العرق المديني ثاني وباء يتم استئصاله أحمد تايح

العرق المديني ثاني وباء يتم استئصاله

قليل من الناس من سمع بمرض العرق المديني. فهذا المرض الغريب يصيب المجتمعات الريفية المعزولة والبعيدة عن مراكز التحضر والمحرومة من مصادر مياه الشرب النقية، حيث يعتمد سكانها على مياه البرك ومصادر المياه المكشوفة والضحلة. وتكمن غرابة هذا المرض في أنه يظهر على شكل دودة حليبية اللون تخرج من تحت جلد الإنسان المصاب وقد يصل طولها إلى حوالي المتر وقطرها حوالي ملليمترين. إن خروج الدودة التدريجي من جسد المصاب يكون مدعاة لخوفه وجزعه إضافة إلى ما يسببه له من آلام شديدة.

لقد كان مرض العرق المديني إلى أمد غير بعيد الأحمر وايران والاتحاد منتشراً حول البحر الأحمر وإيران والاتحاد السوفييتي السابق وزال عنها نظراً للتوسع في مشاريع مياه الشرب. لا تزال هنالك إصابات في جنوب السودان واليمن. وهو لايزال يهدد ملايين السكان في غرب إفريقيا الاستوائية وفي بعض ولايات الهند.

ازداد الاهتمام والوعي العالميان بمرض العرق المديني نتيجة للعقد الدولي لمياه الشرب وإصحاح البيئة (1980 - 1989) الذي أعلنته منظمة الأمم المتحدة. وقد كان الهدف الرئيسي هذا العقد هو محاولة تكثيف جهود المجتمع الدولي للمساعدة في تأمين مياه الشرب النقية ونظافة البيئة لجميع سكان الدول النامية، وخاصة سكان الأرياف، للتقليل من أخطار الأمراض التي تنتقل عن طريق المياه، كما هو الحال بالنسبة لمرض العرق المديني. وتم تأكيد ضرورة استغلال ذلك العقد لاستئصال مرض العرق المديني ليصبح المرض الثاني بعد الجدري الذي يتم استئصاله بالجهود المبذولة دولياً، فالقضاء على هذا المرض يُعد مؤشراً للتأثير الإيجابي لتوفير مياه الشرب النقية على الصحة العامة. وقد حدد عام 1995 هدفا زمنيا لاستئصال هذا المرض. إلا أن هذا الهدف لم يتحقق نظراً لأن كثيراً من الدول لم تستطع القضاء على المرض لأسباب متعددة منها الحروب الأهلية. ولكن هنالك أملاً كبيراً في أن تستطيع الجهود الدولية القضاء على المرض قبل أن يحل القرن الحادي والعشرون.

مساهمة العلماء العرب

مرض العرق المديني أو دودة المدينة (نسبة إلى المدينة المنورة)، من أقدم الأمراض الطفيلية التي عرفها الإنسان ومن أكثرها إثارة للتعجب. ولقد احتل المرض حيزاً كبيراً في تاريخ الطب القديم، وهذا ما يفسر الأسماء الكثيرة التي أطلقت على الدودة (دودة فرعون، دودة المدينة، دودة جيني). إذ يعتقد أنه هو الذي ذكر في العهد القديم من الكتاب المقدس والذي أصاب بني إسرائيل أثناء تنقلهم حول منطقة البحر الأحمر والذي كان يعالج بلف الدودة على عود وسحبها تدريجياً. ويعتقد بعض الباحثين أن الرمز الطبي الذي يتمثل بحية ملفوفة على عصا مأخوذ من الطريقة التقليدية لعلاج العرق المديني. كما أن آثار الدودة اكتشفت حديثا في مومياء للفراعنة يعود تاريخها إلى أكثر من ألف سنة قبل الميلاد. ويمكن أن يكون ذلك سببا في تسمية الدودة بدودة فرعون. ويذهب بعض المؤرخين إلى أبعد من ذلك، حيث يعتقد أن المرض ذكر في ألواح الآشوريين المأخوذة من مكتبة الملك آشور بانيبال في نينوي التي يعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد، مما يوحي بأن المرض كان منتشراً في بعض مواطن الحضارات القديمة في شرق البحر المتوسط.

إن طبيعة مرض العرق المديني الذي يسبب آلاماً مبرحة وطول الدودة الهائل قد أحدثا انطباعاً قوياً عند الفيزيائيين الإغريق الذين وصفوه بتفصيل دقيق، برغم أن المرض ربما لم يكن منتشراً في اليونان. جالينوس الذي مارس الطب في روما في سنة 170 ميلادية لم ير بنفسه أية حالة ومنه قابل بعض المصابين السابقين بالمرض. وقد سمي المرض دراكونيتاسيس أي مرض التنين (Dracontiasis). أغاثراسيس الفيلسوف والمؤرخ من سنيدس الذي عاش في سنة 140 قبل الميلاد كان أول من أشار إليه بصورة واضحة أنه منتشر حول البحر الأحمر. كما أن بلاتوس ذكر أنه منتشر في مصر والهند وفصل أعراضه وأسبابه بإسهاب.

