) ، وتتصل هذه الوحدات مع بعضها البعض عن طريق نقاط اتصال بينية (تقابل نقاط الاشتباك العصبي) ويخصص لكل من نقاط الاتصال "وزن weight، هو عبارة عن قيمة عددية تعبر عن مدى سماح نقطة الاتصال لعبور الإشارة الكهربائية التي تجتازها فإذا كانت هذه القيمة تساوي (+1)، فإن الوصلة تسمع للإشارة بالعبور، أما إذا كانت مساوية لـ (-1) فإنها تمنع أو تعيق مرور الإشارة. وتقوم الخلايا العصبية الاصطناعية بجمع قيم الإشارات الكهربائية التي تصل إليها من زوائدها الشجرية، فإن كان المجموع أقل من حد معين، تبقى الخلايا العصبية خاملة، وإلا فإنها تستثار وترسل إشارة كهربائية عبر محاورها العصبية إلى خلايا أخرى تقوم بدورها بالعملية نفسها، وهكذا دواليك حتى يتم الوصول إلى نتيجة المعالجة النهائية.

إن محاكاة الدماغ بكامل وظائفه هو أمر بالغ الصعوبة، إذ يتألف الدماغ البشري من عشرات المليارات من الخلايا العصبية المترابطة مع بعضها البعض بعشرات التريليونات من الوصلات، وما زالت التكنولوجيا عاجزة عن إنتاج جهاز يماثل الدماغ في تعقيده وقوته. لهذا السبب تصمم الشبكات العصبية عادة لأداء وظيفة محددة يكفيها بضع مئات أو بضعة آلاف من الخلايا العصبية.

وتتكون الشبكات العصبية الحديثة من عدة طبقات، تتولى إحداها مهمة تلقي المعلومات المطلوب معالجتها في الوسط الخارجي وتسمى بطبقة الدخل input layer، ويتم إخراج نتائج المعالجة إلى الوسط الخارجي عبر طبقة أخرى تدعي طبقة الخرج output layer، أما معالجة المعلومات فتتم ضمن طبقة أو أكثر تسمى بالطبقات المخفية hidden layers .

تطبيقات الشبكات العصبية

شهدت السنوات القليلة الماضية توسعا ملحوظا في تطبيقات الشبكات العصبية المنتشرة تجاريا على نطاق واسع. فبعد أن كانت تلك التطبيقات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أضحت الآن تعد بالمئات. وتستخدم الشيكات العصبية اليوم في مجالات متعددة مثل اكتشاف المتفجرات المخبأة في حقائب السفر، وتخليق الكلام، وفهم الكلام المنطوق، والتحكم بسير العمليات الإنتاجية في المعامل، والتنقيب عن النفط، والتنبؤ بأحوال أسواق الأسهم والسندات المالية، وغير ذلك الكثير ونورد فيما يلي بعضا من أهم هذه التطبيقات:

1 - اكتشاف الاحتيال باستخدام بطاقات الائتمان: يعاني العديد من المصارف في العالم مشكلة الاستخدام غير المشروع لبطاقات الائتمان، نظرا لما يترتب على ذلك عن خسائر مالية فادحة وتهديد لسمعة تلك المصارف ومساس بثقتها الائتمانية. وهذا ما دفع معظم المصارف إلى استخدام أنظمة شبكات عصبية خاصة، تقوم بتحليل طرق استخدام بطاقات الائتمان والظروف المحيطة بها، من أجل اكتشاف الحالات التي يحتمل أن تكون غير مشروعة. وقد نجحت هذه الطريقة بالفعل في الجد من هذا النوع من الجرائم.

2 - تمييز الرموز المطبوعة: يعتبر تمييز الرموز المطبوعة والمكتوبة من أهم تطبيقات الشبكات العصبية. وتستخدم الأنظمة التي تقوم بهذه الوظيفة، والتي تسمى بأنظمة تمييز الرموز بصريا Optical character Recognition، في تطبيقات لا حصر لها، يأتي في مقدمتها الفرز الآلي للرسائل والشيكات المصرفية، وقراءة الكتب والمجلات لضعاف البصر وفاقديه، وترجمة الكتب من لغة إلى أخرى، وتحويلها إلى نصوص يمكن تخزينها ومعالجتها في الكمبيوتر.

3 - تطبيقات طبية: تزايد اعتماد العلوم الطبية على الشبكات العصبية في الآونة الأخيرة تزايدا كبيرا، واستفادت منها في مجالات عديدة لعل من أهمها الدراسات المتعلقة بتسلسل الأحماض الأمينية amino acids ضمن البروتينات، وتسلسل النيوكليوتيدات nucleotides ضمن تسلسل الأحماض النووية RNA و DNA ، وتحليل بعض المخططات الكهربائية الطبية مثل مخططات عمل القلب ECG ومخططات موجات الدماغ EEG، وتشخيص ودراسة أمراض الرئة والكبد، والتنبؤ بالتأثيرات الجانبية المحتملة لبعض طرق العلاج أو لاستخدام بعض الأدوية، إضافة إلى أنظمة تحليل الصور الطبية المتطورة التي تستخدم الشبكات العصبية لاكتشاف الخلايا المصابة بالسرطان.

4 - التحكم بجودة تصنيع المنتوجات: كانت عمليات مراقبة المنتوجات أثناء تصنيعها تتم حتى عهد قريب بالنظر وبصورة يدوية، لكنها بفضل الشبكات العصبية وقابليتها للتعلم، باتت الآن تتم على نحو آلي. وتقدم الشبكات العصبية اليوم خدمات جليلة لصناعات عديدة، فهي على سبيل المثال تراقب مستويات الملوثات الناتجة عن بعض مراحل التصنيع في الصناعات الكيميائية، وتتحقق من خلو المنتوجات من أي عيب أو عطل في صناعة السماعات والمجاهير الصوتية والصناعات الألكترونية،

5 - صناعة السيارات: أجرت في الآونة الأخيرة بعض شركات صناعة السيارات، دراسات وتجارب حول إدخال الشبكات العصبية في مجال السيارات التي تنتجها، وذلك لزيادة مردودها وتخفيف استهلاكها للوقود وجعلها أكثر أمانا. وقد أعطت هذه الدراسات نتائج طيبة، وخصوصا فيما يتعلق باستخدام الشبكات العصبية في التحكم باحتراق الوقود، وتشخيص واكتشاف أعطال المحرك بصورة آلية، والسيطرة على المكابح سيطرة تامة، والتحكم بالنوابض التي تحمل السيارة على محاور العجلات، والتحكم بسرعة المحرك عندما يدور دون أن يقوم بأي عمل مفيد.

6 - تطبيقات عسكرية: تتميز الشبكات العصبية بسرعتها الكبيرة في اتخاذ القرارات، لذلك فهي تستخدم في عدد كبير من التطبيقات العسكرية، يأتي في مقدمتها أنظمة التوجيه الآلي للصواريخ والقذائف وتفجيرها. وهناك أيضا دراسات بشأن استخدام الشبكات العصبية في أنظمة القيادة الآلية للطائرات الحربية عند اشتباكها مع الطائرات المعادية، حيث تقوم الشبكات العصبية بتحليل حركات الخصم، وتوقع ردود أفعاله التالية والاستعداد لها.