وصف الدودة وطريقة معالجتها كثير من الفيزيائيين العرب القدامى كالرازي والمجوسي وابن سينا وقد عدوا الدودة عرقا من عروق الجسد، إلا أنهم اعترفوا بأن لهذا العرق حركة دودية. الرازي وصف العرق المديني في كتابه "الحاوي في الطب". يقول الرازي: "العرق المديني يتولد بالهند ومصر ويعرض في الأعضاء العضلية مثل المعصمين والساقين والفخذين... وكونها تحت الجلد تتحرك حركة بينة، حتى إذا أزمنت ينتفخ الموضع الذي يكون فيه هذا العرق وينتفخ الجلد ويخرج منه طرف العرق. فإن مد عرضت عنه أوجاع شديدة وخاصة إذا انقطع ولذلك يعلق بعض الناس بطرفه رصاصة وتلفه عليها لئلا ينقطع ويخرج منه قليلاً قليلاً بثقل الرصاص حتى يخرج عن آخره ويسقط. ويعصر العضو وينطل بالماء الحار ليسهل خروجه".

كما ذكره علي بن العباس المجوسي في كتابه "كتاب كامل الصناعة الطبية (الملكي)" وهو يفضل العلاج الجراحي قبل أن تخرج الدودة وذلك بفتح الموضع الذي يظهر فيه رأس العرق ثم يمد رأس العرق مداً رقيقاً إلى أن يخرج وبعدها يتبع ذات طريقة الرازي بربطه بالرصاص حتى ينسحب رويداً رويداً.

وكان ابن سينا، الطبيب والمفكر العربي قد وصف الدودة وأعراض المرض بشكل تفصيلي حتى أن كثيراً من الباحثين يسمون الدودة باسم دودة ابن سينا الخيطية. وقد انتقد ابن سينا جالينوس، الطبيب اليوناني المشهور، في وصفه للدودة، معللا ذلك بأن جالينوس لم يرها. وقد وصفها بشكل مفصل واقترح طرقاً لعلاجها في كتابه المعروف "القانون في الطب". ويعتقد أن هذا الاسم - العرق المديني - كان شائعا في منطقة شبه الجزيرة العربية في ذلك الزمان. وترجم الاسم إلى اللاتينية وعرف بدراكانكولوس مدينينسيس ( Dracunculus medinensis ) أي التنين المديني. وهذا هو الاسم الطبي المستخدم حالياً للدودة.

وقد تأثر الباحثون كثيرا بوصف ابن سينا للدودة حتى أن فيلشيس Velschius الذي عاش في ستراسبورغ ألف كتاباً في عام 1674 باللغة اللاتينية خصصه لمقولة ابن سينا في العرق المديني ولأصل الاسم العربي.

المرض وانتشاره

يبدأ المرض ببثرة تظهر عادة أسفل الساق، سرعان ما تكبر وتنثقب وتبدأ الدودة بالظهور. يصاحب خروج الدودة آلام مبرحة حارقة مما قد يدفع المصاب إلى غمس التقرح بالماء البارد، كماء البرك والحفائر المنتشرة بكثرة في المناطق الاستوائية، للتخفيف من شدة الألم، وهذا ما يحرض الدودة لإطلاق الاف اليرقات المجهرية. وعندما تصل هذه اليرقات إلى المياه الحاوية على براغيث الماء، سايكلوب، تبتلعها براغيث الماء التي تلعب دور المضيف الوسيط. ولقد كان اكتشاف دور برغوث الماء مضيفا وسيطا بواسطة فيدشينكو الروسي في عام 1870 نقطة تحول كبيرة في تاريخ الطب الحديث. وإذا صادف أن شرب إنسان هذا الماء الحاوي على براغيث الماء المصابة، فعند وصول برغوث الماء إلى المعدة، يضمحل بفعل العصارة المعوية، بينما تتحرك اليرقات وتنشط وتقوم باختراق جدار المعدة وتنتقل إلى عضلات الجسم. يستغرق نموها الكامل حوالي السنة، تهاجر خلاها إلى أن تصل إلى الأجزاء السفلى من الجسم فتظهر البثرة وتبدأ الدودة بالخروج، وتعود دورة الحياة من جديد. وقد يستغرق خروجها النهائي من الجسم حوالي ثلاثة أشهر يكون فيها المصاب معاقا ويعاني آلاماً مبرحة قد تمنعه من مغادرة الفراش. ولا يعد المرض مميتاً، إلا أن تلوث التقرح قد يؤدي إلى الإصابة بالتيتانوس.

إن عملية لف الدودة حول عود صغير، كعود ثقاب، وسحبها عدة سنتيمترات كل يوم هي الطريقة التقليدية التي كانت تستخدم منذ أكثر من ألفي سنة ولا تزال تعتبر جزءاً من العلاج الحديث. وبرغم التقدم العلمي والطبي الحالي فلا يوجد دواء حديث فعال يساعد على استخراج الدودة أو القضاء عليها قبل خروجها، كما أنه لم يثبت وجود أي مناعة طبيعية أو صناعية تقي تكرار الإصابة بالمرض. وقد يصاب المريض الواحد بأكثر من دودة. وعادة ما تظهر الدودة في الأطراف السفلى كالقدم والساق فتشل حركة الإنسان. وليس من المستغرب أن يجد الزائر لقرية إفريقية مصابة، معظم أفرادها راقدين في أكواخهم لا يستطيعون المشي بسبب إصابتهم بالمرض أو رؤيتهم يسيرون متكئين على العصي بسبب خروج الدودة من أطرافهم السفلى.