ولا يستطيع الذكاء الاصطناعي التقليدي أن يحاكي أي نشاط من نشاطات الإنسان الفكرية ما لم تكن آليته مفهومة وواضحة المعالم، كي يمكن تحليلها منطقياً إلى خطوات جزئية، أو خوارزميات algorithms ، يمكن برمجتها. وقد أدى ذلك إلى تعثر الذكاء الاصطناعي التقليدي كثيراً في محاكاة القدرات العقلية غير الواعية، التي ما زالت غامضة التفسير حتى الآن، مثل تحسّن أداء الإنسان مع زيادة الخبرة، والتعرّف على الأشخاص عند سماع أصواتهم أو رؤية وجوههم، والتفريق بين الإنسان الذكر والأنثى بمجرد رؤية الوجه. إلا أن الشبكات العصبية تغلّبت على هذا النقص في المعلومات، واستطاعت تقليد النشاطات الفكرية غير الواعية، دون الحاجة إلى تحليلها. ويمكن تلخيص مبدأ التعلم عند الشبكات العصبية بأنه عندما تُستثار خليتان عصبيتان معاً فإنهما تسببان تغيراً في وزن الوصلة التي تربط بينهما، فيصبح من السهل استثارتهما في المستقبل عندما تتعرضان لمثير مشابه. وبالتالي فإن مجمل هذه التغيرات في أوزان نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية يمثل المعلومات التي تكتسبها الشبكات العصبية عندما تتعلم، والتي تستطيع استرجاعها عندما تتعرض لظروف مماثلة لتلك التي أكسبتها هذه المعلومات. ومن هذا المنطلق تقوم الأوزان في الشبكات العصبية مقام البرامج في أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدي، لكن مع فارق جوهري هو أن الشبكة العصبية هي التي تولد وتعدّل هذه الأوزان بنفسها عندما تتعلم، وبذلك فهي توفر على الإنسان التحليل والبرمجة للوظيفة التي يريد من الشبكة القيام بها، والتي ربما كانت غير قابلة للتحليل بسبب عدم وضوح أبعادها الكاملة.

تتعلم الشبكات العصبية حل المسائل انطلاقاً من الأمثلة. وهناك طرق عديدة لتعليم الشبكات العصبية، لكن أشهر هذه الطرق وأكثرها استخداماً هي طريقة الانتشار الراجع للخطأ -error back propa gation. وفي هذه الطريقة تُزوَّد الشبكة بمجموعة أمثلة حول المعلومات المطلوب منها تعلمها، ثم تقارن نتائج معالجة الشبكة لكل مثال مع النتائج المتوقعة. فإذا لم يظهر أي فرق بين النتائج، تكون الشبكة قد تعلمت المثال بنجاح. لكن إن وُجد اختلاف تُولَّد إشارة كهربائية تسمى إشارة الخطأ، تُغذَّى بها الشبكة لتقوم بتعديل أوزان نقاط الاتصال بين خلاياها العصبية بحيث ينعدم الخطأ أو يقل قدر الإمكان.

ولا تستطيع الشبكات العصبية في الواقع أن تنافس الذكاء الاصطناعي التقليدي في بعض المجالات، كالقيام بعمليات حسابية دقيقة ومحددة الخطوات، إلا أن هناك عددا كبيراً من العمليات العقلية التي تسهل محاكاتها كثيراً عند استخدام الشبكات العصبية، وتنتمي مثل هذه الفاعليات عادة إلى فئة النشاطات الغامضة التي لا يمكن توصيفها توصيفاً دقيقا. أضف إلى ذلك أن الشيكات العصبية قادرة على التكيف وتعديل أدائها بما يتوافق وتغيرات ظروف العمل، وهذه القدرة غير موجودة في أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدي. لهذا كله لا يمكن الاكتفاء بالشبكات العصبية أو بالذكاء الاصطناعي التقليدي فحسب، وإنما ينبغي الجمع بين مزايا التقنيتين للحصول على أفضل النتائج. وقد تحققت نجاحات كبيرة في هذا المضمار بالفعل، مما شجع العلماء على السعي الحثيث لتحقيق المزيد من التقدم. لكن مما لا شك فيه هو أن الطريق ما زال طويلاً أمام العلماء للوصول إلى الحلم الذي ما فتئ يراود مخيلة الإنسان منذ أقدم العصور.... الآلة الذكية.

 

بيهس فرعون

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




تترابط الخلايا العصبية على نحو بالغ التعقيد والتداخل





الشبكات العصبية هي ثمرة محاولة محاكاة الدماغ البشري





تستخدم الشبكات العصبية في أنظمة تحليل الصورة الطبية





رسم مبسط يوضح القسام الرئيسية للخلية العصبية





تجرى حاليا دراسات بخصوص استخدام الشبكات العصبية في أنظمة القياة الآلية للطائرات الحربية