لا يقتصر تأثير المرض على الآلام التي يسببها للأفراد، بل قد يتعدى ذلك إلى خسائر اقتصادية وثقافية واجتماعية قد يمتد أثرها إلى المجتمع عامة. إن إصابة بعض أفراد الأسرة بالمرض يسبب عجزهم عن القيام بالعمل الزراعي الذي يتزامن مع ذروة النشاط الزراعي. وهذا ما قد يؤثر في كمية المحصول وبالتالي يؤثر سلبا في تغذية الأطفال، خاصة الأقل من خمس سنوات من العمر. كما أن إصابة الأم بالعرق المديني تعيقها عن رعاية أطفالها والعناية بنظافتهم. كما أن إصابة أطفال المدارس بالمرض قد يعيقهم عن استمرار ذهابهم إلى مدارسهم. وعادة ما يشعر المصابون بالكآبة والعزلة لعدم مقدرتهم على القيام بالنشاطات الاجتماعية التي لها أهميتها في حياة أهل الريف.

جهود دولية لاستئصال المرض

لا شك أن الجهود التي تبذلها المنظمات الدولية كمنظمات الأمم المتحدة، وكذلك الاهتمام الذي أولته الدول التي يستوطن فيها المرض خلال العقد الدولي للمياه، بدعمها لمشاريع مياه الشرب في المناطق الريفية، كان له تأثير كبير في التقليل من نسبة الإصابات بمرض العرق المديني على نطاق دولي. كما أن تبني استراتيجية الوقاية من المرض وتفضيلها على العلاج وكذلك نشر الوعي الصحي والثقافة الصحية بين الأفراد والمجتمعات قد أعطى ثماره وأدى إلى انخفاض ملموس في نسبة الإصابات في كثير من الدول في إفريقيا الاستوائية وشبه القارة الهندية خلال السنوات القليلة الماضية، وزال المرض كلياً من باكستان. ونخص بالذكر منظمة الصحة العالمية ومنظمة "اليونيسيف" والمنظمات الشقيقة الأخرى التي تهتم بمياه الشرب والصحة العامة. وكان لتلك المجهودات تأثير كبير في زيادة المساعدات التي تقدمها شعوب وحكومات الدول الغربية لاستئصال هذا الجرح الذي عانت منه البشرية منذ آلاف السنين. وتعتمد استراتيجية السيطرة على المرض تأمين المياه النقية الصالحة للشرب باستخدام البدائل ذات التقنية البسيطة، كالمضخات اليدوية المركبة على الآبار الانبوبية، وكذلك الآبار العادية المحفورة يدوياً للمناطق الريفية المعزولة. أما على نطاق الأسرة، فإن تصفية مياه الشرب بقطعة من الثياب القطنية النظيفة والرقيقة، أو استخدام المصافي المصنوعة من النايلون تعد من الطرق السهلة والمضمونة والرخيصة للوقاية من المرض. هذه هي الاستراتيجية الرئيسية المستخدمة حالياً لاستئصال المرض في المناطق الموبوءة. وتلعب الثقافة الصحية التي ينشرها العاملون الصحيون المحليون واللجان الصحية في القرى الموبوءة دوراً كبيراً في إقناع السكان بالتقيد بتلك الخطوات الوقائية. ولا شك أن كثيراً من المهتمين بالصحة العامة والباحثين يأملون في القضاء على العرق المديني قبل نهاية هذا القرن. وأن أولئك الذين سوف يمد الله في أعمارهم إلى عام 2000 ربما سيدركون، إذا تحققوا من القضاء على مرض العرق المديني، أن الجهود التي تبذلها البشرية وتعاون المجتمعات للقضاء على الأمراض لا بد أن يكون مصيرهما النجاح بإذن الله.

إن كل هذه الجهود تبشر بأن استئصال بعض الأمراض لم يعد حلماً صعب المنال، وأن استئصال مرض الجدري كان فاتحة عهد جديد يكون القضاء الكلي على بعض الأمراض أمرا غير مستبعد. وماذا بعد الجدري والعرق المديني؟ هل يكون القضاء على شلل الأطفال الهدف الثالث للمجتمع البشري. من يدري فقد يعيش أحفادنا أو أحفاد أحفادنا في يوم من الأيام في عالم خال من الأمراض. وربما يكون هذا اليوم قريبا جداً.

 

أحمد تايح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الخوض في مياه البرك، والشرب من المياه المكشوفة سبب انتشار مرض العرق المديني





كثير من المصابين بالعرق المديني يسيرون مستندين على عصا





عرقان مدينيان يجري سحبهما من قدم مريض وفي معظم الحالات لا يمكن سحب أكثر من 3 إلى 4 سم في اليوم